مقالات

كيف تناول البرقاوي مسألة العنف في المجتمع؟

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

     قرأت بعناية فائقة مقال المفكر العربي الدكتور احمد برقاوي على صفحته في فيس بوك، والموسوم بـ “جيل العصا والفلقة”، الذي أظهر من خلاله قدرة متميزة في تحليل ظاهرة العنف، التي أصبحت حديث الناس في المجتمع العربي عموماً، والمجتمع السوري بشكل خاص. وقبل أن أخوض في مناقشة المقال لبيان ما له وما عليه، لا بد من الإشارة إلى أن كاتب المقال هو أستاذ جامعي، ورئيس قسم الفلسفة في آداب جامعة دمشق سابقاً، ويُعدّ قامة فكرية وعلمية لم يعدّ لدينا الكثير منها في المجتمع العربي، فقد شكل البرقاوي من خلال كتبه وابحاثه ومقالاته، وانتصاره لثورات الربيع العربي علامة فارقة في فضاء الجامعات العربية عموماً.

     كتب البرقاوي كتبًا عديدة لعل أهمها: كتاب “الأنا” وكتاب “أسرى الوهم”، وله العديد من الأبحاث العلمية المحكمة والمنشورة في أوعية ثقافية وعلمية مرموقة. كما كتب مئات المقالات التي تعكس في مجملها فلسفته نحو الحياة والدين والثقافة والطبيعة الإنسانية بطريقة فلسفية بحتة، ولكن ما لفت انتباهي في كل هذه المقالات أثناء متابعتي له خلال سنوات الثورة السورية مقالين اثنين هما: مقال “المدرسة والسياسة” وكنت قد تعرضت له في مقال سابق، والمقال الذي بصدد الكتابة عنه اليوم وهو “جيل العصا والفلقة”. وجاء انتباهي لهذين المقالين من أن المفكر البرقاوي نادراً ما يتعرض في مقالاته لقضايا تربوية كبيرة، وإن كانت معظم مقالاته تحمل في مضامينها فكراً تربوياً تنويرياً لا يقل أهمية عن مقالات فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، والتي نحن بحاجة ماسة اليوم لتفكيكها وتحليل مضامينها، وتوظيفها في رسم ملامح لفلسفة تربوية عربية توجه أنظمة التعليم في الوطن العربي.

     وبالعودة إلى مقال “جيل العصا والفلقة”، فقد ابتدأ البرقاوي مقاله في بيان الارهاصات الأولى لظاهرة العنف، التي رصدها منذ دخول الأطفال إلى المرحلة الابتدائية، مروراً ببقية مراحل التعليم، وصولاً إلى المؤسسات التي سوف يلتحق بها الأطفال الذين تعرضوا للعنف مستقبلاً، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية. يقول البرقاوي:

“كان المعلم يقتني دائماً عصا لمعاقبة التلاميذ الأطفال لأي تصرف يصدر عنهم ولا يستسيغه، ثم ينهال عليهم ضرباً ولطماً إذا لم يكتبوا الواجب، أو ظهر له أنهم كسالى، أو أنهم لا يحفظون جدول الضرب أو لا يستطيعون حل معادلة بسيطة”. ثم يعرض لحالات كثيرة من العنف التي تؤدي بالتلميذ إلى عقوبة “الفلقة”، فيقول: “الصقيع يجتاح القرية في شتاء قارس، لم تكن هناك وسائل تدفئة تقي التلاميذ شر البرد، وفي اجتماع الصباح في أثناء تحية العلم إذا تحرك بعض التلاميذ أو همس تلميذ في أذن تلميذ أخر، فتكون النتيجة إخراج هؤلاء التلاميذ الذين لا تتجاوز أعمارهم التاسعة من العمر لممارسة العنف عليهم بأسلوب “بالفلقة”، حيث يتم ذلك أمام حشد التلاميذ الذين ينفخون على أيديهم لتدفئة أصابعهم ببخار الفم”.

     وبعد أن رصد البرقاوي حالات كثيرة من ممارسة العنف، والتي اخترت منها الحالتين السابقتين، انتقل إلى تحليل ماهية عقوبة الفلقة. يقول: “إن الفلقة ما كانت تتم إلا في مجتمع ذي ذهنية تجيز عقوبة الجسد، فلم يكن أهل القرية يعترضون على عقوبة أبناءهم بهذه الطريقة أو بأي طريقة أخرى، فالأهل أنفسهم كانوا يعاقبون جسد الأبناء بالضرب والضرب المبرح دون رأفة بالطفولة، فسلطة الأب أو الأم تقوم على حقهم بالضرب، فيكون الرادع للسلوك غير المرغوب فيه لدى الأبناء الخوف من العقوبة الجسدية”.

     غير أن ما يميز مقال “جيل العصا والفلقة” هو توضيح كاتبه لبنية عقوبة الفلقة. يقول البرقاوي: “تتكون بنية الفلقة من العناصر المتشابكة الآتية: الذهنية المؤسسة، المعلم وعصاه، التلميذ المعاقب، وزملاء التلميذ الذين يساعدون المعلم في رفع رجلي زميلهم”. ثم يذهب إلى وصف المعلم، فيقول: ” لا شك أن المعلم في هذه البنية ذو نزعة سادية، فضرب جسد الطفل وفي أي مكان من جسده لا تتم إلا إذا كان الضارب ذا نزعة سادية، فالمعلم هنا ليس في حالة غضب وثورة، وليس في حالة انتقام. إنه في حالة المتعة والتلذذ بممارسة العنف، وسماع صراخ الطفل وبكائه”.

     ثم يستطرد البرقاوي في تحليل سلطة المعلم الممارس للعنف، فيؤكد أن سلطة المعلم المعرفية لم تعدّ هي السلطة الحقيقية بعد أن حلّت مكانها سلطة ممارسة العنف الجسدي ضد التلميذ المعاقب، الذي سوف تُشكل لديه سلطة المعلم المستمدة من العنف نزعة عدوانية ضد المعلم تتمثل بالكره والحقد، ثم تنتقل هذه النزعة إلى فضاءات أخرى في المجتمع كالأسرة والنادي وجماعة الأقران.

     أما التلاميذ الذين حملهم المعلم السادي على رفع رجلي زميلهم، فقد أشار البرقاوي إلى أن توجيه المعلم للتلاميذ لمساعدته في ضرب زميلهم، سوف يجعلهم يتصرفون أيضاً وفق العنف الذي مورس عليهم. إنهم يلعبون مع زميلهم في الحارة أو في باحة المدرسة، وقد يكون بعضهم جالس إلى جانبه، وها هم يشاركون المعلم في ممارسة الإهانة الجسدية، لقد نيل من قيمة الوفاء والحب لصديقهم، ولم يشعروا بتأنيب ضمير، طالما أنهم تصرفوا وفق أمر المعلم.

     لا شك أن عدم شعور التلاميذ بالذنب مقدمة للإطاحة بقيم الوفاء والصداقة والتعاون على البر، والطفل المعاقب في قرارة نفسه ينتظر اللحظة التي يقوم بها بالمهمة التي قام بها زملائه، وكأن البرقاوي يُريد أن يقول لنا: إن المعلم والمدرسة والأسرة بنهجهم العنيف ضد الطفل يؤصلون، ليس فقط لظاهرة العنف في المجتمع، بل لظاهرة أخرى هي الثأر ممن مارس العنف.    

     وفي سياق تحليل ظاهرة العنف في المجتمع ينتقل البرقاوي بالظاهرة من مستوى ممارستها في المدرسة والأسرة إلى مستويات أخرى لعل أهمها ممارسة العنف في المؤسسة العسكرية. يقول البرقاوي: “سيكبر جيل العصا والفلقة ويدخل جزء منه إلى الكليات العسكرية (ضباط، وصف ضباط، وعساكر) وهو يحتفظ بذهنية الفلقة وبنيتها، ومن ثم تحتفظ الكليات العسكرية ومدارسها بطقوس العنف الجسدي وذهنيته. من العقوبات الجسدية الجماعية في الكلية العسكرية إلى العقوبة الفردية. من عقوبة الضابط الأعلى إلى الأقل فالأقل، وممارسة ضرب الضباط للجنود لا رادع لها”

     ثم يأخذ تحليل البرقاوي لظاهرة العنف مداه عندما يشير إلى أن هؤلاء العسكر لا يكتفون بممارسة العنف داخل مؤسساتهم، بل ظهر لديهم فائض من السلطة، وفضلات من القوة لممارسة العنف على المجتمع المدني الذي لا يمتلك أية قوة موازية، وبخاصة في دولة تطيح بالقانون المدني، ثم ينهي تحليله لظاهرة العنف بالقول: “إن جيل الفلقة من العسكريين سوف يحدث كوارث بالمجتمع إن وصل إلى السلطة الحاكمة، عندها سيقف على رأس السلطة الحاكمة المعلم السادي، ووراءه عصبية سادية تتوق لممارسة طقوس الفلقة على البشر، إذ يتميز عنف هؤلاء بأنه خالي من الكرامة الذاتية، فهم لا يمارسون العنف دفاعاً عن كرامتهم، أو كرامة الوطن الذي يحكمونه، بل دفاعاً عن امتلاكهم للعنف بوصفه القوة القادرة على فعل ما تريد. حتى الفساد العلني ليس سوى مظهر من مظاهر القوة، فالإطاحة بالقوانين والأعراف والتقاليد والقيم النبيلة تتم تأسيسا على قوة تنفي سلطة الآخر المعنوية من الوجود.

تعقيب

     لا شك أن الدروس المستفادة من مقال “جيل العصا والفلقة” كثيرة ومهمة، والمدقق في رصد المقال لظاهرة العنف منذ المرحلة الابتدائية وصولا لممارسة الظاهرة في المؤسسة العسكرية لن يستغرب كيف أن قادة دول على قدر مرتفع من التعليم والمعرفة، ينشرون الكراهية والحقد بين شعوبهم، ولا يتورعون عن قيادة عمليات الإرهاب الفردي أو إرهاب الدولة، أو ارسال جيوشهم إلى مدن الوطن لتدميرها، وحرمان أهلها من أبسط الخدمات والحقوق الإنسانية، ولنا في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر وفلسطين خير دليل.

     إن الذين يقومون بالتعذيب والمعاملة المهينة لمواطنيهم، أو يأمرون به، هم قادة في أجهزة الشرطة والجيش في الكثير من الدول العربية، هؤلاء حصلوا على قدر لا بأس به من التعليم، ومع ذلك فهؤلاء لا يتورعون عن القيام بعمليات فساد مضرة للاقتصاد الوطني، وارتكاب مجازر بحق شعوبهم، ربما لأن البيئة المدرسية والاجتماعية هي من غرست في عقولهم ونفوسهم مثل هذه الممارسات العنفية.

     وإذا كان لا يمكننا أن نعزو هذه الأمراض كلها للتعليم بذاته، فكذلك لا يمكن أيضًا تجنب الاستنتاج بأن التعليم لم يوفر قاعدة مرضية للتطور الأخلاقي. كما أن هذه الحقائق تنبهنا إلى أن التعليم المعاصر أصبح منفك الصلة بالتربية الأخلاقية والإنسانية. بل يمكننا أن نذهب إلى ما هو أبعد لنقول: إن التعليم ربما يكون أحد العوامل التي تُحفز الأشخاص على الشعور بالتفوق، وبالتالي الدخول إلى عالم الجريمة من أوسع أبوابه.

     لهذا كله، لا بد من تفعيل منظومة القيم، واستعادة الدّور الأخلاقي للمؤسسة التربوية، والبحث عن الآليات والوسائل التي تمكّنُ من تفعيل القيم الرُّوحية في الإنسان، لأننا ننطلق من أن المؤسسة التربوية ليست فضاء لممارسة العنف بمختلف مسمياته، وإنّما هي فضاء لتعلّم الفضيلة، أو أنها الحَلَقةُ الأقوى في مشروع مُواصلة فعل التَّكميل الخُلقي والعقلي للطَّالب في مؤسسات التعليم المختلفة.

     بقي أن أقول: إن السؤال الذي زن في رأسي منذ أن وقع بصري على عنوان مقال المفكر البرقاوي هو: هل سيقوم البرقاوي بتشخيص الظاهرة فقط أم سيذهب إلى وضع بعض الحلول لها.

مع الأسف، وربما هذا هو النقد الوحيد الذي يمكن أن يوجه لمقال “جيل العصا والفلقة” أن كاتب المقال اكتفى برصد وتحليل الظاهرة وهذا عمل يُشكر عليه، ولكنه لم يضع لنا إجابة عن سؤال: كيف نواجه ظاهرة العنف تربوياً؟ ربما لا يريد أن يأخذ دور التربويين ويتجاوز على اختصاصاتهم، مع أنني كنت أتمنى أن يفعل ذلك، وبخاصة أن الساحة التربوية السورية تزداد تصحراً عاماً بعد عام بعد رحيل عمالقة الفكر التربوي أمثال: عبد الله عبد الدائم، وملكة أبيض، ونعيم الرفاعي، وفاخر عاقل، وفخر الدين القلا، فضلاً عن تنحية كبار المفكرين التربويين السوريين أمثال: أنطون رحمة، وفاطمة الجيوشي وجبرائيل بشارة، وغيرهم.

     وأخيراً أوجه الشكر والتقدير للدكتور البرقاوي على ما أفاض فيه مقاله من دروس مستفادة عن ظاهرة العنف، رغم ما أعرفه عن الظاهرة والنظريات المفسرة لها، فما أدلى به البرقاوي يستحق أن تقف عنده المؤسسات التربوية النظامية وغير النظامية، وبخاصة وهي ترسم سياساتها التربوية لمواجهة ظاهرة العنف التي مزقت وحدتنا الوطنية، ونسيجنا الاجتماعي، وخلفت لنا الكثير من الأيتام والثكالى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى