مقالات

جدلية العلاقة بين الاستبداد والغرب

د. قصي غريب

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

الولايات المتحدة الأميركية الدولة العظمى الوحيدة في الساحة الدولية ، ما انفكت تقدّم نفسها بوصفها زعيمة العالم الحرّ، وتبشر بقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، ولكن عندما اندلعت ثورات الشعوب العربية على الأنظمة الاستبدادية الفاسدة ؛ في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن لم تتماه مع ما بّشرت به !

ولذلك السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا لم تقف الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مع الثورات العربية وبخاصة مع الثورة السورية ؟

والجواب:

باغتت الثورات العربية  الأنظمة الاستبدادية الفاسدة و الولايات المتحدة والغرب، فادّعت إدارة الرئيس باراك أوباما ،أنها مع تطلعات الشعوب العربية الثائرة، لإدراكها أن الثورات ستعم المنطقة برمتها، ولهذا وضعت لكل دولة عربية ثائرة معيارًا مكافئًا لفشل الثورة فيها، وحتى يتسنى لها ذلك فقد استخدمت نفوذها وتأثيرها على أنظمة الخليج العربي لتمويل ثورات مضادة في كل الدول العربية؛ فعمدت إلى شراء ذمم سياسيين وعسكريين واعلاميين ومثقفين.

ففي سورية ، تركت – أي أمريكا- الثورة ساحة مفتوحة للتدخلات المحلية والإقليمية والدولية، فتدخلت إيران وعصاباتها الطائفية وروسيا والولايات المتحدة وحلفاؤها العرب والأوربيون  تحت ستار محاربة الإرهاب، ثم بدأ تحول في الرأي العام من خلال الإعلام المضاد ، الذي يقوده المتلبرلون الجدد من أتباع الثقافات الفرعية المغلقة الذين ركبوا الثورة ، وكانوا أداة في تنفيذ الأجندة الأميركية في شيطنة الثورة ، من خلال تجاهل النظام وعصاباته ، والاهتمام والتركيز على إرهاب داعش والنصرة ، وسوقوا أن ما يحصل في سورية لم يعد ثورة شعبية ، بل عصابات إرهابية إسلامية تقاتل النظام لإقامة الخلافة الإسلامية بغية العودة إلى الوراء ؛ لكي يكون حال الشعب السوري الأنموذج المرعب للشعوب العربية التي لم تثر، والتمهيد لتسليم زمام الأمور إلى الثورة المضادة.

عندما ثارت الشعوب العربية في 2010 –  2011 على الأنظمة العربية الخدمية من أجل انتزاع الحرية والحياة  الكريمة ، كان الحل السحري للأنظمة العربية أن شرعيتها واستمرارها في السلطة يكمن في محاربة الإرهاب، فما كان من أجهزتها المخابراتية إلا أن صنعت الإرهاب وزعمت محاربته !

في مصر،  تمّ شيطنة الإسلاميين،  من خلال وسائل الإعلام التي ظهرت بعد الثورة بالمال الخليجي، وقام هذا الإعلام الأجير بتلميع صورة الجنرال عبد الفتاح السيسي كمنقذ لمصر من الضياع، ثم أوعزت- أي أمريكا-  لعسكر كامب ديفيد بالانقلاب على الشرعية الديمقراطية الوليدة باسم تصحيح مسار ثورة 25 يناير، فأدت هذه الجريمة التي حصلت  إلى اهتزاز الثورات العربية الأخرى، فكانت تونس على موعد مع  ثورة المضادة، “ناعمة” وليبيا مع أخرى “خشنة ” من خلال ظهور الجنرال حفتر ، واليمن في تحالف علي عبدالله صالح مع “عدو الأمس” الحوثيين الذين  تغولوا فيما بعد على اليمن كاملاً،  بعد أن أصبح اليمن ساحة مفتوحة للتدخل الإقليمي بذريعة حرب الخطر الإيراني في اليمن ، لينتهي اليمن إلى التشطّي .

الولايات المتحدة وحلفاؤها ، بغية الحفاظ على مصالحهم – على حساب حرية وكرامة وحياة الشعوب العربية – فقد قامت بخطوات حثيثة لوأد الثورات العربية ، وإعادة انتاج الأنظمة المستبدة الفاسدة من الدولة العميقة ، ومن المعارضات التقليدية وعديمي الخبرة السياسية ، فالمفكر الاستراتيجي الأميركي انتوني كوردسمان،  أكد  أن ما من دولة في المنطقة ستكون نسخة عن الولايات المتحدة، ولذلك لا بد من تشجيع النظم ذات العيوب الكثيرة على التطور والاصلاح بدلًا من الرهان على ديمقراطية جديدة ستعمل على نشر الفوضى، ويتم من خلال العمل مع ائتلافات من عناصر تجمع النظام والمعارضة فيها من المساوئ بقدر ما فيها من المحاسن، وهذا أقل الخيارات سوءًا على المصالح الأميركية.

قامت السياسة الأميركية على ضبط حركة هذه الثورات بواسطة التكيّف معها، والتحكم فيها من خلال الوقوف إلى جانب المطالبين بالحرية، والتعامل مع حالة كل دولة على حدة، بحيث لا تعتمد الإدارة الأميركية على أنموذج واحد يصلح للتعامل مع جميع الدول العربية؛ واعتبار أن السياق المحلي في كل دولة هو العامل المهيمن المحدد للتعامل مع الحالة المستجدة، وبما أن الولايات المتحدة ترى أن مصالحها الاستراتيجية في العالم العربي قد أصبحت في خطر – نتيجة سقوط الأنظمة التي تعتمد عليها-  فقد قامت باستغلال الفرصة ، من خلال حرصها على أن يكون لها دور في إدارة الثورات، عبر التدخل في تحديد نتائجها ، وهوية أنظمة الحكم المستقبلية في دولها، وعملت من أجل أن تكون الأنظمة البديلة وقياداتها تتوافق بصورة عامة مع السياسة والقيم الأميركية، أو غير بعيدة عنها، ولهذا وضعت خططًا  وتكتيكات الاختراق بالاتجاه الذي ترغب فيه، ويصب بمصلحتها باستخدام قوتها السياسية والدبلوماسية والمخابراتية والإعلامية، واستخدام القوة العسكرية ولاسيما في سورية.

لم تقف الولايات المتحدة وحلفاؤها مع الثورات العربية ، وعملوا بكل السبل على إفشالها، وعلى سبيل المثال ، فقد تذرعت الولايات المتحدة بمنع مد الثوار السوريين بأسلحة نوعية – صواريخ مضادة للطائرات-  كي ﻻ تقع بيد المتطرفين ؛ ومن ثمة يصبح لديهم القدرة على تهديد الطيران المدني ! إلا أنها كانت كاذبة في طرحها ، فلم يكن ثمة تطرفٌ قد ظهر في الثورة السورية ، لكنها كانت ومازالت مؤيدة لاستمرار النظام الطائفي في حكم وقتل السوريين وتدمير بلادهم، لأن السلاح البديل عن مدهم بالصواريخ كان فرض الحظر الجوي أو منع الطيران، ولكنها لم تفعل.

لقد وقفت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها  مع الأنظمة الاستبدادية الفاسدة في العالم العربي ؛ وعملت على استمرارها، بإعادة انتاجها انطلاقًا من الحقائق  والوقائع الآتية :

1 –  الحروب المدمرة التي شهدتها القارة الأوربية قد دفعت المصالح الحيوية لدولها القومية ذات الأنظمة الديمقراطية والثقافات المختلفة بعد الحرب العالمية الثانية إلى الوحدة الاقتصادية؛ وتوّجت بقيام مؤسسات وحدوية اقتصادية وسياسية ومالية أوربية في بلجيكا ، وفرنسا ، ولكسمبورج ، ولهذا فإن وحدة العالم العربي على غرار الاتحاد الأوربي ممكنة جدًا  نتيجة ما ذكرنا آنفًا ، فالوشائج التي تجمع الدول العربية أكثر متانة من الروابط التي جمعت الدول الأوربية، ودفعتها إلى الوحدة الاقتصادية ، ومن ثم الوحدة السياسية ، فنجاح الثورات العربية،  ومنها الثورة السورية ( وإقامة النظم الديمقراطية القائمة على التعددية السياسية ،واحترام حقوق المواطنة ، وتداول السلطة )  يمهد الطريق إلى الوحدة الاقتصادية ، ومن ثم السياسية للعالم العربي .

2 – في ظل قيام أنظمة ديمقراطية في العالم العربي ، فإنّ احتمال وحدة العرب تكون أقرب للتحقق، ويساعد على ذلك توافر عدة روابط مشتركة ، تجمع بين الدول العربية أكثر من الدول الأوربية، فضلاً عن تطابق حالة النظام الإقليمي على العالم العربي والدول العربية القائمة على التقارب الجغرافي، والتماثل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، والتفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما يسهل من وحدته، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يعون جيدًا هذا الأمر بعقلية وأفق السياسي الاستراتيجي .

3 – إن الدعوة والتشجيع من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على تفكيك الدول العربية البسيطة وإقامة دول مركبة فيدرالية في العالم العربي، يكون من باب الموضوعية،  في ظل قيام أنظمة ديمقراطية وصلت إلى السلطة من خلال صناديق الاقتراع،  إمكانية قيام الحكومات الديمقراطية بالسعي إلى قيام وحدة سياسية واقتصادية عربية على غرار الاتحاد الأوربي .

 4 – كل الحكومات العربية ، سواء التي ادعت أنها داعمة للثورات العربية أو متوجسة منها خيفة، هي بالحقيقة والواقع نفذت الأجندة الأميركية وعملت على أمرين متلازمين :

الأول، دعم الثورات المضادة لإعادة إنتاج النظام الرسمي العربي الخدمي من جديد.

الثاني، جعل شعوب الثورات العربية ولاسيما الشعب السوري عبرة لشعوبهم.

5 – الشعوب العربية تعيش في ظل أنظمة استبدادية فاسدة ، تأخذ شرعيتها من تقديم الخدمات للولايات المتحدة ، ولدى تلك الأنظمة الخدمية لا اعتبار للمصلحة الوطنية أو القومية ، ولا مكان للسياسة والواقعية السياسية ، لأنه لا أهمية للاستراتيجية والتكتيك ، فمصلحة الوطن قد اختزلها الحاكم العربي ببقائه على كرسي الحكم ، ولهذا عندما ثارت الشعوب العربية للقضاء على هذه المنظومة الخدمية للولايات المتحدة والغرب بغية بناء دولة وطنية قائمة على المواطنة والحياة الكريمة؛  فقد تم تهديد المصالح الأميركية، ولاسيما أن الثورات تحفّز الشعوب العربية الأخرى على خلع حكامهم ، وبناء نظم ديمقراطية على شاكلتها ، ما يدفعهم تكامل المصالح إلى الوحدة على غرار الاتحاد الأوربي ، وهذه تعدّ من المحرمات في الاستراتيجية الغربية وبخاصة الأميركية، لهذا يجب أن يبقى العرب خارج التأثير الفاعل في الساحة الدولية ، والأداة المساعدة لهم – في ذلك – الأنظمة الخدمية العربية.

6 – إن كل الإجراءات التعسفية التي اتخذتها الحكومات العربية الخدمية ضد التنقل والإقامة والتضييق على المواطن العربي “الثائر” وبخاصة السوري؛  تأتي من ضمن سياسة امتهان كرامة العربي ، وعقوبة لمن يخرج على نظامه ، ودفع المواطن العربي إلى الكفر بالعروبة أو الانسلاخ عنها، وهذا ما تريده الولايات المتحدة وحلفاؤها، مع العلم ألا علاقة للهوية والانتماء العربي بهذه الإجراءات التعسفية.

ولذلك على المواطن العربي – وبخاصة السوري-  أن يعي أن شيطنة العروبة تتم من خلال هذه السياسات ، مثلما يتم شيطنة الإسلام من خلال تسليط الضوء على سلوكية بعض الجماعات التي تزعم الوصل بالإسلام وهو منها براء.

7 – يحرص الغرب ، ولاسيما الولايات المتحدة على بقاء النظم الاستبدادية في السلطة بالعالم العربي ، ولا يرغبون أبدًا في وجود أنظمة ديمقراطية بديلة قائمة على المساءلة  والاستجواب والتحقيق ، فقد وقفوا ضد إرادة الشعوب العربية في التغيير والحرية ، فكانوا وراء إسقاط التجربة الديمقراطية في مصر ، وكذلك في دعم الثورات المضادة في تونس واليمن وليبيا وسورية ، ويعود سبب حرصهم على استمرار هذه النظم بالإضافة إلى كونها خدمية ، فهي فاسدة وسارقة للمال العام بحيث تضعه في مصارفهم ما يسهم في تنشيط وانتعاش ودوران عجلة اقتصادهم ، في حين أن وجود النظم الديمقراطية القائمة على الشفافية والمحاسبة تمنع ذلك !.

8 – على الرغم من حالة التفكك والتمزق التي يعيشها العالم العربي، ولكن لارتباطه الوثيق بالإسلام عقيدة و ثقافة و حضارة،  باعتباره الدافع والرافع بمبادئه وثقافته للنهوض، فإنه  لا يزال يشكل تحديًا وقلقًا،  للغرب، فالمفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون في كتابه ” صدام الحضارت ” يحذر من الإسلام وأهله على الحضارة الغربية، ويُرجع السبب لأن تاريخه – كرسالة وحضارة – امتزج بالعرب الذين يحوزون على قدر كبير من مكونات التحدي ، ومؤهلات التفوق ، وقدرات القيادة العالمية ، ولذلك يتم شيطنة الإسلام وكل ما يمت له بصلة .

9 – يحرص الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة ، على بقاء النظم الاستبدادية الفاسدة بالسلطة في العالم العربي، لأن وجود النظم الديمقراطية القائمة على الشفافية والمحاسبة  وتمهد للوحدة الاقتصادية والسياسية العربية وهذا من الممنوع والمحرم!

ولذلك تحارب الولايات المتحدة وحلفاؤها إقامة نظم ديمقراطية في العالم العربي قائمة على تداول السلطة والتعددية السياسية واحترام حقوق المواطنة ؛ وتسود فيها الشفافية والتحقيق والمحاسبة . والدليل الواضح افشالهم الثورات الشعبية ، ووقوفهم ودعمهم للنظم المستبدة الخدمية ، والعمل الحثيث على إعادة إنتاجها ، لخوفهم من قيام اتحاد عربي ، سيكون له شأن في الساحة الدولية ، وهذا في حساباتهم الاستراتيجية خطر على مكانتهم ومصالحهم ، ولمنع ذلك فإن القرار الغربي الذي تتخذه الولايات المتحدة يجب أن تبقى حكوماتها الأجيرة تحت رعايتهم وحمايتهم ، والمعطيات تقول : إنهم لا يغضون النظر فقط عن الجرائم التي تقوم بها الحكومات الاستبدادية ضد شعوبها ، بل اصبح لديهم الاستعداد للدخول في حرب إبادة ضد كل من يتجرأ على تغيير هذه النظم الخدمية !

على سبيل المثال،  إن موقف دول الاتحاد الأوربي الحقيقي من الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العالم العربي ولاسيما في سورية ؛ يتلخص في فتح ذراعيها للمجرمين والسراق من شاكلة ،  رفعت الأسد، ومصطفى طلاس، وعبد الحليم خدام، وغيرهم ، وغض نظرها أوسكوتها على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يقترفها النظام الطائفي ضد السوريين.

في هذا الشأن ، قال المفكر الأميركي نعوم تشومسكي: ” لا شك بأن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين حريصون على القيام بكل ما بوسعهم للقيام به لمنع قيام أي ديمقراطية في العالم العربي!”

10 – لا يزال (الغرب الإنساني الرحيم جدا) يمارس لعبة سياسة التمييز، فهو يغض النظر، ويسكت عن الظلم والقتل الذي تتعرض له الأكثرية  من الشعب السوري على سبيل المثال  على أيد النظام الطائفي الخدمي ؛ لكنه ينبري للتنديد والإدانة إن مس فرد مما يسميه الأقليات، أو مس فرد من أصحاب الحظوة لديه !

11 – إلى جانب دعم النظام الحاكم  في سورية – بالطائفة والطائفية والفساد والجريمة-  فإن الولايات المتحدة كانت وراء تغول عصابة البيدة  ومرتزقة قسد في شمال شرق سورية،  ومدتهم بالسلاح بذريعة محاربة داعش من أجل التأثير في الأحداث  في سورية، فضلاً عن جعلهم أداة ضغط فاعلة ومؤثرة على الأمن القومي التركي.

وبناء على ما تقدم يمكن القول:

 إن الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها ، ما انفكوا يعملون على إفشال الثورات العربية ، واستمرار بقاء الأنظمة الاستبدادية والعمل على إعادة انتاجها بوجوه أكثر وحشية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى