مختارات

الجزيرة وصناعة “الأبطال”

حازم نهار

سياسي سوري
عرض مقالات الكاتب

لم أشاهد برنامج الجزيرة، لكنني سمعت أنه يمجِّد “قاسم سليماني”، وهذا فعل مدان، على الأقل من الناحية الإنسانية.

قبل أيام قليلة فقط، قدّمت القناة برنامجًا ضمن سلسلة “تحقيقات الجزيرة” يتحدث عن ملاحقة ومحاكمة بعض مجرمي الحرب في سورية، واليوم تقدم برنامجًا يمجِّد أحدهم الذي ربما كان أكثرهم فتكًا! وهذا عجيب!

استضافت الجزيرة، مثل القنوات الأخرى، خلال السنتين الأولى والثانية من الثورة، شخصيات سورية معارضة عديدة، قدمت -في اعتقادي الشخصي- خطابًا سطحيًا عن الثورة ومساراتها وعلاقاتها، بصرف النظر عن توجهاتها الأيديولوجية. وكان من المهم لقناة اختارت نصرة الثورة، بعد تردّد، أن تكون أكثر دقة وعلمية في انتقاء الأشخاص، وفي معرفة طبيعة الخطاب الذي تحتاجه سورية فعلًا، ويمكن له أن ينجح أو يسهم في وضع السوريين على سكة الأمان. ففي لحظة من اللحظات، انتقلت الجزيرة، مثلًا، إلى الاهتمام بتغطية المعارك وشخصياتها وخطاباتها، وأدارت الظهر للمجتمع السوري المعارض، وللشباب الفاعل والمؤثر، لتُختزل الثورة تدريجًا إلى الفصائل المسلحة ومعاركها وشخصياتها.

كذلك، من الواضح، منذ سنوات، وجود تشابه في التغطيتين التركية والقطرية، سياسيًا وإعلاميًا، فيما يتعلق بنوعية الصورة التي يُفترض أن تُرسم للثورة السورية وشخصياتها وخطابها. هذه الصورة -في اعتقادي- لن تلامس وجدان وروح أكثرية السوريين بالضرورة؛ فواحدة من النقاط المهمة الغائبة، لدى القنوات التي أعلنت أنها داعمة للثورة في البدايات، ولدى المعارضة عمومًا، هي اقتصار خطابها على الاهتمام بإرضاء “الجماعة الثورية” في سورية إن صح التعبير، أو في الأحرى بجزء من هذه الجماعة، بدلًا من النظر إلى المجتمع السوري بكليته، وتوجيه خطاب يصبّ في اتجاه تنمية الوطنية السورية.

قناة العربية هي الأخرى، بخطابها وطريقة تعاطيها، لا تخدم -في اعتقادي- القضية الوطنية السورية؛ خصوصًا مع عملها وفق طريقة “الجكارة”؛ فهي تريد مثلًا إزعاج تركيا باستخدامها وترويجها السيء للقضية الكردية السورية، وتجد هي الأخرى من يفرح بالتجاوب معها.

على كل حال، ربما من المهم التأكيد على أن المشكلة الأكبر تبقى لدينا نحن السوريين، وليست لدى القنوات الإعلامية؛ فنحن لم ننجز خطابًا مركزيًا توافقيًا نستطيع عبره إيصال القضية السورية بطريقة تخدم السوريين لا غيرهم، بل ما زلنا نعمل وفق قاعدة “كلٌ يغني على ليلاه”.

عمومًا، السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتعاطى مع القنوات التي تستهتر بقضيتنا أو تزوِّرها أو تسيء إليها أو لا تتعاطى بطريقة تصب في المصلحة الوطنية السورية؟
في ظل غياب مركز سياسي وطني توافقي، يصبح لكلٍّ منا جوابه وطريقته. قبل عام 2011، كنت أتبنى وجهة نظر مؤداها أنني لست مسؤولًا عن خط أي قناة، ولا عن خطابها، ولا عن ضيوفها، أنا مسؤول فحسب عن خطابي ورأيي اللذين أقدمهما عبر هذه القناة أو غيرها. لكن بعد 2011 صرت أدقق تدريجيًا في القنوات، وصولًا إلى مقاطعة الإعلام كله بعد أشهر قليلة من عام 2012، في وقت كانت فيه الثورة في زهوها، وإلى هذه اللحظة. ربما لا يكون هذا هو الحل المثالي أو المطلوب، بل ربما يُنظر إليه على أنه تصرف ساذج، لكنني وجدته، وما زلت إلى الآن، الأسلم في ظل هذه الفوضى التي لا تكترث لنا جميعًا، ويصبح معها سيّان إن شاركت أم لم تشارك، فضلًا عن انعدام الحكمة في ظهورنا جميعًا في الإعلام وكلٌ منا يشدّ اللحاف إلى جهته. وبالطبع، لا تهتم القنوات بأحد، ولا تكترث -بطبيعتها- لمثل هذا الكلام، وأنا (وجميعنا) أصغر كثيرًا من أن نؤثر في هذا الإطار، فما يهمّها أكثر هو ملء شاشتها بالبرامج والضيوف وتصدير الخطاب الذي يريده مموِّلها أو داعمها.

في الحصيلة، أريد أن أضيف نقطتين أخيرتين تتعلقان بطريقة تعاطينا مع وسائل الإعلام؛ الأولى: لا نستطيع تطبيق قانون “الكل أو لا شيء” في الحكم على أي قناة فضائية؛ فهذا القانون لا ينفع في السياسة والإعلام، ولا ينفع في الحياة كلها. الثانية: لا نستطيع أن نطلب من أي قناة أن تسير وفق قناعاتنا وأهوائنا ومصالحنا، خصوصًا في ظل تعدّد وتعارض، بل وتناقض، قناعاتنا وأهوائنا ومصالحنا نحن السوريين، في اللحظة هذه.

تعمل أغلبية القنوات، على ما يبدو، بلا رؤية واضحة ومعلنة؛ إذ لا تضع محدِّدات بخصوص نوعية ضيوفها، ولا نوعية الخطاب العام للقناة، ولا السياسة التحريرية استنادًا إلى معايير عقلانية، اللهم إلا فيما يتعلق بسياسات الدول وتحديد معسكرات الأصدقاء والأعداء في كل لحظة، وهذا غير كافٍ. القناة الإعلامية ليست حزبًا سياسيًا، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضًا أنه لا يفترض بها أن تكون مكانًا لفوضى الكلام والرؤية والخطاب، ومرتعًا للتناقضات التي لا تُحتمل إنسانيًا وعقليًا، وميدانًا للتبدلات والتغيرات الصارخة في الرؤى والمواقف لخدمة مصالح مموليها.

المصدر: صفحة الكاتب على فيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى