ثقافة وأدب

كلماتنا في الحب تقتل حبنا

ماهر القدارات

باحث حضارة وكاتب وروائي
عرض مقالات الكاتب

عندما نُسأل عن معنى الحب نصمت ولا نقدر على الإجابة، الحب شعور جميل يُثار ولا يُقال، شعور يُباغتنا فجأة دون سابق موعد ولا حتّى صافرة إنذار، فيهيم في دروب أرواحنا ويسري مع دمائنا وعروقنا .. تتزايد نبضات قلوبنا وتتدافع فيغلبنا الصمت ويضيع الكلام، ولقد صدق نزار قباني حين قال “كلماتنا في الحب تقتل حُبّنا إنّ الحروف تموت حين تُقال”.

يبدأ الحب بالإعجاب و يرافقه الانجذاب إلى الآخر فيسمو بأرواحنا عاليا ويطير بنا مُحلّقا في فضاء رحب وسماء واسعة يكسر قيودنا ويُحطّم أصنام الصمت فينا، يُشعل النيران تمهيدا لممارسة طقوسه، أين تلتقي قلوبنا على مائدة الرحمة والمودّة لتتعانق مع الإنسانية،

يجوب بنا الوديان والغابات، الصحاري والبراري، يُخرجنا من ثرثرة الناس إلى العزلة والانطواء، يسير بنا مسافرا من ضجيج المدينة إلى صومعة الانعزال، ولكنّه إمّا أن يصعد بنا إلى أعالي المجد فنُعانق السماء ونرحل مع السحاب أو أن يهبط بنا إلى وديان الأحزان .

هو كالوردة إن سقيتها واعتنيت بها وخفت عليها من رياح الشتاء وعبث العابرين كبرت وأينعت بماء العطف والودّ وأزهرت شمس السعادة في فصول قلبك، وإن تركتها تذبل ماتت عروقها وتصدّعت أركانك  فتتحوّل المساءات في عينيك إلى ليالي باردة.

حين يأتي الحب يرحل الصمت المكبوت فينا وتثور البراكين إيذانا بميلاد جديد، ويزورنا الاشتياق  اشتياق التربة لمعانقة المطر،المطر الذي يُحيي الأرض بعد موتها فتُغازل التراب على وقع زخات قطراتها وتشق السيول طريقها عبر الوديان لتتصالح مع الورود والأشجار.

الحب هو تلاقي الأرواح، فالروح لا يحدّها مكان ولا يصدّها زمان، لا تقبل أن تكون سجينة بين الجدران حتى لو كانت تلك الجدران أجسادنا، هو تلك الثورة التي تُحرّر أرواحنا فتصعد إلى علياء السماء وتسافر عبر أشرعة الزمان إلى عوالم الله الواسعة، حرّة طليقة لا يُنغّص حياتها ولا يكسر رغبتها في اللقاء أحد، لذلك يُعّرفه ابن القيم بأنه ” إيثار المحبوب على جميع المصحوب” أما الراغب الأصفهاني فيقول “أنّ المحبة إرادة ما تراه وتظنه خيرا”و عند الرازي ” المحبة عبارة عن الشهوة  وميل الطبع ورغبة النفس”، أما القاضي عياض فيرى أن “أصل المحبة الميل لما يوفق المحب” وعلى نفس خطاه سار الحافظ القرطبي الذي عّرفه “بأنه الميل لما فيه غرض يكمل به الإنسان نقصه وتتلذذ به النفس وتكتمل بحصوله “.

ولا تقتصر المحبّة على الإنسان فقط، بل نظرت فوجدت الحب في قلوب الحيوانات، في نظرة وفاء الكلب لسيده، في قطتنا التي تركها رفيقها القط مع صغارها ورحل، فحملتهم وأطعمتهم  وكافحت من أجل أن تبقيهم أحياء وسط هذا العالم المظلم، في عصفور الكناري الذي يغار على عصفورته الصغيرة و يظل يغازلها بصفيره حتى وإن كان سجينا في قفصه، في تلك اللبوة الشرسة التي تتحوّل إلى قطة وديعة عندما تلتقي بأسدها المحارب، نظرت أكثر فوجدت الحب في ذكر الجاموس الذّي يُضحي بحياته من أجل حماية إناث القطيع من لصوص الضباع والكلاب البرية. ولكن لسوء حظ الحيوانات أنها لا تستطيع أن تنطق أوتعبر عن أحاسيسها وعواطفها كحال البشر . تكتفي فقط بتلك الإيحاءات التي لا تفهم أسرارها إلا هي.

قديما سخروا من الحمار وجعلوه من النوادر التّي يتندرون بها في مجالسهم وشبّهوا كل غبي بليد الفهم بالحمار، و نسوا حقيقة تسميته حيث تقول الأسطورة أن سبب تسمية الحمير تعود إلى عميق المحبة التي أودعها الله في قلوبها حيث رأت الأتان ذات يوم ذكرها يسقط في البئر فرمت بنفسها ورائه دون تردد، هي تشبه عاطفة الزوجة ورحمتها بزوجها لا يوقفها سلطان ولا يقيدها قانون لذلك تقول سيمون دي بوفوار ” الحب سلطان ولذلك فهو فوق القانون”.

لطالما سمعت بمقولة ” أن الحب أعمى يسترد بصره بعد الزواج ” ولكن قلبي يخبرني بأن الحب يزيد من نور البصيرة وإن ضعف البصر، يُنير القلوب وإن شاخت كما تُضيء المصابيح الشوارع ليلا، وحده من يُعيدنا صغارا وإن هرمنا، يعيد فينا طفولتنا النائمة، يجعلنا نتصرّف بجنون وأحيانا كثيرة بغباء، لا يرى فيها المحب عيبا في محبوبه فيتغاضى عن كثير من العيوب والأخطاء من أجل بقاء العلاقة، قرأت مؤخرا دراسة تُظهر أنّ الوقوع في الحب يشوش قدرتنا على التفكير السليم، هذه الدراسة تكشف كيف تؤثر حالة الهيام الشديدة على التحكم الذهني للإنسان.

لا أستغرب حقيقة من ذلك  فعندما نحب نعود سنوات إلى الوراء ..لطفولتنا المنسية لكهوف قلوبنا المُظلمة … نعود إلى تلك المشاعر البريئة التي كانت تسكن فينا قبل أن نكبر … حيث يوجد الحب والأمان في أعماقنا …فقط عندما نحب نسافر عبر خيالنا عدة سنين ضوئية  لنبحث عن ذلك النور الذي يشعّ أخر الكهف وكأنه طوق النجاة وخاتمة الرحلة.

أخبرتني أمي أن الحب يعيدنا صغار ..يخرج فينا الطُهر المخفي …يداعب فينا البراءة والعفوية … يُجرّدنا من التعالي والغطرسة ….هي ترى أن الحب أساس الإنسانية وغاية الوجود. ولكنها لا تعلم أن الحب في أيامهم يختلف عن الحب في أيامنا … لا تعلم أن الجرائم صارت تُرتكب باسم الحب وأن المرأة تبيع جسدها باسم الحب .. وأن الفتاة تفشل في دراستها باسم الحب وأن الرجل يزنى باسم الحب ..

في شرقنا فقط وحدها المرأة التي تكون ضحية الحب وحدها من تتحمل الخطيئة كما تحملت سيدتنا حواء حادثة الخروج من الجنة والنزول إلى الأرض .. وفي شرقنا فقط يحدث كل شيء باسم الحب، وفي شرقنا فقط يحتكر الرجل جميع أدوار البطولة، وفي شرقنا فقط  نهتم بالمظاهر لا بالعقول ..في شرقنا فقط تُفضّل المرأة المال على الحب وفي شرقنا فقط يعشق الرجل الجسد وينسى الروح ..في شرقنا فقط تتعرّى الفتيات باسم الحداثة والحرية ولو كان العُري علامة للتقدم لتقدمت البغال والبهائم قبلنا بسنين .. الحب كالحرب لا رابح فيهما والجميع خاسر إما أن نخسر أرواحنا وسعادتنا أو نخسر حياتنا ولكن هل يمكن أن نعيش يوما بلا حب ؟

أكيد ستكون الإجابة بلا .. الحب هو من يجعلنا نتمسك بحياتنا لتصبح ذات معنى هو من يجعل الورد يزهر و الحمام يطير بسلام … هو من يحي الروح بعد موتها، وهو من يروي التربة بماء المطر … الحب هو الذي يبعث الحياة في تلك الكهوف المظلمة والصحاري القاتلة .. هو العكاز الذي نستند عليه في خريف عمرنا وهو المظلة التي تقينا حرارة الوحدة ..هو طريقنا نحو الإنسانية فلا يكون الإنسان إنسانا إلا بالحب .

وحدث أن أحببت فتاة رأيت في وجهها جمال الربيع و شممت منها رائحة الأزهار وكلما مرت من طريق إلا وأزهرت من خلفها الحدائق، أحببتها فرأيت الحب في عينيها كأسراب الطيور المهاجرة التي تبحث عن شاطئ أمان ..وصار قلبها ناعما كالقطن .. وصوتها يعزف في أركاني سمفونية رقيقة تُهدهد روحي المتعبة ..حتى رقّتها صارت لا توصف … بالحب وحده أصبحت أنثى خيالية فوق الوصف والشعر ..أنثى متمردة على قوانين اللغة و الكتابة ومتحرّرة من معاجم الوصف التقليدية.. تسافر كل يوم مع السحاب مودعة الحزن..تطير بي إلى أماكن وأزمان وعصور وحضارات قديمة … كانت شمسا لسمائي وغيمة تسقط على صحرائي، ونجوما تضيء ما أظلم من حياتي، وكانت راحتي التي لا تتعب وأنس وحدتي وعزائي في أيامي الحزينة .. كانت فصول عمري التي لا ترحل وأفكاري التي لا تهدأ .. تظل تطاردني حتى أكتبها في رواية .. حنانها المتدفق منها لا يوصف ولا يضعفني بل يزيدني قوة وثباتا أمام قبح هذا العالم .. يبعث الحياة في كل شيء، يُحي الكلمات والأوراق والأقلام حتى أكتبها قصيدة نثرية … مظهرها من الخارج يوحي بأنها أكثر كائنات الأرض هدوءا ولكن عندما أقترب منها أشعر بأن في داخلها حمما بركانية تنتظر اللحظة المناسبة.

أمام حضورها ترحل الأوصاف مُّودعة، وتختفي التعابير متوجسة من عنفوان أنوثتها وتخونني اللغة وأنا الذي تعودت على اخضاع كلماتي … فأحترق أنا وتشرق هي بحسنها وجمالها.

أحببتها حتى انتقلت إلي عدوى الحياة فصرنا رفيقين وعشيقين في آن واحد…أن تكون صديقا لحبيبتك يعني أن تكون لها أبا وأخا وحبيبا ورفيقا إن أتعبتها الأيام استندت عليك وسقطت في صحراء حبك ترويها وتسقيها وتعتني بها ..أن تكون صديقا لحبيبتك يعني أن تكون رجلا لها لا عليها، أن تكون صديقا لحبيبتك يا رفيقي يعني أن تقيها لفح الهاجرة وبرد الصقيع…أن تكون صديقا لحبيبتك يعني أن تكتبها رواية لا أن تتحدث عنها لأصدقائك ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى