بحوث ودراسات

“المعذبون فى الأرض” لطه حسين – بين ضعف البناء وجمال الأسلوب 2 من 2

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

كذلك فإن الموازنة والتكرار وما يمتلئ به أسلوب طه حسين من نغمات موسيقية لا يجرى على وتيرة واحدة، بل كثيرا ما يخرج الأسلوب عما هو متوقع، فتراه لا يمضى لآخر الطريق مع هذه السمة أو تلك، وهو ما يُشِيع فيه مرونة وحيوية وإنعاشا. ولنأخذ بعض الأمثلة لتوضيح ما نقول: فعلى سبيل المثال نراه فى النص التالى لا يتابع التناظر فى موازنته إلى نهاية الشوط، بل يكسرها بما يخرج القارئ عن استنامته لما يجرى: “رأى ابنة هذا الرجل فتاة كاعبا تستقبل الحياة فى قوة وجمال، وفى بؤس وشقاء أيضا، فلم يرقّ لبؤسها ولم يرحم شقاءها، وإنما اشتهى جمالها، وطمع فى محاسنها، وابتغى إليها الوسائل” (ص 58). فانظر كيف كَسَر التناظرَ فى النص بزيادة كلمة “أيضا” بعد كلمة “شقاء”، وإجراء جملة “وابتغى إليها الوسائل” على تركيب مخالف للتركيب الذى صب فيه الجملتين السابقتين عليها. وقس على ذلك العبارة التالية: “لا ترفع صوتا بإعوال، ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من النساء” (ص 96- 98)، التى كان يتوقع قارئها أن تأتى الجملة الثالثة من الجزء الثانى منها على نفس النسق التركيبى الموجود فى الجملتين السابقتين عليها، وبخاصة أن الجملتين فى الجزء الأول قد رَشَّحَتا لهذا التوقع، لأنهما أيضا تتناظران، ودون أن يحدث ما يعكر صفو هذا التناظر. بيد أنه يفاجَأ بإتيان الكاتب بجملةٍ تركيبُها يختلف عن هذا التركيب. ونَفْسَ الشىء قُلْ فى مظاهر الموسيقى عند الكاتب، فهو لا يلتزمها دائما، كما أنه لا يأتيها فى أى وقت ولا على نظام معلوم بحيث يمكن أن يتوقعها القارئ سلفا، بل تأتى فجأة مثلما تنصرف فجأة كما هو الحال مثلا فى قوله: “وامتلأ الجو من حوله ضياءً يوقظ الأشياء، وغناءً يوقظ الأحياء، ويدعو الناس إلى الصلاة” (ص 63). فالجملة الأخيرة لا تتناغم مع سابقتيها، إذ ليس بينها وبينهما التناظر الموسيقى المتوقع لا فى التركيب ولا فى الفاصلة.
ونمضى فنذكر بقية ما تنبهتُ إليه من سمات أسلوبية فى كتابات الدكتور طه حسين: فمن ذلك أنه حريص فى غير قليل من الحالات على التأكيد بأنه لا يشك فيما يرويه من أحداث أو يورده من أحاديث. ووجه التفاتى إلى هذه السمة أنه اشتهر أول ما اشتهر بإنكاره الشعر الجاهلى وإقامته هذا الإنكار على منهج الشك المنهجى أو الديكارتى، وذلك فى كتابه “فى الشعر الجاهلى”، وإن ظهر لدارسى هذا الكتاب أنه للأسف لم يحسن فهم هذا المنهج ولا تطبيقه على الشعر الجاهلى. وإلى القارئ بعض الأمثلة على ما نقول: “وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع” (ص 34)، “ما أشك فى أن السيدة ستُسَرّ بهذا الصيد” (ص 48)، “والشىء الذى لا شك فيه أن الفتاة قد اطمأنت إلى هذا الرجل ووثقت به” (ص 59)، “ولكن الشىء الذى ليس فيه شك هو أن هذا الموظف من موظفى الدولة عاجز عن أن…” (ص 152). ويشبه هذا عنده تأكيدُه المفعولَ المطلق بكلمة “كلّ”، مثل: “يُغْنِى كل الغَناء، ويفيد كل الفائدة” (ص 25)، “ولكنها بعيدة كل البعد عن الإعدام” (ص 74)، “راضٍ عن نفسه كل الرضا، مستقر فى الحياة كل الاستقرار” (ص 104)، أو جعلُ المفعول المطلق أفعل تفضيل مثل: “وانغمس فى القناة كأحسن ما تعلَّم أن ينغمس، وعام فى القناة كأحسن ما تعوَّد أن يعوم” (ص 33)، “صُنِع فى تمهل وتأنُّق وأناة كأحسن ما يتمهل المثّال البارع ويتأنق ويستأنى بعمله” (ص 66)، “وأُعْجِبُ قرائى حتى يَكْلَفوا بى أشد الكَلَف، وأَغِيظهم حتى يمقتونى أعظم المَقْت” (ص 83- 84)، “مزدحمين أشد الازدحام، ملحّين أعظم الإلحاح” (ص 124). وقد سبق أن ذكرنا أيضا المفعول المطلق المؤكد لعامله، وهو لا يقل كثيرا فى هذا الباب عن نظيريه.
ومما لاحظت تكرره عند طه حسين استخدام اسم الإشارة نعتًا يليه نعتٌ آخر أو أكثر، مثل: “وافتقدتْ صاحبَنا ذاك المهذار” (ص 18)، “وكنت تراها…عائدة إلى بيتها ذاك الوضيع الحقير” (ص 68)، “ثم ألقى تحيته بصوته ذاك المرعب المخيف” (ص 106)، “استطاع أن ينقل نفسه من مدينته تلك البعيدة” (ص 137)، “ليس وحيدا فى بؤسه هذا المنكر، وفى عبئه هذا الثقيل” (ص 153).
كذلك يكثر فى كلام كاتبنا هذا التركيب: “ما كاد/ لم يكد فلان… حتى…”، والغالب، فيما يخيل إلىّ، أن يقال هذه الأيام: “ما إن حدث كذا حتى…”. ومن أمثلة التركيب المذكور: “ولم يكد يجاوز الدار حتى رفع صوته بالدعاء” (ص 19)، “ثم لم يكد يفرغ من غَدَائه حتى خرج ليشهد صلاة الظهر” (ص 32)، “ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يحمل الفلاحون جثة قد شاع فيها الموت” (ص 99)، “ولم يكد يبلغ داره… حتى أعاد على أمه ما سمع من حديث” (ص 107)، “فلا يكاد يصيب معهم شيئا من الطعام… حتى يأوى إلى مضجعه” (ص 131- 132).
ومن التراكيب اللافتة للنظر فى أسلوب الدكتور طه أيضا النفى بــ”ليس” مع مجىء خبرها فعلا، والغالب فى أساليب العصر الحالى استخدام “لا” بدلا منها. وهذه شواهد من الكتاب الذى بين أيدينا على ما نقول: “ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة” (ص 35)، “وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس” (ص 35)، “وهنا ليس يحتاج القارئ… إلى أن أمضى به فى هذا الحديث البغيض” (60)، “ولست أكره أن أؤدى للقارئ حقه فى هذا” (ص 123)، “ولست أستطيع أن أبين لذلك سببا” (ص 124)، “لست أبغض شيئا كما أبغض إلقاء الدروس فى الوعظ والإرشاد” (ص 150). ومن الواضح أن الفاعل فى كل هذه الأمثلة تقريبا هو “تاء المتكلم”. وتتكرر عند كاتبنا كذلك “كان” التامة، وهو استعمال لا يعرفه كتاب العصر الحديث عادة. وهذه شواهد على هذه السِّمَة: “وسأدفع نصفه الآخر إلى صالح ليؤديه إلى العريف إذا كان الغد” (ص 32)، “لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح” (ص 41)، “ولم يكن شكٌّ فى أنه ضابط تركى قديم” (ص 106)، “لا يكادون يستقرون فى حجرتهم… حتى تلُمِ ّربة الدار فيكون الحديثُ الرفيقُ والحنانُ الرقيق” (ص 110)، “وطبيعى ألا ينهض هذا المرتب الضئيل بحاجة هذه الأسرة الضخمة فيكون الاقتراضُ، ثم يكون العجزُ عن أداء الدين، ثم يكون امتناعُ القادرين عن الإقراض…، ثم يكون الحرمانُ…، ثم يكون الضيقُ بالحياة، ثم يكون الالتجاءُ إلى الأغنياء بطلب المعونة، ثم يكون إعراضُ الأغنياء عن هؤلاء اللاجئين البائسين…” (ص 151- 152).
ومن التراكيب التى تكررت أيضا على نحو يلفت النظر عند د.طه جملة “جَعَلَ” الشروعية بدلا من “أَخَذَ”، التى يشيع استخدامها فى عصرنا، وربما فى غير عصرنا أيضا: “ومنذ ذلك اليوم جعل الحاج محمود يسعى بالخير بين حين وحين إلى هذه الأسرة البائسة” (ص 59)، “وأخذتْ بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب” (ص 99)، “وإذا اللقاء الذى كاد يكون بينهما على غير موعد قد جعل يصبح شيئا تُدَبَّر له الخطط…، وإذا الحديث الذى كاد يكون بينهما فارغا… قد جعل يصبح مليئا وراءه كثير من الأشياء” (ص 135)، “وقد جعل هذا الخاطرُ يتردد فى ضمير الفتى يقظان” (ص 145)، “وجعلتْ ألوان الطُّرَف وفنون الهدايا تستبق إلى الدار” (ص 146).
وفى كثير جدا من الأحيان نرى طه حسين يتحول عن حكاية الوقائع المنصرمة من خلال الفعل الماضى إلى حكايتها من خلال الفعل المضارع، يريد أن يقيم أمام أعيننا حوادث الزمان الذى ولَّى وكأنها تقع الآن مباشرة: “وإنها لتتحدث إلى بناتها هذه الأحاديث… وإذا الصبى يقطع عليها حديثها” (ص 21)، “ولكنها فى ذلك اليوم قد أُعْجِلت عن حمل الطبقين، ولا تذكرهما إلا حين رأت أمها مقبلة تحملهما” (ص 73)، “وقد استقامت الأمور بين الأسرتين، ولكنها لم تستقم فى نفس خديجة، فهى تمتنع على هذا الزواج وتلحّ فى الامتناع” (ص 75)، “فقد خُطِبت تفيدة، وما هى إلا أسابيع حتى يقبل قوم من القاهرة، وحتى تقام فى الدار أعياد، ثم يعود الزائرون من حيث أتَوْا” (ص 111)، “ولكنى أصل إلى القاهرة وأسأل عن صاحبى فأعلم أن حُمَّى التيفوئيد قد أسلمته إلى الموت أثناء الصيف” (ص 120)، “والسنّ تتقدم بالمعلم حتى يحس الضعف عن النهوض بأعبائه، والفتى يتقدم فى العلم بمهنة أبيه متباطئا متثاقلا” (ص 133). وفى هذه السمة أيضا يدين طه حسين للأسلوب القرآنى الذى كثيرا ما ينتقل من صيغة الماضى إلى الحاضر مباشرة مستعملا الفعل المضارع أو الجملة الاسمية كما فى الشاهد التالى، وهو مأخوذ من قصة نوح مع قومه حين كان يصنع السفينة تحسُّبًا لهجوم الطوفان: “وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ* وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ* حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ* وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ”. فكما يرى القارئ انتقل الكلام من الماضى فى قوله تعالى: “وأُوحِىَ إلى نوح…” إلى الحاضر فى قوله سبحانه: “ويصنع الفُلْك…” ، وكذلك انتقل من الماضى فى قوله عز جلاله: “وقال: اركبوا فيها…” إلى الحاضر متمثلا فى الجملة الاسمية هذه المرة فى قوله: “وهى تجرى بهم فى موجٍ كالجبال”.
هذا، وهناك ألفاظ وصيغ معينة يغرم طه حسين بترديدها فى هذا الكتاب وفى سوى هذا الكتاب أيضا، مثل “نُجْح” بدلا من “نجاح”، و”مِزاج” عوضا عن “مزيج”، وقد تكررت كلتاهما مرات. ومثلهما فى ذلك كلمة “سَرَف”، التى لم أقع عليها مع ذلك فى الكتاب الحالى. وبالمثل نراه يكثر هنا من استعمال كلمة “شىء” فى سياقاتٍ وظلالٍ مختلفة: “هنالك وجمت أم الصبى شيئا”، أى بعض الوجوم (ص 14)، “مهما يكن من شىء فقد غدا الصبى… على كتّابه” (ص 27)، “والواقع من الأمر أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتها” (ص 36)، “الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة” (ص 35)، “لا تستطيع أن تصوّر إلا حزنا هادئا فيه شىء من أمل يسير” (ص 46)، “ليس هو نائما، وليس يقظان، وإنما هو شىء بين ذلك” (ص 62)، “قد تقدمت به السن شيئا” (ص 103)، “وأشعل سيجارته فى شىء من أنفة، ونهض فى شىء من كبرياء” (ص 121)، “ثم هُمْ، على كثرة ما يملكون، … أشبه شىء بالصخرة المصمتة” ( ص 173)… وهكذا.
وبعد هذا التحليل الأسلوبى المرهق أرجو أن أكون قد قَدَرْتُ على إبراز بعض من السمات التى تميز لغة الدكتور طه حسين وتضفى عليها تلك النكهة الخاصة الحلوة السهلة المتأنية الفخمة المغرية بل المخدِّرة فى كثير من الأحيان. على أن جاذبية كتابات الرجل لا تتوقف هنا، بل ثمة أشياء أخرى فى هذا الكتاب لا بد من الإشارة إليها: فمثلا قد يجد القارئ، فى خروج طه حسين عن تيار الحكاية وانحرافه إلى الحديث عن أصول القصة كما يرسمها النقاد ويطالبون القصّاص بالتزامها، ما يشدّه إلى هذا اللون من الكلام. فها هو ذا المؤلف يشركه معه فى مناقشة أمر من أمور الأدب والنقد بما يشى بثقته فى عقله وذوقه ومقدرته على أن يرتفع إلى مستواه فى هذا المجال، وهو لون من التواضع يحبب الناس فى صاحبه، وبخاصة إذا ما بدا وكأنه يريد أن يستطلع طلعهم ويأخذ رأيهم فى هذه القضايا مما يعنى أنهم قد أصبحوا مثله فهمًا لقواعد الفن القصصى ومقدرةً على تكوين رأى فى مسائله، وبالذات إذا كان تناول الدكتور طه للأمر تناولا سهلا سريعا لا يمس أعماقه، بل يكتفى منه فى الغالب بلمس السطوح القريبة التى لا تعنت الذهن ولا تثقله بالتحليلات المفصّلة وتتبُّع الدقائق واستعراض الآراء المختلفة فى المسألة ومناقشتها واحدا واحدا. إن طه حسين بهذا يكتسى ثوب الرجل الديمقراطى الذى ينزل إلى مستوى ناخبيه (أو قل: قارئيه) يبادلهم الحديث ويستمع إلى آرائهم. ثم إنه هنا يجرِّئ القراء على كسر القواعد التى يتهمها بالظلم والعسف والاستبداد، ومن يا ترى يستطيع أن يكره الدعوة إلى تعرية الظلم والعسف والاستبداد؟ أما القراء الذين لا تجوز عليهم تلك الحيلة الفنية فإنهم يَرَوْن فى ذلك لونا من الخروج على المألوف يتمثل فى قيام القَصّاص بكشف أسرار العملية الذهنية الإبداعية أثناء ممارسته لتلك العملية ذاتها. وأذكر أننى قد تناقشت ذات ليلة أنا وزميل يمنىّ (كان يدرس فى بريطانيا للحصول على درجة الدكتورية من جامعة أوكسفورد فى الأدب الإنجليزى) حول هذا الاستطراد الذى انتهجه طه حسين فى “المعذبون فى الأرض” ومدى جواز قبوله أو لا. وأذكر أيضا أننا قلنا إنه قد يُغْتَفَر لطه حسين ما لا يُغْتَفَر لسواه. نقصد أن أسلوبه العذب الجميل ومكانته التى حققها فى دنيا الكتابة يشفعان له ألا نحاسبه على مثل هذا الانحراف عن قواعد كتابة القصة. وفوق ذلك فطه حسين لا يكتفى بمناقشة النقاد والسخرية من قواعدهم وأصولهم فحسب، بل يضيف إلى هذا ما يمكن أن نقول: مناكفته للقراء، هذه المناكفة الفنية التى تخيِّل لمن لا يعرف الأمر أن هناك من القراء من يعترض على طريقته هذه أو تلك فى معالجة القصة التى بين يديه، على حين أن الأمر لا يعدو رغبة الكاتب فى استفزاز اهتمام قرائه وإثارة شعور الرضا عن النفس لديهم كما سبق أن وضحنا، وبالذات إذا كان الكاتب حريصًا حِرْصَ الدكتور طه على تجنب ما يمكن ان يُشْتَمّ منه رائحة اتهام القراء بعدم الإلمام بما يعلمه هو، إذ يصوِّر الأمر على أنه مجرد رغبة منه فى ألا يخضع لما يريده النقاد والقراء الذين يمكن أن يظاهروهم عليه من الاستبداد به والعمل على خنق حريته الفنية!
والآن مع نص من النصوص التى يناقش فيها طه حسين نقاد القصة والقواعد التى يَدْعون إلى مراعاتها ويتناول الكلام عن موقفه منها، والنص مأخوذ من قصة “صالح”، وهى عن صبى فقير كان بطلُ القصة (وهو صبىٌّ مثله، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه فى صباه)، يدعوه إلى بيتهم ليصيب معه من أطايب الطعام التى تصنعها أمه فى بعض المناسبات الاجتماعية: “وما أشك فى أن القارئ سيقف عند هذا الموضع من الحديث وسيسأل نفسه، ولو استطاع لسألنى أنا: ألم يكن من الخير أن نعرف من أول القصة أن صالحا قد فقد أمه، وأنه كان يعيش يتيما ينعم بما يختلس من حب أبيه سرًّا ويشقَى جهرًا بما يُصَبّ عليه من بغض هذه الضَّرّة التى قامت مقام أمه فى البيت؟ ولست أشك فى أن القارئ سيضيف إلى هذا السؤال ملاحظة فيها شىء من القسوة والسخرية والغيظ فيقول فى نفسه: لو أن الكاتب سلك فى قصته هذه الطرقَ الممهَّدةَ والسبيل المعبَّدة التى رسمها النقاد للقصة لعرَّف إلينا صالحا فى أول حديثه ولأنبأنا بموت أمه وتزوُّج أبيه، ولأعفانا من هذه المفاجأة التى لم نكن فى حاجة إليها. ولكنى أعيد على القارئ ما قلتُه آنفا من أنى لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثا. وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات التى يبيّنون فيها الموطن والبيئة والأسرة والزمان والمكان… إلى آخر هذا الكلام الثرثار الفارغ الذى يلهج به النقاد. ولو أنى بدأت هذا الحديث برسمٍ واضحٍ دقيقٍ لشخصية صالح وأمين ومن يتصل بصالح وأمين من الناس لضاق القراء بهذه المقدمات أشد الضيق ولقال بعضهم: تَجَاوَزْ حديث الطوفان وصِلْ إلى غايتك، فلسنا من الغباء والغفلة بحيث نحتاج إلى كل هذا التمهيد. وبَعْدُ، فمن أنبأ القارئَ بأن صالحا يتيم وبأن أمه قد ماتت؟ الشىء الذى لا أشك فيه ولا ينبغى أن يشك فيه القارئ هو أن صالحا لم يكن يتيما وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حيَّة أكثر مما ينبغى أن يحيا الناس إن صَحَّ أن تَكْثُر الحياة وتَقِلّ. وسواء رضِىَ القارئ أم لم يرض فقد كانت أم صالح حية من غير شك، لأنى أنا أريد ذلك، وليس يعنينى ما يريد غيرى من الناس، فأنا الذى اخترع صالحا من لاشىء، أو أخذ صالحا من عُرْض الطريق، لأن صالحا موجود ولأنه غير موجود: موجود فى حقيقة الأمر لأننا نراه فى كل ساعة وفى كل مكان، وغير موجود فى حقيقة الأمر أيضا لأنه يملأ المدن والقرى ويسرف على نفسه وعلى الناس فى الوجود، والشىء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده كما يقال. فأنا إذن وحدى، كما كان يقال أيضا، أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيرى من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها طُلِّقَت، وأنا أستطيع أن أصنع بأمه بعد الطلاق ما أشاء: أستطيع ان أدعها مطلقة تعمل خادما فى بعض الدُّور، وأستطيع أن أجد لها زوجا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخِّرها لعمل من هذه الأعمال التى يعيش منها أمثالها من البائسات: فقد أسخّرها لبيع الخضر، وقد أسخِّرها لبيع الفاكهة، وقد أكلِّفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء وأوساط الناس، وقد أكلِّفها أن تغسل الثياب فى هذه البيوت، وقد أجد لها ما أشاء من الأعمال غير هذا كله لأنى حُرٌّ فيما أحب أن أسوق إلى القارئ من حديث ولأن القارئ مضطر إلى أن يتلقى حديثى كما أسوقه إليه، ثم هو حُرٌّ فى أن يقبله أو يرفضه، وفى أن يرضى عنه أو يسخط عليه. والواقع أنى لا أكلِّف أم صالح شيئا من هذه الأعمال التى ذكرتُها ولا أفرض عليها شيئا من هذه الخطط التى رسمتُها لأنى، على حريتى فى أن أصنع بها ما أشاء، أُوثِر الأمانة فى رواية التاريخ. وقد حدثنى التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة…” (ص 35- 37).
ومع هذا فمن الكتاب من يضيق بهذا الكلام من طه حسين وينتقده عليه انتقادا شديدا، ولكلٍّ وجهةُ نظره ورأيُه الذى يرتئيه. ومن هؤلاء محمود عبد المنعم مراد، الذى قال: “إن طه حسين فى مقدمة قصة “المعذبون فى الأرض” يقول: “لا أضع قصة فأُخْضِعَها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول لأننى لا أومن بها ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لى القواعد والقوانين مهما تكن، ولا أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته أن يدخل بينى وبين ما أُحِبّ أن أسوق من الحديث، وإنما هو كلامٌ يخطر لى فأُمْلِيه ثم أُذيعه. فمن شاء أن يقرأه فليقرأْه، ومن ضاق بقراءته فلينصرفْ عنه”. ثم يعلله قائلا إنه يضع نفسه فوق النقد ولا يحب أن يسمعه ولا يعترف به ولا يرى أن يُقيم له وزنا! ولماذا؟ لأنه يريد أن يكون حُرًّا فيما يكتب ويُذِيع على الناس! وكيف إذن بنى طه حسين مجده الأدبى؟ ألم يكن ذلك على حساب غيره من الأدباء: القدماء والمُحْدَثين على السواء؟ يخيَّل إلىّ أن الذى ألجأ طه إلى هذه الثورة الغاضبة على النقاد والقراء هو إحساسه فى ذلك الموضع من كتابه أنه يتعرض للنقد، فأراد أن يقطع الطريق على هؤلاء الفضوليين. ولا أعرف فى التاريخ كله كاتبا مَهْمَا تبلغ عبقريته يستطيع أن يقول للناقد: “قف! من أنت؟”، ولن يستطيع طه بهذا الكلام الذى ساقه أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه”(45). إن الأستاذ مراد إنما يأخذ طه حسين بالقواعد التى ينبغى على كاتب القصة مراعاتها والالتزام بها، ومن هنا فإنه ينتقده لقوله إنه غير ملزم بهذه القواعد، وإن من حقه الخروج عليها إذا أحب. لكن ينبغى الالتفات إلى أن الدكتور طه قد قال أيضا إنه لا يكتب قصة حتى يلتزم بأساليب القصة، وإنما يسجل تاريخا. حسنٌ، فنحن إذن عندما نستمتع رغم ذلك بما كتبه طه حسين هنا فإننا لا ننظر إليه على أنه قصة، بل على أنه أسلوب جميل متميز له نكهة خاصة عجيبة حاولنا فيما مضى من صفحات أن ننبه على بعض خصائصها، فضلا عما سنضيفه لذلك لاحقا. وعلى أى حال فقد قال مراد إن هذا الكلام الذى ساقه طه حسين عن القواعد وعدم وجوب خضوعه لها لن يستطيع أن يمنع قارئا من أن يُبْدِىَ إعجابَه بما كتب أو سُخْطَه عليه. وعلى هذا فإن شقة الخلاف بيننا وبين محمد عبد المنعم مراد ليست بالتى تُذْكَر.
ومما يتميز به طه حسين فوق هذا كله البراعة فى الوصف وفى سرد الذكريات. إنه يرتقى مرتقًى عاليًا حين يتحدث عن صباه وشبابه وما جرى أثناءهما من أحداث وما اتصل بهما من أشخاص، وبخاصة الأحداث البائسة والشخصيات الشعبية الفقيرة. وفى “المعذبون فى الأرض” صفحات يبلغ فيها فنُّ الرجل سماواتٍ عليا يصعب مجاوزتها إلى ما فوقها، ومنها على سيل المثال تلك الصفحات التى خصصها لأم تمام فى قصة “المعتزلة”، حيث يحكى قصة أسرة قروية بائسة تتكون من أم عجوز قبيحة شديدة القِصَر متلاشية الصوت، قد فقدت بعض أسنانها وانحنى أعلاها على أسفلها على نحو بشع جعلها أقرب ما تكون إلى العجماوات، وإذا مشت خُيِّل للناظر أنها كرة تتدحرج على الأرض، تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منها أقراصا تجففها وتبيعها وقودا تستعين بثمنه على ضروريات الحياة، وولدين يشتغلان فى بناء الأكواخ يوما وينقطعان أياما، وبنتٍ فى نحو الثالثة عشرة يتصارع فى وجهها وملامحها القبح والجمال ولا تشتغل بشىء. وكانت هذه الأسرة رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها تعتصم بكرامتها فلا تمد يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم معا. ولنترك المؤلف نفسه يحكى لنا قصتها: “كانت أم تمام قصيرة مسرفة فى القِصَر، منحنية مسرفة فى الانحناء، همّت قامتها أن ترتفع فى الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خُلِقَتْ لتلتصق بالأرض التصاقا. وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذى القامة المعتدلة والقَدّ المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خَيَّلَتْ إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة. وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخفّ عنها قوة الدفع فتضطرب مبطئةً تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل الضئيل يستحيل إذا تكلمت إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميّز حروفَه إلا بمشقة وجهد…
ولم تحاول أم تمام قَطّ ولم يحاول أحد من بنيها قَطّ الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة المُلِحّة تضطرهم إلى ذلك اضطرارا، فقد كانوا يحتاجون أحيانا إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أَوَدهم. وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها فى بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تلتقط من هذه الطريق رَوْث البقر والجاموس تقطعه قِطَعًا متقاربة وتجففه على سقف بيتها وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أُتيح لها الطبخ، وتبيع فَضْله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القروش توسِّع بذلك على نفسها وبنيها. ولم يخطر، فيما أعلم، لأحد من المُوسِرين ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يَبَرّوا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم فى أكثر الظن قد همّوا أن يَبَرّوا هؤلاء الناس فردّوا أيديهم فى شىء من التعفف الذى لا يُحَبّ من الفقراء، فكفَّ الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم فى الرزق… وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة ثقيلة سمجة ليست منهم وليسوا منها فى كل شىء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس فى إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو، إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا، فيشتمل على شىء من شماتة. كانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة فى بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل. وكانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين وقد بَلِيَتْ ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تُسْتَر، ورُقِّعَتْ حتى ملَّت الترقيع. وكانوا يَرَوْنَ سعدى فى أسمالها البالية فيرحمون هذا الصِّبا النَّضْر فى هذا الغشاء المبُْتَذَل ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناسُ عيشا أرقَّ رِقّةً وأرفه لينا…
ويُلِمّ الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس فى أنفسهم وأبنائهم وذوى قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام فى طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنيها فى أقل من خمسة أيام، وهى مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هى مقيمة فى بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يُلِمّ الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه، فإذا طال انتظار أم تمام له فى غير طائل نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بُدِّلَت تبديلا، فهى لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصبيّة وتحرّج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هى مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفيين إلى البيوت. كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة فى شقتها السوداء مطرقة بجسمها كله إلى الأرض فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب وترفع رأسها فى تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها ثم تلتفت إلى يمين وإلى شِمَال تجذب الهواء بأنفها جذبا كأنما تحاول أن تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شِمَال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا فى دار من هذه الدور التى ألم بها الموت وقام فيها المأتم يندين ويبكين. وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئا ولا تلقى إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات وتجلس حيث ينتهى بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها ولا تخمش صدرها ولا تصنع صنيع أحد من النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها كأنها قطعة من صخرٍ سُوِّيَتْ على عجل ونُحِتَتْ فى غير نظام، وفاض من عينيها دمعٌ غزير غير منقطع كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التى يتفجر عنها الصخر فى الجبال. حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء فى هذه الدار تركتها إلى دار أخرى ثم إلى دار ثالثة. وما تزال كذلك حتى ينقضى النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين يكلمونها رجع الحديث.
أكانت تبكى ابنيها أم كانت تبكى أبناء تلك الأسرة التى كانت تلم بها أم كانت تبكى صرعى الوباء جميعا أم كانت تبكى نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا. لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يُسْفِر الصبح، وتسفح دموعها فى منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وبنتها حين يُقْبِل الليل. وتنجلى غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت!
ويراها أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضُّحَى، وأخذت بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: “هذه أم تمام قد ملَّت البطالة وسئمت السكون وشَقَّ عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله”. ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتى نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتع على الموت امتناعا، قد رأَوْا أم تمام تغرق نفسها وابنتها فى القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة وسبقوه هم إلى الصبية”. وتصاب الفتاة من جَرّاء ذلك بالجنون ويراها الناس دائما مشردة تسعى فى الطرقات كأنها السلحفاة أو تعدو كأنها الأرنب ، أو جالسة إلى شط القناة تنظر إلى الماء أو تتطلع إلى المساء. وتظلّ فى حالها هذا يعطف عليها الناس مرة ويسخرون منها مرات… إلى أن فوجئوا ببطنها ذات يوم منتفخا، فعلموا أن أحد الذئاب البشرية قد استغل بلاهتها واعتدى على عِرْضها. ثم تفرّق الأيام بين الراوى وسعدى فلا يدرى ماذا حدث لها، إلى أن يعود الوباء كرة أخرى فيتذكر أم تمام وابنتها البلهاء، وإن ظل لا يعرف من أمر الفتاة شيئا” (ص 87- 101).
أرأيتَ إلى فن الكاتب العجيب فى وصف الأم وابنتها وسرد ما وقع لهما؟ ترى كيف استطاع طه حسين، وهو الكفيف، أن يصور أم تمام فى انحنائها ومشيها وتقريصها روث البهائم وتنسُّمها ريح الموت، وهو الذى لم أجد له فى هذا الكتاب من ألفاظ الألوان تقريبًا إلا الأبيض والأحمر: الأبيض والأحمر بإطلاق؟ وكيف استطاع أن يوحى لنا بفظاعة الفقد وجوّ الموت الذى لا يرحم، وأن يتدسَّس إلى قلب أم تمام الملتاع على ولديها ويصوّرها وقد كَظَمَتْ آلامها فلم تُعْوِل بالصياح ولم تلطم خَدًّا، بل اكتفت بالبكاء الصامت وانتظار شبح الموت الشنيع، حتى إذا استبطأته بعد طول انتظار أخذت زمام المبادرة فألقت بنفسها وابنتها فى الترعة التماسًا للراحة من العناء الذى يَؤُود الظهر والفؤاد، لتموت هى وتعيش الابنة، لكنها عيشةٌ الموتُ أفضل منها آلاف المرات! كيف يا إلهى استطاع طه حسين أن يفجر الدمع على هذا النحو فى جوامد العيون؟ إنه حديث الذكريات الذى يبرع كاتبنا فى تناوله بل فى استحيائه براعةً عجيبةً قَلَّ أن يباريه فيها نظير، وهو نفسه ما صنعه فى كتابه “الأيام”، وبخاصة فى وصفه موت أخته الصغيرة ذات الأعوام الأربعة التى كانت ريحانة الأسرة، وأخيه الذى كان قد قُبِل ذلك الصيف طالبًا فى مدرسة الطب وكان يساعد الأطباء فى معالجة المصابين من أهل قريته أثناء انتشار الكوليرا فى مصر فى بداية القرن العشرين، فالتقط العدوى من بعض المرضى وسرعان ما اغتاله الموت بعد أن برّحت به الآلام تبريحا فظيعا، مخلِّفا حسرةً فى قلب أمه إلى آخر حياتها، وهو وصف أبكانى عندما أعدت قراءة ذلك الكتاب فى الصيف قبل الماضى، وكأن الصبيّة والفتى ابناى أنا، وكأن موتهما لم يمرّ عليه سوى أيام معدودات(46)! وقد بلغ من قوة الأثر الذى خلّفه وصف الدكتور طه لموت أخويه أن زكى مبارك كتب فى أوائل الأربعينات يقول إنه فكر أن يرسل له برقية عزاء رغم مرور ما يقرب من أربعين عاما على وفاتهما(47).
الهوامش:
(1) الأيام/ ط 29/ دار المعارف/ 1981م/ 2/ 173.
(2) ط. دار المعارف/ سلسلة “اقرأ”/ العدد 118/ نوفمبر 1952م.
(3) الإسراء/ 12.
(4) الذاريات/ 26.
(5) الصف/ 14.
(6) نوح/ 13.
(7) الروم/ 2.
(8) البقرة/ 155.
(9) البقرة/ 19.
(10) البقرة/ 7.
(11) فصلت/ 5.
(12) محمد/ 24.
(14) يونس/ 78.
(15) الذاريات/ 24.
(16) الأعراف/ 57.
(17) الرعد/ 12.
(18) ق/ 22.
(19) انظر، فى رأى د. البدراوى زهران فى هذا الموضوع، كتابه “أسلوب طه حسين فى ضوء الدرس اللغوى الحديث”/ دار المعارف/ 1982م/ 81- 84.
(20) آل عمران/ 83.
(21) الأحزاب/ 11.
(22) الكهف/ 50.
(23) الزخرف/ 16.
(24) الجاثية/ 19.
(25) الأنعام/ 33.
(26) الأحزاب/ 18.
(27) القلم/ 25.
(28) النحل/ 101.
(29) آل عمران/ 164.
(30) الحِجْر/ 78.
(31) النساء/ 150
(32) الفرقان/ 67.
(33) النمل/ 22.
(34) البقرة/ 185.
(35) يوسف/25.
(36) النساء/ 61.
(37) النساء/ 164.
(38) الإسراء/ 70.
(39) مريم/ 76.
(40) الجاثية/ 32.
(41) الطور/ 9- 10.
(42) انظر محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان العلماء والأدباء/ المكتب الإسلامى/ بيروت ودمشق/ 1403هـ- 1983م/ 594- 595)
(43) المرجع السابق/ 632، نقلا عن كتاب الرافعى “تحت راية القرآن”)
(44) السابق/ 592- 593، نقلا عن كتاب الرافعى “تحت راية القرآن”.
(45) محمود مهدى الإستانبولى/ طه حسين فى ميزان الأدباء والعلماء/ 496، نقلا عن جريدة “المصرى” القاهرية فى 30 يناير 1953م. على أن ههنا كلمة تعقيب أحب أن أُدْلِىَ بها، فقد ذكر الأستاذ مراد أن طه حسين قال كلامه هذا فى مقدمة قصة “المعذبون فى الأرض”، على حين أن هذا الكلام لا يوجد فى هذا الموضع بل فى تضاعيف قصة “قاسم” فى الصفحة الثانية والعشرين من الطبعة التى بين يدىّ، كما أن الكتاب هو فى الواقع مجموعة من القصص القصيرة والمقالات، وليس قصة واحدة كما قال الأستاذ مراد أيضا.
(46) الأيام/ ط 63/ دار المعارف/ 1988م/ 1/ 118- 137، وهو الفصل الثامن عشر من الكتاب.
(47) كريمة زكى مبارك/ زكى مبارك ناقدا/ دار الشعب/ 1978م/ 65.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى