مقالات

أحبك وطني لكن ﻻ أعرف لماذا!!

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

وُلِدّتُ في مدينةٍ تحاول نفض عبء القرية، الذي ﻻزمها طوال السنين الماضية.
الحمد لله صرنا الآن مدينة وﻻ أعرف ما الذي تغير؟!!، حتى شرطي المخفر يلبس نفس البزة العسكرية من عشرين عاماً، فلا وجهه العابس تغيير، و ﻻ بزته القبيحة.
آه.. لربما جاءنا رئيس مجلس مدينة محترف أكثر في فن الخداع البصري والمادي أكثر من رئيس المجلس المحلي السابق.
بدأنا نرى تحرر المدينة من عاداتها القروية التي تركتها، واتجهت نحو الحرفة والصناعة والتجارة والوظيفة العامة، وهجر أكثر أبنائها الأرض، وتركها لقلة منهم، أو لأغراب عنها.
في مدينتي الرائعة الجميلة مرض نفسي خطير يعاني منه الجميع هو مرض الجاهلية الأولى ، وهو “العنصرية”
(وهذا عائد لنوع الهواء الذي نتنفسه تذكروا هذا جيداً ).
كما تعاني من تناقض غريب، ينبع من معرفة الناس بعضهم ببعض، واكتشفت لاحقاً أن هذا هو الحال في جميع أنحاء سورية!،
الكل في مدينتي كعائلة واحدة، الكل يعرف تاريخ الآباء والأمهات والأجداد ، رجالاً ونساء ، صغيراً وكهلا كبيراً، الكل يعرفني وأنا أعرف الكل ، لكنها نعمة نقمة في نفس الوقت أن يعرف الجميع بعضهم البعض، يتجلى المرض النفسي والنعمة السيئة في ألفاظ وتعامل مثل
( من أبوك، أنت ابن فلان ، أليس أبوك في يوم ما حدث معه هكذا ، أنتم أساسكم ليس من البلد ﻷن جد جدك كان من خارج البلد وجاء وسكن عندنا ).
كما تتجلى المعاناة من هذا المرض في مراحل الخطوبة، ثم الزواج، (أنتِ بنت فلان تتزوجين هذا ابن فلان، ” شو الله عَمّى على قلبكم”، معقول أنت ابن فلان أن تنظر إلى فتاة كهذه لا تعرف من هو أباها ، أمه قالت لك حضري لنا الشاي، ومن هي أمه لتطلب وتأمر؟، والله صاروا بيت فلان وتصوروا !)
تكمن في فكر الآباء والأمهات صورة ٌمشوهة ٌعن بقية الناس خارج فضاء المدينة.
الطريف في الموضوع، أن القرى المحيطة بالمدينة تعاني من نفس المرض، فهي تكره المدينة ﻻ بل تحقد عليها، ﻷنها تخلت عن طابعها الفلاحي و القروي، واتجهت نحو التشبه بظواهر المدنية الغربية.
ومع انتقالي في مراحل الدراسة الجامعية والعمل كمحامٍ إلى دمشق، كان المرض الجاهلي يتجلى بأعظم صوره بين سكانها، فهي أم العنصرية وأبوها و أوﻻد الخالة و بنات العم ، كما في بعض كلماتهم :
“أنت من الريف؟ هل تعيشون مثلنا؟! أعندكم بيوت؟ أم تعيشون في الخيام؟!!، بالله.. أتتعلمون، وتعرفون، وتفهمون مثلنا؟”.
كم هي قبيحة تلك الألفاظ ، وإن جاءت من باب المزاح والتسلية، لكنها موروث الآباء والأجداد!.
المصيبة الأعظم أنك تجد هذه العنصرية ذاتها بين أحياء دمشق كلها!
يسألون بعضهم بعضا مستفهمين عن أصلك وفصلك: “أأنت من داخل السور أو خارجه؟” ، عمارة أو قنوات؟، شاغور فوقاني وﻻ شاغور تحتاني؟، هل أنت ميداني؟ يعني أن أجداد أجدادك جاؤوا من درعا، لأن حي الميدان كان سوقاً ﻷهل درعا! ، هل أنت صالحاني؟ وهذا يعني أنك فلاح! لأن الصالحية كانت منطقة بساتين وزراعة.
وطبعا نفس هذه الجاهلية تمارس على بقية المحافظات وفيما بينها: “أنا شامي ، أنا حوراني ، أنا حموي، أنا ديري، أنا رقاوي، أنا حمصي… “. ويقصد بها أني أمتلك جينات خارقة تختلف عن البقية.
بعد تخرجي من الجامعة، انتقلت إلى الوظيفة العامة ( السيادية) كضابط في الشرطة ، ومن خلالها أبصرت حقيقة أخرى وهي: أن شرطياً مجهول النسب “ﻻ أصل له” ، فاشل دراسياً واجتماعيا وثقافياً وأخلاقيا ، كان يمارس سادتيه وسيادته على كل هؤلاء ، دون أن يتجرأ واحد منهم حتى أن يسأل عن اسم الشرطي، أو قريته أو أي انتماءات أخرى!
و كان “شريك الوطن¹” يمارس على الجميع فن”البسطار العسكري” ، وجميع أهل الأصل والفصل مضطرون .. يضحكون له، و يحاولون التقرب منه، ويتذللون عنده، فيما يسمى عندنا تمسيح الجوخ، وينسى الجميع أن يسأل “شريك الوطن” هذا، من هو؟ ومن أباه؟ وكيف هو مجتمعه؟ وماهي قيمه؟ وأخلاقه؟ ودينه؟!.

أزمة الهوية والانتماء، ومفهوم العدو، وحالة الضياع، واللاوطنية، هي المؤرق الذي رافقني في حياتي كلها، فمن أنا ؟!!وإلى مَنْ أنتمي؟!!، وإلى مَنْ أقدم ولائي؟!! ومَنْ هو عدوي؟!!

كانت تلك الأسئلة : هي صراعي مع ذاتي خلال سني عمري
ولربما هي مقتل الثورة السورية، وإن كانت ليست وليدة الثورة، لكنها تسير في عروق
المواطن السوري منذ عصور، نظام المقبور حافظ فقط أيقظها بعد أن كان قد دفنها محمد بن عبد الله (عليه الصلاة والسلام).

مشكلتنا كبيرة يا سادة، لقد استنشقنا من هذا الجنون حتى اختلط بدماءنا.

ألم أخبركم في البداية أن المشكلة تكمن في نوع الهواء الذي نتنفسه.!!

شكراً وطني فأنا أحبك لكن لا أعرف لماذا ؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى