ثقافة وأدب

ما كتبه طه حسين عن أم تمام في “المعذبون في الأرض” – صفحات من فصل “طه حسين” من كتابي: “دراسات في النثر العربي الحديث”

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

ومما يتميز به طه حسين فوق هذا كله البراعة فى الوصف وفى سرد الذكريات. إنه يرتقى مرتقًى عاليًا حين يتحدث عن صباه وشبابه وما جرى أثناءهما من أحداث وما اتصل بهما من أشخاص، وبخاصة الأحداث البائسة والشخصيات الشعبية الفقيرة. وفى “المعذبون فى الأرض” صفحات يبلغ فيها فنُّ الرجل سماواتٍ عليا يصعب مجاوزتها إلى ما فوقها، ومنها على سيل المثال تلك الصفحات التى خصصها لأم تمام فى قصة “المعتزلة”، حيث يحكى قصة أسرة قروية بائسة تتكون من أم عجوز قبيحة شديدة القِصَر متلاشية الصوت، قد فقدت بعض أسنانها وانحنى أعلاها على أسفلها على نحو بشع جعلها أقرب ما تكون إلى العجماوات، وإذا مشت خُيِّل للناظر أنها كرة تتدحرج على الأرض، تجمع روث البهائم من الطرقات وتصنع منها أقراصا تجففها وتبيعها وقودا تستعين بثمنه على ضروريات الحياة، وولدين يشتغلان فى بناء الأكواخ يوما وينقطعان أياما، وبنتٍ فى نحو الثالثة عشرة يتصارع فى وجهها وملامحها القبح والجمال ولا تشتغل بشىء. وكانت هذه الأسرة رغم فقرها المدقع ورثاثة حالها تعتصم بكرامتها فلا تمد يدها إلى أحد ولا تقبل معونة من أحد مما أكسبها احترام الناس وكراهيتهم معا. ولنترك المؤلف نفسه يحكى لنا قصتها: “كانت أم تمام قصيرة مسرفة فى القِصَر، منحنية مسرفة فى الانحناء، همّت قامتها أن ترتفع فى الجو فلم تستطع أن تستقيم، وإنما انعطف أعلاها على أسفلها كأنها خُلِقَتْ لتلتصق بالأرض التصاقا. وكانت من أجل ذلك أشبه بذوات الأربع منها بالإنسان ذى القامة المعتدلة والقَدّ المستقيم، وكانت من أجل هذا إذا مشت خَيَّلَتْ إليك أنها تتدحرج كما تتدحرج الكرة. وكان مشيها بطيئا رفيقا، فكان يشبه حركة الكرة عندما تخفّ عنها قوة الدفع فتضطرب مبطئةً تسعى إلى السكون. وكان صوت أم تمام نحيلا ضئيلا، وكانت قد فقدت بعض أسنانها، فكان صوتها النحيل الضئيل يستحيل إذا تكلمت إلى هواء خافت لا يكاد السامع يتميّز حروفَه إلا بمشقة وجهد…
ولم تحاول أم تمام قَطّ ولم يحاول أحد من بنيها قَطّ الاتصال بالناس إلا حين كانت الضرورة المُلِحّة تضطرهم إلى ذلك اضطرارا، فقد كانوا يحتاجون أحيانا إلى أن يشتروا الطعام ليقيموا أَوَدهم. وكانت أم تمام تحتاج أحيانا إلى أن تبيع، فقد كان يعرض لها فى بعض الوقت أن تخرج إلى الطريق الزراعية العامة، وأن تلتقط من هذه الطريق رَوْث البقر والجاموس تقطعه قِطَعًا متقاربة وتجففه على سقف بيتها وتتخذ منه وقودا لتطبخ إن أُتيح لها الطبخ، وتبيع فَضْله بين حين وحين لبعض نساء القرية بالقروش أو بعض القروش توسِّع بذلك على نفسها وبنيها. ولم يخطر، فيما أعلم، لأحد من المُوسِرين ولأهل الدارين اللتين كانتا تكتنفان بيتها أن يَبَرّوا هذه الأسرة بقليل أو كثير من الخير، لا لأن الموسرين كانوا يبخلون بالمعونة على الذين يحتاجون إلى المعونة، بل لأنهم فى أكثر الظن قد همّوا أن يَبَرّوا هؤلاء الناس فردّوا أيديهم فى شىء من التعفف الذى لا يُحَبّ من الفقراء، فكفَّ الموسرون عن محاولة الرفق بهم والتوسيع عليهم فى الرزق… وكذلك نظر أهل القرية إلى هذه الأسرة على أنها أسرة ثقيلة سمجة ليست منهم وليسوا منها فى كل شىء. وكان أهل القرية مع ذلك يتحدثون فيما بينهم عن هؤلاء الناس فى إشفاق كثير لا يخلو من سخرية، وربما يقسو، إن أمكن أن يكون الإشفاق قاسيا، فيشتمل على شىء من شماتة. كانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين يحتملان أشد العناء وأشق المشقة ليكسبا القروش القليلة فى بعض الأيام، ويتساءلون كيف تعيش هذه الأسرة من هذا الكسب القليل. وكانوا يَرَوْنَ هذين الغلامين وقد بَلِيَتْ ثيابهما فكشفت عن مواضع من الجسم من حقها أن تُسْتَر، ورُقِّعَتْ حتى ملَّت الترقيع. وكانوا يَرَوْنَ سعدى فى أسمالها البالية فيرحمون هذا الصِّبا النَّضْر فى هذا الغشاء المبُْتَذَل ويقول بعضهم لبعض: لولا الكبرياء لأصاب هؤلاء الناسُ عيشا أرقَّ رِقّةً وأرفه لينا…
ويُلِمّ الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس فى أنفسهم وأبنائهم وذوى قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام فى طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنيها فى أقل من خمسة أيام، وهى مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هى مقيمة فى بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يُلِمّ الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه، فإذا طال انتظار أم تمام له فى غير طائل نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بُدِّلَت تبديلا، فهى لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصبيّة وتحرّج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هى مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفيين إلى البيوت. كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة فى شقتها السوداء مطرقة بجسمها كله إلى الأرض فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب وترفع رأسها فى تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها ثم تلتفت إلى يمين وإلى شِمَال تجذب الهواء بأنفها جذبا كأنما تحاول أن تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شِمَال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا فى دار من هذه الدور التى ألم بها الموت وقام فيها المأتم يندين ويبكين. وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئا ولا تلقى إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات وتجلس حيث ينتهى بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال ولا تخفض صوتا بنحيب. لا تلطم وجهها ولا تخمش صدرها ولا تصنع صنيع أحد من النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها كأنها قطعة من صخرٍ سُوِّيَتْ على عجل ونُحِتَتْ فى غير نظام، وفاض من عينيها دمعٌ غزير غير منقطع كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التى يتفجر عنها الصخر فى الجبال. حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء فى هذه الدار تركتها إلى دار أخرى ثم إلى دار ثالثة. وما تزال كذلك حتى ينقضى النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين يكلمونها رجع الحديث.
أكانت تبكى ابنيها أم كانت تبكى أبناء تلك الأسرة التى كانت تلم بها أم كانت تبكى صرعى الوباء جميعا أم كانت تبكى نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا. لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هى أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يُسْفِر الصبح، وتسفح دموعها فى منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وبنتها حين يُقْبِل الليل. وتنجلى غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت!
ويراها أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضُّحَى، وأخذت بيد ابنتها وجعلتا تسعيان فى بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: “هذه أم تمام قد ملَّت البطالة وسئمت السكون وشَقَّ عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله”. ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتى نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتع على الموت امتناعا، قد رأَوْا أم تمام تغرق نفسها وابنتها فى القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة وسبقوه هم إلى الصبية”. وتصاب الفتاة من جَرّاء ذلك بالجنون ويراها الناس دائما مشردة تسعى فى الطرقات كأنها السلحفاة أو تعدو كأنها الأرنب ، أو جالسة إلى شط القناة تنظر إلى الماء أو تتطلع إلى المساء. وتظلّ فى حالها هذا يعطف عليها الناس مرة ويسخرون منها مرات… إلى أن فوجئوا ببطنها ذات يوم منتفخا، فعلموا أن أحد الذئاب البشرية قد استغل بلاهتها واعتدى على عِرْضها. ثم تفرّق الأيام بين الراوى وسعدى فلا يدرى ماذا حدث لها، إلى أن يعود الوباء كرة أخرى فيتذكر أم تمام وابنتها البلهاء، وإن ظل لا يعرف من أمر الفتاة شيئا” (ص 87- 101).
أرأيتَ إلى فن الكاتب العجيب فى وصف الأم وابنتها وسرد ما وقع لهما؟ ترى كيف استطاع طه حسين، وهو الكفيف، أن يصور أم تمام فى انحنائها ومشيها وتقريصها روث البهائم وتنسُّمها ريح الموت، وهو الذى لم أجد له فى هذا الكتاب من ألفاظ الألوان تقريبًا إلا الأبيض والأحمر: الأبيض والأحمر بإطلاق؟ وكيف استطاع أن يوحى لنا بفظاعة الفقد وجوّ الموت الذى لا يرحم، وأن يتدسَّس إلى قلب أم تمام الملتاع على ولديها ويصوّرها وقد كَظَمَتْ آلامها فلم تُعْوِل بالصياح ولم تلطم خَدًّا، بل اكتفت بالبكاء الصامت وانتظار شبح الموت الشنيع، حتى إذا استبطأته بعد طول انتظار أخذت زمام المبادرة فألقت بنفسها وابنتها فى الترعة التماسًا للراحة من العناء الذى يَؤُود الظهر والفؤاد، لتموت هى وتعيش الابنة، لكنها عيشةٌ الموتُ أفضل منها آلاف المرات! كيف يا إلهى استطاع طه حسين أن يفجر الدمع على هذا النحو فى جوامد العيون؟ إنه حديث الذكريات الذى يبرع كاتبنا فى تناوله بل فى استحيائه براعةً عجيبةً قَلَّ أن يباريه فيها نظير، وهو نفسه ما صنعه فى كتابه “الأيام”، وبخاصة فى وصفه موت أخته الصغيرة ذات الأعوام الأربعة التى كانت ريحانة الأسرة، وأخيه الذى كان قد قُبِل ذلك الصيف طالبًا فى مدرسة الطب وكان يساعد الأطباء فى معالجة المصابين من أهل قريته أثناء انتشار الكوليرا فى مصر فى بداية القرن العشرين، فالتقط العدوى من بعض المرضى وسرعان ما اغتاله الموت بعد أن برّحت به الآلام تبريحا فظيعا، مخلِّفا حسرةً فى قلب أمه إلى آخر حياتها، وهو وصف أبكانى عندما أعدت قراءة ذلك الكتاب فى الصيف قبل الماضى، وكأن الصبيّة والفتى ابناى أنا، وكأن موتهما لم يمرّ عليه سوى أيام معدودات(46)! وقد بلغ من قوة الأثر الذى خلّفه وصف الدكتور طه لموت أخويه أن زكى مبارك كتب فى أوائل الأربعينات يقول إنه فكر أن يرسل له برقية عزاء رغم مرور ما يقرب من أربعين عاما على وفاتهما47

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى