مختارات

إلى هيثم المالح الاستاذ الكبير وشيخ المناضلين تحية واعتذار

برهان غليون

عرض مقالات الكاتب

تعرفت على هيثم المالح بعد خروجه من السجن في بداية ربيع دمشق وفي سياقه، وكان من المحامين البارزين والمناضلين الذين حملوا على عاتقهم قضية الدفاع عن حقوق المضطهدين أمام محاكم النظام الغاشم وقضائه الذليل. واصبحنا منذ ذلك الوقت زملاء وأصحاب قضية واحدة. فما كنت امر بدمشق إلا التقيه في مكتبه الذي كان قبلة للنشطاء والمدافعين عن حقوق الانسان، من السوريين وغيرهم. ولم أكن اشك لحظة، عندما قبلت ان أرأس المجلس الوطني أن هيثم المالح، مع القلة الذين جمعتني بهم تجربة ربيع دمشق منذ عام 2001 سيكونون القادة الحقيقيين للمعارضة، وان دوري لن يكون سوى الوسيط الذي يؤلف بينهم. لكن المجلس الذي تشكل، كما نعرف جميعا، في ظروف صعبة وبعد مؤتمرات وإخفاقات، وأشهر طويلة من الانتظار، أراد ان يضمن نجاحه بالرهان على تحالف منظمات سياسية وتنسيقيات شبابية فقط، ولم يدع للمشاركة في تاسيسه شخصيات وطنية سياسية او ثقافية، تجنبا للحساسيات والتجاذبات، وربما كان هذا أحد الأخطاء التي رافقت تشكيله. وربما العكس.
لكن بالنسبة لي، كما كتبت في “عطب الذات”، كان تعاون هؤلاء مع المجلس تحصيل حاصل، بسبب العلاقة الشخصية والثقة المتبادلة التي كانت تجمعني بهم، وبسبب حساسية اللحظة التي لا تسمح بالتردد او وضع اهمية كبيرة للاعتبارات الشخصية. ولذلك ما إن اعلن تشكيل المجلس حتى اتصلت بهم جميعا، واحدا واحدا، ودعوتهم لاخذ مواقعهم في المكتب التنفيذي، وقد تردد بعضهم واعتذر آخرون، وكان هيثم المالح من الذين لبوا الدعوة، قبل ان يتبعه وليد البني وكمال اللبواني، بعد خروجهم من السجن.
كنت اعتقد ان الجميع يعرف انني لم أكن معنيا بالمناصب السياسية، ولم اتعامل مع رئاسة المجلس كمركز سلطة فعلية بما تعنيه من تراتبية في القرار. بالعكس كنت أراهن على بناء علاقات الأخوة وتقديمها على أي علاقة أخرى، أولا لتجنب الحساسيات الشخصية، وثانيا لأنني أردت أن أقصر وظيفتي في القيادة، ووظيفة المجلس الوطني نفسه في الثورة، على جمع الطاقات والتقريب بينها ونزع فتيل التنافس والانقسامات عنها، وثالثا، لأنه لم يكن هناك في الواقع العملي ما يستحق ممارسة اي سلطة، او التفرد بها، ولم يكن حيزها يتجاوز بالكاد اختيار الاسماء المشاركة في الوفود الدبلوماسية. وهو الأمر الذي تخليت عنه بعد ان عجزت عن التوفيق بين الرغبات، وأوكلت إلى أعضاء المكتب التنفيذي أنفسهم مهمة تشكيل الوفد المشارك في اي محادثات سياسية. وللسبب ذاته ما كنت اكف عن ترداد أنني لا أطمح في أي منصب سياسي في المستقبل أمام الجميع. وعندما تبين لي انه لم يعد هناك مجال لمتابعة هذه المهمة انسحبت بإرادتي الى موقعي الأصلي كمثقف يضع قلمه وخبرته في خدمة نضالات شعبه ومناضليه فحسب.

عندما انضم هيثم إلى المجلس كان ذلك حدث مهم بالنسبة لي وللمجلس أيضا. وقد كان له دور بارز في مواجهة الكثير من الألاعيب الصبيانية كما ذكر بالفعل. ومهما كان الاختلاف الذي نشأ بيننا في المواقف السياسية، او في تقدير الأوضاع وتحديد المهام والخيارات، فله الفضل في تذكيري، من خلال رد فعله وعتبه المشروع والمحق، بحقيقة اننا يمكن ان نخطيء حتى عندما نقول “الحقيقة”. فالحقيقة بالضرورة متعددة الوجوه لا يمكن ملامستها من جانب واحد، والاشارة إلى وجه منها دون وجه آخر يسيء إليها. وهذه هي مشكلة الباحث الاجتماعي الذي يضطره موضوع البحث، أن لا يرى من الظاهرة سوى ما يفيد في تحقيق فرضياته. فيجد نفسه مضطرا لا محالة إلى التركيز على جانب أو على سلوك محدد في لحظة معينة أو سياق خاص، ويهمل الجوانب الأخرى.
فلا تختصر تجربة هيثم المالح النضالية، الفذة بكل المعاني، بتجربته القصيرة، لأشهر بل لأسابيع معدودة، في المجلس الوطني. فقد كان هيثم المالح خلال تاريخه السياسي، منذ ان أقيل من منصبه في القضاء عام 1966 واودع السجن، وبعد خروجه بشكل خاص، رجل المقاومة والصمود الأكثر بسالة في وجه وحش الطغيان، وكان في كبريائه وتحديه للسلطة التي نظر إليها دائما كسلطة الأمر الواقع، ولم يقبل لحظة التعامل معها كسلطة شرعية، تجسيدا لكبرياء شعب كامل وصموده وتحديه الاسطوري لسلطة غاشمة مدججة بالسلاح ومدعومة من القوى الاجنبية. وعلى هيثم المالح ينطبق، أكثر من جميع رفاقه الذين لا يقلون شجاعة ولا صبرا وايمانا وصمودا عنه، مثال العين التي تقاوم المخرز.

لقد كان هيثم المالح قبل الثورة ثورة بحد ذاته، على جلاديه ومضطهديه. وكان لمداخلاته الجرئية وروح التحدي التي كانت تميز انتقاداته التي لا ترحم، للنظام وأعوانه، الأثر الأكبر في تعزيز معنويات نشطاء الثورة ومساعدتهم على مواجهة الرصاص والموت. وإنني مدين له بالاعتذار لعدم مبادرتي بالتذكير، إلى جانب المسائل الصغيرة التي اعترضت تعاوننا، بالخدمات الجليلة التي قدمها للقضية السورية قبل الثورة وبعدها. ومن حقه أن يحظى بالاعتراف والتقدير الذي يستحقه عن جدارة، مني ومنا جميعا، على ريادته وصبره وهمته العالية وشموخه وعلو صوته في وجه الظلم والاضطهاد باسم السوريين ومن أجلهم.
وهذه هي الفرصة ايضا للإعلان عن امتناني وواجب الاعتذار، لرفاق دربه الكثر الذين لم يتسن لي التذكير بتضحياتهم فردا فردا، في كتابي المتواضع، وهم الذين لم يتخلوا عن شعبهم في احلك الظروف والمنعطفات، وخاضوا خلال عقود طويلة معركة مريرة قل نظيرها لاثبات حقوق السوريين، مثل منتهى الأطرش ورياض الترك وعصام العطار وجمال الاتاسي وميشيل كيلو وعارف دليلة ورزان زيتونة وخليل معتوق ومي سكاف وصادق جلال العظم وعبد العزيز الخير ونجاتي طيارة وحبيب عيسى ورجاء الناصر وعمر أميرالاي والعشرات مثلهم من السياسيين والمثقفين والمحامين والسينمائيين والفنانين الذين يتعذر ذكرهم بالاسم. لجميع هؤلاء، ولأخوتنا الذين لا يزالون يقبعون في المعتقلات السرية، ولكافة الأبطال الذين قدموا دماءهم من أجل سورية حرة وديمقراطية، ولشعبنا الذي لم يعرف حدودا لنكران الذات، نقدم التحية ونعبر عن اعترافنا بالقيمة العظيمة للتضحيات الجسيمة التي قدموها، وننحني أمام معاناتهم التي لم تعرف حدودا في سبيل تأكيد كرامة الانسان، كرامتنا، ورفض التسليم لحكم القوة والاستسلام لإرادة الطغاة.

المصدر: موقع د.برهان غليون
http://burhanghalioun.net/?text=إلى-هيثم-المالح-الاستاذ-الكبير-وشيخ-ال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى