بحوث ودراسات

أوروبا ومذابح القرن العشرين.. حروب الأتراك واليونانيين 3 من 3

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

في هذا الجزء الأخير (3), سنعرض لانكسار اليونانيين وهزيمتهم في معركة سكاريا, وانسحابهم النهائي تجاه إزمير, ثم عودتهم لليونان, وما ارتكبوه أثناء ذلك من فظائع ومجازر منظمة, بدافع اليأس وانعدام الأمل بجمهورية يونانية على الشواطئ الشرقية لبحر إيجة.. ونهاية هذه الصفحة الدامية من حروب اليونان والأتراك.

  • المجازر أثناء الانسحاب: 

بدأ اليونانيون يخسرون الحرب في آب 1921, عندما هُزموا في صكاريا حين صدّهم العثمانيون عنها, وقُصم ظهر الجيش اليوناني, فانسحب باتجاه إزمير, وبدأ يتقهقر عن المناطق التي استولى عليها, مخلفا وراءه دمارا واسعا في مدن وقرى وبلدات نهبت كلها وأضرمت النيران بالمحاصيل الزراعية وقتل آلاف المدنيين ودمرت المساجد – وحسب الرواية البريطانية – أحرقت والأتراك في داخلها في بعض الحالات.

هل حدث تغير في طبيعة أعمال اليونانيين أثناء تقهقرهم؟

عمليا, انتهت الآمال والخطط بخصوص غربي أناضول يوناني, ولم يعد هناك سبب معقول لاضطهاد الأتراك المسلمين, ومع ذلك يبدو أن تجدد المجازر واستمرارها, ذهب وراء نطاق السياسات عقلانية أو حتى الرديئة, للدولة كما يصف مكارثي.

أدرك الجيش اليوناني أن اليونان لن تُطالب بعد اليوم بالأرض الجديدة, وأدرك يونانيو غرب الأناضول, والأرمن فيها, أنهم لن يستطيعوا بعد اليوم العيش هناك, فأطلقوا العنان للكراهية..

ومع تقهقرهم, دمروا, وعلى نحو أشمل من السابق كل شيء في طريقهم. ممتلكات المسلمين والمسيحيين على حد سواء, كانت الأحياء المسلمة تحترق جنبا إلى جنب مع الأحياء المسيحية, أتلفت المحاصيل, وقطعت أشجار الزيتون العتيقة والكروم.

يبدو أن أسلوب الانسحاب اليوناني, تقرر بعد النكسة الحقيقية الأولى لهم, معركة سقاريا والتقهقر بعدها إلى أسكيشهر, للتجمع من جديد..

أحد المحللين العسكريين المعاصرين: “جرى تنفيذ الانسحاب بمهارة وبطريقة منظمة, نفذ اليونانيون تدميرا شاملا لكل منطقة أخلوها, فأحرقوا جميع القرى, ودمروا السكة الحديدية تدميرا كاملا”.

بحلول عام 1922 انتُدبت وحدات الجيش اليوناني, التي كان من المستحسن أن تعمل مؤخرة للانسحاب, لتدمر القرى الأناضولية بالكاز والبارود. وكانت هذه الوحدات هي الوحيدة الهادئة والمنظمة.

مدن عديدة أشعلت فيها النيران في أثناء الانسحاب اليوناني, بلجك, ويني شهر, إينة كول, أفيون, سكود, أطه بازاري, ومدن أخرى على الخط الانسحاب.

القنصل الأمريكي في إزمير (بارك), طاف في أكثر المنطقة المدمرة مباشرة بعد خسارة اليونانيين, وقال إن بعضها مُحي تماما, مثل مغنيسيا, 10 آلاف منزل, 15 مسجد, حمامان, و19 فندقا, و26 دارة, وحوالي 2300 متجرا..

مدينة قصبة التي يسكن فيها 40 ألف نسمة بينهم 3 آلاف من غير المسلمين, وبحسب القنصل الأمريكي, بقي فيها فقط 6 آلاف مسلم, ولم يبق إلا 200 مبنى من أصل 2000 تشكل مباني المدينة..

وحول مدينة (الأشهر), قال القنصل الأمريكي:

“استخدمت المضخات اليدوية لإشباع جدران المنازل بالكاز.. حين تفحصنا خرائب المدينة, اكتشفنا عددا من الجماجم والعظام, متفحمة وسوداء, مع بقايا من الشعر واللحم ملتصقة بها.. وبناء على إصرارنا, جرى نبش عدد من القبور تبدو مشيدة حديثا.. كنا مقتنعين تماما بأن تلك الجثث لا يزيد عمرها على أربعة أسابيع, أي وقت انسحاب اليونانيين عبر مدينة الأشهر”.

القنصل بارك لم يكن يميل للأتراك, لكنه كان منزعجا من أن اليونانيين الذين أيدهم ارتكبوا أعمالا وحشية كهذه. ومع ذلك اضطر أن يعترف أن الأدلة التي شاهها كانت حاسمة.

مدينة مغنيسيا دمرت بنسبة 90%, وقصبة 90%, والأشهر 70%, ومدينة صالحلو 65%.. إحراق تلك المدن لم يكن عابرا, أو مقتطعا أو غير مقصود, بل كان مخططا له جيدا, ومنظما تماما.. يمكن التخمين بثقة, أن أعداد الأعمال الوحشية التي ارتكبها اليونانيون المنسحبون, كانت بالآلاف في المدن الأربع قيد البحث, من ضمنها الأعمال الثلاثة المعتادة: القتل والتعذيب والاغتصاب..”

في مثال نموذجي على أعمال اليونانيين في أثناء انسحابهم, طوق الجيش اليوناني والعصابات اليونانية, قرية قره تبه التركية, في 14 شباط 1922, ووضعوا جميع السكان في المسجد, ثم أحرقوا المسجد. وأطلقوا النار على القلة التي استطاعت النجاة من الحريق. وبطبيعة الحال, سرقوا كل الممتلكات الثمينة والدواب.

على خط الانسحاب اليوناني من مدينة مدانيا إلى بروسا, أُحرقت القرى التركية حتى الأرض..

مدينة بروسا نفسها, نجت من مصير الكثير من المدن الأناضولية الأخرى, بسبب وجود ضباط ورجال التحالف فيها, والحقيقة أن القوات التركية كانت تحاصر الجيش اليوناني في بروسا وتحتجزه هناك. أدرك اليونانيون أن هناك إمكانية كبيرة بأن يصبحوا أسرى حرب, “لكن إحراق بيوت وأنت تتوقع أنك قادر على الإفلات شيء, وأن تتوقع أنك ستصبح أسير المالكين شيء آخر تماما”.. ومع ذلك حاول بعض اليونانيين إشعال نار في المدينة, فاكتشف ممثلو التحالف المحاولة وأخمدوا النار. مع هذا دمر الجنود اليونانيون الجسور في المدينة, وأحرقوا في النهاية أربعين منزلا وكنائس يونانية, لكن الأضرار كانت لا تُذكر مقارنة بما جرى في مناطق أخرى.

حين انسحب الجيش اليوناني من بروسا, تجمع مسيحيو المدينة واللاجئون المسيحيون من مناطق أخرى في مبان تابعة للفرنسيين والإيطاليين, وتولى حمايتهم هناك رجال درك أتراك كانوا بقوا في بروسا, رفض الآمر اليوناني تسليحهم, ومع ذلك استطاعوا حماية اليونانيين والأرمن

–      الأتراك يستعيدون قراهم ومدنهم:

ما إن هُزم الجيش اليوناني في صقاريا, حتى كان استرداد الأتراك لغربي الأناضول سريعا ومتلاحقا..

في 26 آب 1922, أطلق الأتراك أخيراً هجوماً مضاداً، عُرف لديهم في وقت لاحق بالهجوم الكبير.. في 30 آب، هزم الجيش اليوناني بشكل حاسم في معركة دملوبينار، حيث راح نصف عدد جنود الجيش اليوناني بين أسير أو قتيل وفقدت معداته كلياً. الأتراك عدّوا هذا التاريخ يوم النصر، وهو عطلة وطنية عندهم.

في الأول من أيلول كان مصطفى كمال يصدر أمره الشهير للجيش التركي:

“أيتها الجيوش، هدفك الأول هو البحر الأبيض المتوسط، إلى الامام”

تباعا استعاد الأتراك أسكي شهير في 2 أيلول, وبالكاسير وبيلجيك في 6 أيلول, وآيدين في اليوم التالي, ومانيسا في 8 أيلول, ودخل الأتراك إزمير في 9 أيلول, واستعادوا جومليك ومودانيا في 11 أيلول..  وبحلول 14 أيلول 1922, كان قد اكتمل طرد اليونانيين من غربي الأناضول بالكامل.

كان الأمر كما وصفه المؤرخ جورج لينتشوفيسكي: “حالما بدأ الهجوم تحول لنجاح باهر. خلال أسبوعين قاد الأتراك الجيش اليوناني إلى البحر المتوسط من حيث جاؤوا.”

بعدها, توجهت قوات كمال شمالاً نحو البوسفور، وتوغلت في مناطق المضائق حتى 24 أيلول.. وفيما تخلت القوات الإيطالية والفرنسية عن مراكزها في المضيق تاركة القوات البريطانية وحدها في مواجهة الأتراك, انقسم الموقف البريطاني انقسم تجاه المواجهة, وتجاه هزائم اليونانيين المتلاحقة.. وأخيرا طلب البريطانيون من الأسطول اليوناني مغادرة القسطنطينية, ومغادرة قواتهم إلى ما وراء ماريتزا في تراقيا، الأمر الذي أقنع الأتراك بقبول الدخول في محادثات الهدنة والاتفاق النهائي.

كان هناك كثير من التخوف بين الحلفاء من أن اليونانيين والمسيحيين الآخرين, سيعانون كثيرا على أيدي القوميين الأتراك, عندما يستردون إزمير, خاصة بعد أن قدمت أعمال اليونانيين مسوغا وجيها للانتقام.. وعزز هذه المخاوف, أن الأتراك, وقبل أيام قليلة من استرداد المدينة، وزعوا مناشير باللغة اليونانية جاء فيها على لسان كمال أتاتورك أن حكومة أنقرة ليست مسؤولة في حالة وقوع مجزرة..

وقد حدث بالفعل الكثير من الارتباك والفوضى بعد أيام من استعادة إزمير, وفي بعض الحالات, قتل العديد من اليونانيين المحليين ونهبت مساكنهم, لكن الأعمال الانتقامية, لم تكن بالحجم ولا العنف المتوقع.

المراقبون البريطانيون الذين شهدوا من قبل على مجازر اليونانيين الأتراك, كانوا في منطقة الحدث حين انسحب اليونانيون من المدينة, وتوقعوا أعمالا انتقامية. لكنهم نقلوا لاحقا, أنه لم يحدث شيء من هذا القبيل.. ربما “بسبب تأثير القوات القومية الجيد وانضباطها”.

في حمأة تبادل الاتهامات بشأن الترحيل والأعمال الانتقامية, أكد اليونانيون أن الأتراك كانوا يهجّرون سكان منطقة البحر الأسود من اليونانيين, رجالا ونساء وأطفالا, إلى مناطق الأناضول الداخلية.

الأتراك ردوا الاتهامات وقالوا إنهم رحّلوا فقط مجموعات الشبان التي يمكن أن تشكل خطرا مفترضا, مشابها لما حدث في غربي الأناضول..

يبدو أن الأحداث المريرة, دفعت الأتراك لافتراض أن اليونانيين المحليين في البحر الأسود يمكن أن يكرروا ما فعله يونانيو غرب الأناضول, الذين ساعدوا الجيش الغازي وانخرطوا في عصابات مسلحة قامت بالأعمال الشنيعة, كما حدث في مناطق آيدين وإزمير ومنمن وغيرها..

وعزز مخاوفهم تلك, أن عصابات يونانية في منطقة البحر الأسود, كانت تهاجم القرى التركية وتتحدى الحكومة. وأن مسؤولي الكنيسة الأرثوذكسية في طرابزون ذكروا بوضوح أنهم يرغبون في إقامة جمهورية (البونتوس) اليونانية, وكانت هناك بالفعل حركة ثورية ناشطة وقائمة, تدعى “بونتوس”.

جمعية الاتحاد والترقي, التي كانت تقوم بأعمال الحكومة التركية, تبنت بالفعل سياسة معادية لليونانيين.. وكانت سياسة القوميين الرئيسية, تقضي بشكل معلن, بترحيل اليونانيين من منطقة البحر الأسود إلى شرق وسط الأناضول.

إلى أي مدى يمكن اعتبار أن اعتقاد الأتراك ذاك, كان في محله؟

وهل كان يونانيو البحر الأسود يشكلون خطرا حقيقيا؟

وهل كان ثمة وسائل أخرى بديلة, عن طريق فرض القانون بواسطة الشرطة بدلا من الترحيل؟

كلها تساؤلات ظلت محل جدل ونقاش لوقت طويل.

في مناسبات كثيرة, كان الأتراك يواجهون تساؤلات البريطانيين والأمريكيين, بشأن عمليات ترحيل منطقة البحر الأسود, بالسؤال: لماذا لم يكن الحلفاء مهتمين على نحو متساو بشأن مصير الأتراك في ظل الحكم اليوناني.

وعلى أية حال, فقد كان الترحيل خسارة سياسية واضحة للأتراك. وأتاح لأعدائهم فرصة إطلاق مزيد من الدعايات المضادة, وإضافة الكثير من التشويه والمغالطات, إلى ما سبق نشره بخصوص أحداث الأرمن عام 1915..

الصحافة, ومؤسسات البحث الغربية, كثيرا ما تجاهلت الرواية التركية, ومسوغاتها بشأن الأحداث, وركزت اهتمامها على طوابير “اليونانيين المهجرين, الذين يعانون المجاعة, ويموتون على الطرقات”, في روايات مضادة, أكثرها من قبل مبشرين مسيحيين, وتعوزها الدقة والمصداقية.

في النهاية, وفي ذروة هذه الدراما, وبترتيب من بريطانيا نفسها, التي كانت هي والحلفاء وراء هذه المأساة, أُعيد توطين نحو مليون وثلاثمائة ألف مسيحي من الأرثوذكس اليونان، مهجّرين من تركيا, في أتيكا والأراضي اليونانية المنضمة حديثاً من مقدونيا وتراقيا، بموجب معاهدة لوزان (24 تموز 1923), مقابل حوالي 385,000 من النازحين المسلمين من الأراضي اليونانية, غادروا جميعهم, منازل آبائهم وأجدادهم, في تبادل سكاني إجباري.. وبقي في إزمير نحو عشرة آلاف يوناني من كبار السن, رفضوا المغادرة..

–      المشاهد الأخيرة:

بدأ الاجتياح اليوناني لغرب الأناضول في إزمير, وانتهى في إزمير.

كانت المشاهد في إزمير تعمها الفوضى.. حين وصلت القوات التركية كان الجيش اليوناني قد غادرها.. المدنيون اليونانيون كانوا يدورون يائسين وهم يشاهدون جيشهم على ارصفة الميناء, وهو ينتظر وصول السفن اليونانية وسفن التحالف التي ستعود بهم جميعا إلى اليونان..

في الفصل الأخير من المأساة, ستشهد إزمير حريقا هائلا, يطمس معالمها العثمانية. في الحي الأرمني كانت البداية, وامتدت النيران بعدها إلى أنحاء المدينة لتلتهم كل شيء.. الجدل حول الفاعلين ظل قائما.. هل كانوا من اليونانيين أو الأرمن أو الأتراك المحليين, أم أن القوات الحكومية نفسها, هي من افتعل هذا الحريق الرهيب. وكما يحدث أثناء الحروب, ظلت هذه التساؤلات كغيرها دون إجابة.

في النهاية لم يعد مهما, مسألة من عانى أكثر, اليونانيون أم الأتراك, فالخسائر على الجانبين كثيرة, والجميع وقف أمام كارثة إنسانية حقيقية.. ستدوم تأثيراتها لأجيال لاحقة, وستبقى لعقود طويلة, تمثل الخلفية التي تساهم من وراء الستار, في توجيه علاقات الشعوب فيما بينها, وسياسات الحكومات والدول, ومعها تأثيرات التدخلات الخارجية, التي ستبقى بدورها العامل الأكثر أهمية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى