مقالات

ليس ذكاء إيرانيًا ولكن رغبة ورضاء أميركي!

د. قصي غريب

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

على الرغم من أن نظام ملالي إيران – منذ وصوله إلى السلطة – يقف وراء اندلاع الصراعات الطائفية والاضطرابات في المنطقة ، وكان على الدوام ولا يزال نظامًا راعيًا للإرهاب الدولي في قائمة وزارة الخارجية الأميركية ، إلا أن المفارقة العجيبة في أن السياسة الخارجية الأميركية قد مارست المعايير المزدوجة معه، بحيث أسهمت من خلال غضّ النظر عن أفعاله ،وافتعال الأزمات في تضاعف قوة إيران العسكرية غير التقليدية ، ومن ثم تنامي تمددها ونفوذها السياسي في المنطقة من أجل اشغال واخضاع العالم العربي لمشيئتها،  ولاسيما تهديد وابتزاز نظم الحكم في الخليج العربي الثرية وبخاصة المملكة العربية السعودية ، بغية طلب الحماية ، وزيادة مشتريات السلاح من الولايات المتحدة ، ولهذا السبب ، تغاضت عن طموحات نظام الملالي الامبراطورية ، ودخلت معه في لعبة مفاوضات حول برنامجه النووي استمرت لأكثر من عقد .

 وقد تمّ التوصل إلى اتفاق نهائي في تموز 2015 ، ثم ما لبث -لاستمرار اللعبة – والايحاء على أن نظام الملالي لا يزال يشكل خطرًا على المنطقة ،  بغية ابتزاز النظم الخليجية ، أن أعلن الرئيس دونالد ترامب في أيار 2018 عن انسحاب بلاده منه ، مع إعلانه في الوقت نفسه عن بقاء يده ممدودة للنظام الإيراني ، في حين لم تمنح هذه اليد والفرصة الذهبية  للنظام البعثي وللرئيس صدام حسين في العراق ، ولم تسمح له بامتلاك ناصية العلم وأسباب القوة، وقطعت آلاف الأميال لغزوه وتدميره ـوإسقاط نظامه بذريعة امتلاك أسلحة الدمار الشامل مع أن العراق بناء على شهادة سالم الجميلي الضابط الكبير في المخابرات العراقية في زمن النظام البعثي ، وكذلك ما أكده المحقق السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية جون نيكسون، إنه خلال التسعينيات من القرن الماضي ، حاول العراق التواصل مع الولايات المتحدة ، حيث أرسل رسائل من خلال الأمم المتحدة والسفير العراقي في واشنطن آنذاك  نزار حمدون ، طلب فيها فتح خط تواصل لحل مشكلات البلدين .

 كان فحوى تللك الرسائل  : أن هناك الكثير من الأمور التي يمكن للعراق أن يساعد الولايات المتحدة بها ، وأنه أيضًا يحتاج لمساعدتها للخروج من طائلة العقوبات ، وأحد الأمور التي عرض الرئيس صدام حسين المساعدة فيها مسألة مواجهة الارهاب الدولي ، ولكن الجانب الأميركي لم يجب على تلك المحاولات لأنه لم يكن على استعداد للتواصل مع العراق وقبول يده الممدودة .

وعلى الرغم من هذه الوقائع،  إلاّ أنّه  – أحيانًا- قد تجانب الصواب والحقيقية التقييمات التاريخية لأصحاب الخبرة والدراية في العمل السياسي والدبلوماسي ، سواء كانوا من العرب أو الأجانب،  وفي هذا الشأن قال يومًا رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم آل ثاني في حديث إلى صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية مادحًا السياسي الإيراني في إمكاناته وقدراته التفاوضية مع الولايات المتحدة والغرب: ” علي أن أعترف بشيء واحد ، هو أن الإيرانيين أذكى منا، وأكثر صبرًا منا، وهم المفاوضون الأفضل. انظر كم سنة تفاوضوا مع القوى العالمية. فهل تعتقدون أن دولة عربية يمكنها أن تفاوض لمثل هذه المدة؟ “.

إن الإشادة بالمفاوض السياسي الإيراني من قبل الوزير القطري حمد بن جاسم ،ووصفه بأنه بارع وذو نفس طويل وأذكى واكثر صبرًا من العربي ، ومن ثم هو الأفضل بحيث نجح في انتزاع مكاسب مهمة لصالح بلاده من خلال تسوية ملفه النووي مع الولايات المتحدة ، وأننا نحن العرب لا نمتلك مثل هذه الإمكانية وهذه القدرة التفاوضية تنم عن أحد أمرين :

إمّا أنّه غزل ونفاق سياسي ، أو قراءة خاطئة لما حصل !  ونحن نرجح الغزل والنفاق السياسي على القراءة الخاطئة ، لأنه عمل في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية لمدة طويلة ، وبالتأكيد هو يعي ويفهم ما يجري حوله ، ومن ثم لديه الإمكانية والقدرة العالية على قراءة المشهد الإقليمي والدولي بصورة صحيحة والتشخيص الدقيق له . فما حصلت عليه إيران من مكاسب إقليمية ودولية من خلال تسوية برنامجها النووي – بعد أن أدخلتها الولايات المتحدة في مفاوضات استمرت لأكثر من عقد – ، وتم التوصل إلى اتفاق نهائي في تموز 2015 لا يعود أبدًا إلى ذكاء المفاوض الإيراني ، بقدر ما يعود إلى رغبة استراتيجية أميركية في إطالة آمد هذه المفاوضات .

تقوم السياسة الخارجية الأميركية تجاه دول المنطقة على المعايير المزدوجة ، فهي في الوقت الذي دخلت مع إيران في مفاوضات ماراثونية -وهي تتهمها بدعم الإرهاب –  وإيران ترى أن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر، لم تمنح أبدًا مثل هذه الفرصة للنظام البعثي العراقي الذي كان يمتلك إمكانات وقدرات دبلوماسية محترفة وماهرة وذات خبرة بالمفاوضات أفضل من إيران بأشواط أمثال وزير الخارجية المخضرم طارق عزيز، ووزير الخارجية ناجي صبري الحديثي ، ومساعديهم وكيل وزارة الخارجية رياض القيسي ، ووكيل وزارة الخارجية نزار حمدون ، والسفير في الأمم المتحدة محمد الدوري ، ولم تسمح له بامتلاك أسباب العلم والقوة ، وقطعت آلاف الأميال لغزوه وتدميره وتحويله إلى دولة فاشلة تعود إلى ما قبل عصر الصناعة بعد أن قام الرئيس جورج بوش الابن بترجمة التهديد الذي وجهه جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس جورج بوش الأب لطارق عزيز وزير الخارجية العراقي في 1990، سنعيد العراق إلى عصر ما قبل الصناعة.

ولذلك كانت الغاية من كل هذه الإطالة التفاوضية مع نظام الملالي في إيران تحقيق الهدفين الآتيين:

1 – تهديد وابتزاز دول الخليج العربي لإدخالها في سباق تسلح لصالح الخزينة الأميركية ؛ فضلاً عن جعل دول الخليج العربي دولاً ضعيفة تستجدي الحماية الأميركية.

2 – تحويل الصراع في المنطقة من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع عربي سني فارسي شيعي ؛ وذلك من خلال تمكين إيران في المنطقة ، وإشغال العرب والفرس ببعضهم بعضاً ، وجعل إيران العدو الأول للعرب بديلاً عن إسرائيل ، ولقد عملت الولايات المتحدة على ذلك منذ أن قامت بغزو أفغانستان وإسقاط نظام طالبان والملا عمر في 2001 ، ومن ثم غزو العراق وإسقاط النظام البعثي والرئيس صدام حسين في 2003 وإعدامه فيما بعد ، حيث كان النظامان  يشكلان عائقاً استراتيجياً أمام الطموحات الفارسية ، وقد أسهم إسقاطهما من قبل الولايات المتحدة بالإخلال في التوازن الإقليمي ، وبتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة ، فأصبحت إيران بالضوء الأخضر الأميركي اللاعب الأكثر تأثيرًا ونفوذًا في العراق وسورية ولبنان واليمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى