ثقافة وأدب

هل حقاً مات حافظ؟!!

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

انتهيت من تقديم إحدى موادي في كلية الحقوق السنة الثانية، وخرجت من الهنكارات باتجاه كلية الحقوق القديمة في البرامكة، وعند دخولي من باب كلية العلوم إلى ساحة الحقوق، حيث يتوسط مسجد الجامعة حديقتها، لم أشاهد أي شخص على غير العادة هناك.
كان المنظر رهيباً، فأين الطلاب والموظفون والأساتذة؟!
لم أكن أعلم ما الذي يجري في البلد حينها !!
خرجت سريعاً إلى الكراجات، وكان الجميع صامتاً صمتاً مطبقاُ على غير عادة أوﻻد بلدتي، ولم يخطر على بالي أي خاطر بسبب النعاس والتعب من الإستيقاظ الباكر لتقديم الامتحان.
ركبت السرفيس، واتجهت باتجاه المنزل، وعندما وصلت… لم أجد سوى والدتي التي كانت تقوم بأعمال المنزل، ولا يهمها من التلفاز سوى المسلسل بعد أخبار الثامنة والنصف. ..
لا أعرف ما الذي دفعني لتشغيل التلفاز ؟!! وعندها شاهدت القرآن الكريم يملئ القنوات السورية ولم أدري مايجري؟!..
قمت بتغيير المحطة إلى قناة الأردن، التي كنا نستطيع في المناطق الجنوبية التقاط اشارتها…
أذاعت المحطة حينها خبر موت”حافظ الأسد”
وقعت بصدمة، وفغرتُ فمي، ووقفت كالأبله مشدوها من الخبر
لم أصدق أنا ووالدتي، التي حضرت على صوت التلفاز والخبر.
( أمن المعقول أن يموت حافظ الأسد؟!
لقد كان الشعب السوري حينها يعتقد أن: حافظ الأسد شيطان لايموت، وهل هو مثلنا أصلاً حتى يموت!!).
في بلدتي صمتٌ رهيبٌ يُخيّم على الناس، التي تترقب ما الذي سيحدث؟!
أنا أعلم علم اليقين أن الجميع يكيلون في أنفسهم ملايين اللعنات، والشتائم على روحه، ويرقصون طربا بسماعهم الخبر الذي طالما انتظروه، لكن وفي ذات الوقت كان الخوف مما سيحدث، والجبن أبلغ من الصمت نفسه.
اجتمع سبعة رجال أمام محل جارنا، الذي يبعد عدة أمتار عن منزلنا، ولقد شاهدتهم من شرفة منزلي في الطابق الأول يقفون صامتين كحجارة الرصيف.
بعد قليل… فلاحٌ خمسيني بسيطٌ يتصف في بلدتنا بعدم اتزان تصرفاته، ولكنه لايسيء لأحد، فتراه لا يبالي بما يقول، ويحدثك بنصف حديث، ويتركك ويمشي، ولم يشاهد قط مبتسما..
مر هذا الفلاح من أمامهم، وشاهدهم كما شاهدتهم، واقفين صامتين خانعين على غير ما يتقنونه من فن الكلام، والأحاديث والمزاح الفارغ.
انبرى قائلاً:
خير عمي لما أنتم مجتمعين، كمثل الذي مات لهم والدهم؟!
أجابه كبيرهم بصوتٍ أقرب للهمس:
عمي توفى الرئيس المناضل حافظ الأسد!!
دقيقة صمت خيّمت في تلك اللحظة، كصمت الطبيعة قبل تفجر البركان.
أطلق الرجل قهقهةً عاليةً وسط الطريق، مالبث أن انفجر ضاحكا، ضحك لم نعهده على وجهه طيلة سنوات معرفتنا به ثم قال:” أو تمزحون معي؟!”
-أي والله عمي…الخبر صحيح وأذيع في التلفاز.
كفاكم مزحاً… هذا الأمر لا مزاح فيه. والله يا عم الموضوع كما هو.
فجأة صاح الرجل في الشارع:
“ألف مبروك عمي… ألف مبروك”.
فوالله لقد هرب الجميع كأمواج بحر رمي فيه حجر..
تركوا المحل، والشارع، واختفوا، حتى أنا هربت من الشرفة إلى داخل المنزل.
ظِلُّ “حافظ الأسد” ﻻيزال يسبح أمامنا، ويرقبنا في كل ذرة من ذرات الهواء، ويكتم أنفاسنا، ويجري كالسرطان في فكرنا.
ما أشد جبننا وخوفنا الذين حكمنا فيهما حافظ الأسد !!
في اليوم التالي… خرجت مسيرات من أبناء المساكن العسكرية، التي تحيط بالبلدة من أبناء الطائفة شركاء الوطن، وهي تنادي: ( يالله حلك حلك ..حط الأسد محلك)
كم استغفرنا، وحوقلنا، واسترجعنا حينها كمؤمنين يسكنون مكة في كنف أبي جهل.
لقد انتصر علينا حافظ الأسد مرةً أخرى، ولو أنه كان ميتاً.
الفلاح البسيط توفي بعد ذلك بسنوات، والجميع في بلدتي يعرفه رحمه الله. ..
لقد كان أشجع رجل في بلدتي، وربما سورية كلها حينها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى