مقالات

مذابح الأرمن ومسؤولية الأوروبيين

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

الحديث حول مأساة الأرمن في أوائل القرن العشرين نموذج يقودنا للحديث عن ازدواجية المعايير،  والنفاق الأخلاقي الذي اتسمت بها السياسات الأوربية، وهذه القضية واحدة من نماذجها. وإذا كان إحياء ذكرى مجازر الأرمن جزء من الأمانة التاريخية، وواجب إنساني ورد للاعتبار قبل كل شيء، فإن من تمام الأمانة والإنصاف، أن تعم هذه الذكرى على ضحايا الحروب كلهم، وليس هذا وحسب، بل لابد أن تكون مناسبة لتصحيح الرؤية التاريخية أحادية الجانب، والتي فُرضت فرضا بحكم الهيمنة وسياسة القوة، ليس في هذه القضية وحسب وإنما لقضايا أخرى كثيرة لا تقل عنها شأنا أهمية.

الحديث في مآسي الشعوب, ومن بينها الشعوب الإسلامية, لن يقلل من شأن القضية الأرمنية, ولن يكون على حسابها, ولعل من الإنصاف بداية أن يُعلم أن المحرقة التي التهمت المسيحيين الأرمن, التهمت في الوقت نفسه المسلمين الأكراد والأتراك بنفس الشراهة والدموية, وربما أكثر فظاعة ووحشية, وإن اختلفت الوسائل والأدوات والدوافع.

وإذا كان من الإنصاف ألا يتم اختزال المشهد بأحد جوانبه أو نماذجه, فمن المتحتم أن يُشار في الوقت ذاته, إلى الفاعلين الحقيقيين, والمتسببين الرئيسيين الذين يقبعون خلف الكواليس, ووفي هذا السياق, لا يستقيم الحديث عن تقدم الدول وتوسعها ورقيها وازدهارها, من دون مراعاة لما فعلته, وما تزال تفعله بحق البلدان والشعوب التي مرّت عليها ماكينة الاستعمار وارتكبت بحقها من الفظائع والجرائم ما يفوق التصور ويُعجز الخيال.

وإذا صح التشبيه, فإن جرائم بعض الدول الكبرى, بحق شعوب كالجزائريين والفلسطينيين والقوقاز, أقرب ما تكون لما يُعرف بالجرائم المتسلسلة, التي لاتزال تفتك بالشعوب عاما بعد عام وحقبة بعد حقبة, فيما يسرح مرتكبوها ويمرحون, ويتبجحون ويتفاخرون بالقوة والعظمة, دون أن يلتفتوا إلى ما اقترفته أياديهم, ولنا في حروب البلقان وحروب الشرق الأوسط, ومآسي الفلسطينيين والعراقيين, أمثلة ونماذج لا تكاد تنتهي, وأعداد ضحاياها تجاوزت ضحايا الحروب الكبرى, مع أنها فوق ذلك مآس مستمرة, ما تزال تطحن هذه الشعوب طحنا.

منذ القرن التاسع عشر, وحتى الحرب العالمية الأولى, بل وحتى يومنا هذا, فإن الدول الكبرى ما فتئت تتلاعب بأمور الأقليات في الشرق الأدنى, لتصنع منها عالما جديدا, وكيانات هشة, بالكاد تحافظ على وجودها واستقرارها, بل إن بعضها ظل لعقود محروما من هذا الاستقرار, ولم تتوقف أصابع الدول الغربية عن العبث بمصائرها وحيواتها, ولنا في سوري والعراق وفلسطيني أوضح صورة وبرهان.

ويكاد يجزم كثير من الباحثين والمؤرخين, بأن تدخل القوى الأوربية كان العامل الأساسي في تدمير العديد من المجتمعات, ومن بينها مجتمعات البلقان والشرق الأوسط , وإفساد التعايش والتفاهم بين شعوبها ومكوناتها, وشكل هذا التدخل, علامة فارقة ودلالة جلية على المصالح الذاتية, والتحيز الديني والنفاق السياسي. ولطالما استغل الأوربيون نفوذهم منذ القرن التاسع عشر, في تحريض الأقليات, وإثارتها للتمرد على مجتمعاتهم, ودفعوا باتجاه ارتكاب المجازر وحالات الثأر المتبادلة, لقناعتهم الراسخة بأن ذلك سيؤدي في نهاية المطاف إلى التدخل الأوربي الذي يصب في مصلحتهم, التي لا تعبأ بمصير أقلية ولا أكثرية.

ولهذا فلم يكن غريبا في عالمنا المعاصر, أن تظهر العديد من الدول والكيانات, وكأنها ذات نسيج سكاني متجانس إلى حد ما, لكنها في الحقيقة بلدان استحدثتها الحروب والصراعات, وكانت حصيلة فتن ومذابح وتهجير ديمغرافي ممنهج, وبكلمات مختصرة فإنها تأسست على مآسي الآخرين, حتى لو كان هؤلاء الآخرون بالأمس القريب, هم الجيران والأهل والأصدقاء.

على هذا النحو تأسست دول البلقان, ونشأ العديد من الجمهوريات السوفييتية سابقا, وعليه أيضا, تشكلت الكثير من المدن والمقاطعات الصينية والفليبينية, وغيرها في دول وبلاد أخرى. ولماذا نذهب بعيدا, ومثال دول إسرائيل العنصرية أمامنا, يذكرنا بحقيقة المأساة صباح مساء.

المسؤولية التاريخية للدول الأوربية, فكرة ينبغي ألا تغيب عن وعي الشعوب التي تأثرت, ولاتزال بالحقبة الاستعمارية ومخططات التفريق والتجزئة, والرقص على أشلاء الشعوب ومآسيها, وليس الهدف من هذا, هو التحريض على الثأر والانتقام كما قد يبدو لأول وهلة, كما أنه ليس اجترارا لنظرية المؤامرة, والبحث عن مبررات لرفع المسؤولية عن الشعوب المضطهدة والمنكوبة, كما قد يفكر البعض, الهدف هنا هو تصحيح الأخطاء التاريخية الجسيمة, وذات المفاعيل المدمرة, الحية والمستمرة, والإحساس بالمسؤولية الكاملة عن إيقاف هذا النزف المستمر للشعوب, وجراحها التي لا تكاد ترقأ في مكان, حتى تنفتح في أمكنة أخرى, حتى اتسع الخرق على الراقع, وباتت عشرات الملايين من البشر, بين قتيل وشريد وسجين وطريد, وبلاد مدمرة ودول متهالكة لا تصلح لعيش البشر..

أليس هذا حقا هو حال عشرات بل مئات الملايين من البشر, ومن بينها شعوب الشرق الأوسط, ولعل في سورية التي ماتزال تعيش مأساة مستمرة منذ عشر سنوات, أوضح مثال, فهل يعقل أن نتحدث عن الغرب وتقدمه وعظمته وجبروته, ونغفل عن دوره في إذكاء المأساة والإصرار على استمرارها دون اكتراث. 

سبق لرئيس الأمريكي وودرو ولسون صاحب المبادئ الأربعة عشر, وأول رجل دولة بمكانة عالمية, أن تكلم قبل قرن من الزمان, ضد الإمبريالية الأوروبية وهيمنتها على الشعوب, ووصف بريطانيا وفرنسا وحلفاءهما الذين شكلوا هيئة الأمم في ذلك الحين, بأنهم “لصوص وحرامية”, لم يجمعهم إلا ما يجمع “اللصوص والحرامية” من النفاق والطمع والشكوك والمصالح, التي مكنتهم, كما يقول رتشارد روبنشتاين, من أن يجمعوا بين المدنية والقساوة والوحشية, وأن يجعلوا “الإبداع والتدمير متلازمان, ولا ينفصلان مما يسمى بالمدنية الحديثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى