دين ودنيا

نظرات في دلالات د. خالد حنفي

مجدي شلش

أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
عرض مقالات الكاتب

كتب د, خالد حنفي مقالا تكلم فيه عن “صلاة التراويح خلف البث المباشر.. الدلالات والمآلات” كان القصد منه كما ذكر الكاتب ” وهدفي من هذا المقال ليس الانتصار لرأي على رأي أو انتقاد رأي وذمه، ومدح قول ورفعه، فهذا محله في مقال آخر، وإنما قصدي لفت الأنظار إلى جملة من الدلالات والمآلات التي تفيد في النظر للمستجدات والتعامل مع المستحدثات، عسانا نضع بها أقدامنا على طريق يوصلنا إلى التجديد الذي ننشد، والحق الذي نقصد”.

واضح أن هدف الكاتب ليس مناقشة مسألة فرعية ألا وهي مدى صحة صلاة التروايح خلف البث المباشر أو عدم صحتها، لكنه يناقش منهجية الاستدلال التي نتج عنها جواز الصلاة عند من قال بالجواز، فهو يرى أن هناك إشكالا في المنهجية يجب أن يبتعد عنه كل من يبغي الاستدلال الصحيح، سواء في قضية صلاة التراويح أو في غيرها، فمن المعلوم أنه إذا صحت منهجية الاستدلال صح الناتج عنها، وإذا فسدت منهجية الاستدلال فسد ما نتج عنها، وهذا كلام لاشك في غاية الصحة، لكن الإشكال في المقال أن المنهجية التي عالج بها الكاتب في نظري عليها عدة ملاحظات:

أولا: أن المقال استخدم المنهجية التي ذكرها الكاتب في الانتصار لرأي على رأي، وهو ما صرح به الدكتور أن هدف المقال ليس انتصارا لرأي على رأي، وإنما لَفْت الأنظار إلى جملة من الدلالات والمآلات التي تفيد في النظر في المستجدات والتعامل مع المستحدثات، فكل دلالة يذكرها الكاتب يبني عليها على صحة رأيه، وضعف الرأي المخالف، إذا نحن أمام انتصار لرأي على رأي باستخدام هذه الدلالات، والمفترض كما ذكر المقال في بدايته أن الكاتب سيذكر مجموعة من الدلالات العامة التي تيبن لكل مجتهد صواب النظر في الأدلة، بغض النظر عن قضية صلاة التروايح ومدى صحتها خلف البث المباشر، فالواقع في المقال أننا أمام محاكمة للمسألة الفرعية وتبني وجهة نظر معينة من خلال مجموعة من الدلالات التي ذكرها الكاتب، وصَدْر المقال ينبئ عن عكس ذلك، أن المسألة ليس مناقشة رأي، إنما وضع صور صحيحة لمنهجية معتبرة حتى يحسن التعامل الفقهي مع المستجدات والمستحدثات، فالمقال غارق في الانتصار تحت ستار الدلالات.

ثانيا: في الدلالة الأولى ذكر الكاتب أن هناك اضطرابا وتناقضا في الاستدلال على صحة صلاة التراويح خلف البث المباشر، وهذا التناقض من عدة وجوه:

 الأول: " الجمع بين الإباحة الأصلية، والضرورة الاستثنائية ولا يُجمع بينهما بحال، فالذين صححوا الاقتداء بالإمام من البيوت خلف البث المباشر استنجدوا بأقوال ونصوص من التراث الفقهي خاصة عند المالكية تدل على صحة الاقتداء بالإمام من مسافة بعيدة وهذا أمر لا علاقة بالضرورة والاستثناء والجائحة؛ لأنه يُقرون أن هذا هو أصل المذهب وبالتالي يمكن الاستمرار عليه بعد الجائحة ولا يصح تقييده بها، فإن قُيد بها دل ذلك على فساد الاستدلال به ابتداء".

السؤال للكاتب: ما وجه التناقض بين ما سماه الإباحة الأصلية والضرورة الاستثنائية؟
التناقض معناه: “اختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث يقتضي لذاته صدق أحدهما وكذب الأخرى” فالتناقض الكائن بين الشيئين بحيث لا يمكن الجمع بينهما، كالحركة والسكون، وصدق زيد وكذبه في موضوع واحد، فهل التناقض موجود بالفعل بين الإباحة الأصلية بحيث إذا استدللنا بها بطل الاستدلال من كل وجه بالضرورة والاستثناء، ما وجه التناقض بينهما؟ ومن الذي قال بذلك؟

حسب علمي أن الإباحة الأصلية هي من قبيل الحكم العقلي عند غالب الأصوليين، بخلاف الإباحة الشرعية فهي من جملة الحكم الشرعي تغليبا، وإذا كانت الإباحة الأصلية من قبيل الحكم العقلي، فما المانع من استصحاب حكم العقل في المستجدات والنوازل، ويكون دليلا إضافيا لبعض شواهد الشرع، فموافقة شواهد الشرع للإباحة الأصلية لا يعد تناقضا في كل الأحوال، إنما يكون في الغالب من باب تضافر الأدلة في بيان حكم النازلة.

كما أنه إذا نزلت نازلة ما وجه التناقض بين النظر فيها على وجه الاستثناء والرجوع إلى المذاهب الفقهية والاستئناس ببعضها إذا كان لبعض الأقوال صلة بحكم النازلة؟ هل هذا من قبيل المستحيل العقلي لذاته بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان؟ أو أن الأمر فيه سعة في منهجية الاستدلال، فمن المعلوم أن في الفقه ما يسمى بالفقه الافتراضي، وسادته الحنفية ويأتي من بعدهم السادة المالكية، فما المانع عقلا أو شرعا من استصحاب بعض الأقوال والاستئناس بها في النظر في المستجدات.

وإن قلنا: إن الحكم فيها من قبيل الضرورة والاستثناء ولها حكم خاص بها، وقد وافق حكم الضرورة بعض أقوال المذاهب، فحكم الضرورة والاستثتناء ليس متمحضا في كونه ضرورة من كل وجه، ومن الممكن أن نفتخر ونقول: هذه ليست مستجدات ونوازل من كل وجه، بل قرأها بعض علمائنا السابقين من عدة قرون ونظروا في الأمر بحدسهم الصادق، فيكون الجمع بين حكم الضرورة والاستثناء والاستنجاد ببعض الأقوال السابقة ليس تناقضا، وليس معنى هذا أن نأخذ بالسابق الفقهي في النازلة، إنما طرف من الزاوية يشعل الذهن لبيان الحكم المناسب في المستجدة والمستحدثة.

الثاني: التناقض الثاني الذي ذكره المقال ” التناقض الآخر هو: إباحتها في النافلة ومنعها في الفريضة رغم أن أصل المسألة ودليلها واحد وهو الاقتداء هل هو أمر شرعي أم عادي، فإذا صححته في النافلة صححته في الفريضة، ولهذا لم يخصص الفقهاء جماعة النافلة بشروط تختلف فيها عن جماعة الفريضة أو الجمعة، وأحاديث الإئتمام كلها عامة، وكل ما رخص فيه في النافلة عن الفريضة كصلاتها على الراحلة، ثبت بالنص لا بالاجتهاد”.

يا دكتور خالد: هل كل من أباحها في النافلة منعها في الفريضة حتى تقول بالتناقض، منْع الجُمَع والجماعات في المساجد أراه جريمة فقهية لمن تسرع بالمنع المطلق، وتذرع بحفظ النفس على حساب فرائض وشعائر هي من قبيل ضروري حفظ الدين، فبعضها فرد من أفراده، والبعض الآخر من مكملاته، و كان من الممكن المحافظة عليها في ضوء قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لايترك كله، وكنا نأمل من المجامع والمؤسسات التي نتغنى بها أن تقدم للناس جديدا فقهيا منضبطا يجمع بين حفظ الفرائض والشعائر من النوافل، بدل من التسابق نحو المنع المطلق الذي يحسنه من أراد الراحة في التفكير الفقهي الرائع، وهذا بالفعل ما تبنته بعض المؤسسات والدول، فالجمع أولى من الترجيح كما تعلم، ولا نلجأ إلى الترجيح إلا تعذر الجمع، وإذا كان من الإمكان الجمع وتسرع البعض في القول بترجيح المنع المطلق فهذه ليست منهجية صحيحة بحد علمي أخي الحبيب.

قولك يا أخ خالد: “الأصل صلاة النافلة في البيوت بدون جائحة أو ضرورة، وإذا كنا قد أوقفنا الجمعة وهي فريضة بعذر كورونا فكيف لا نوقف التراويح وهي نافلة؟ ولو صحت تلك الوسيلة لإحياء النافلة فلم استُبعدت في إحياء الجمعة وهي أهم وآكد؟”

فيه نظر، يترتب عليه الآتي:
أولا: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالف هذا الأصل، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى قيام رمضان في المسجد، حتى اجتمع الناس لذلك، وامتناعه عن الخروج ليس لأن التروايح الأصل فيها أنها تصلى في البيوت، وإنما خشية أن تفرض عليهم.

ثانيا: مخالفة الصحابة لذلك الأصل والتابعين حتى يومنا هذا، ولم يقل بذلك أحد.

ثالثا: ثبت عند الأصوليين أن العرف مخصص للعام، وإذا سلمنا أن الأصل أن النوافل كلها تصلى في البيوت، فالعرف العملي خصص بعض النوافل، وجعل لها حكما خاصا، خالف الأصل في حكمه، والعرف العملي جزء من القاعدة المتفق عليها “العادة محكمة” فأصبح هذا أصلها، وليست مجرد استثناء عن الأصل العام، زيادة على ذلك أن هناك من النصوص ما تجعل بعض النوافل وبالأخص ما يتعلق منها بالشعائر أصلها العام أنها لا تصلى في البيوت، كالعيدين والخسوف والكسوف، فالاستشهاد بأن صلاة الترويح من النوافل، وأن النوافل تصلى في البيوت، ليس على عمومه، فأنت تعلم أن بالاستقراء الغالب علم منه أن ما من عام إلا ودخله التخصيص في التكاليف العملية، وهذا مذهب الجمهور كما تعلم.

التناقض الثالث الذي ذكره المقال: “تناقض ثالث: تقييد الصلاة خلف البث المباشر بإمام الحي أو الإمام القريب دون دليل معتبر، والاتساق تصحيح كل صور الاقتداء عن بعد قرُبُ الإمام المقتدَى به أم بعد حتى لو كان إمام الحرم ما اتحد الوقت؛ لأن العلة واحدة حسب زعمهم وهي الاقتداء بالمسمع أو الرؤية وتلك لا فرق فيها بين القريب والبعيد”.

ماذا تقصد أخي بالدليل المعتبر؟ هل معتبر عندك أو عند المخالف، كلمة الدليل المعتبر تحتاج إلى بيان، فالذي أجاز جعل ذلك بضوابط، لا يخرج الشخص فيها عن شروط صحة الاقتداء ما أمكن، وأصله في ذلك تعظيم شعيرة يراها أهل العرف أنها من لوازم الصيام في رمضان، وكان من الأولى بنا أن نضبط المسألة أكثر، بدل التهوين بقولك: “وما يضيرنا أن نقضي عامًا من حياتنا اضطرارًا لا اختيارًا نصلي فيه التراويح في البيوت” وقولك الأخطر منه: “فالمعلوم أن صلاة التراويح سنة مؤكدة وأن الأصل فيها أن تؤدى في البيوت” والأشد في الخطورة: “وإذا كنا قد أوقفنا الجمعة وهي فريضة بعذر كورونا فكيف لا نوقف التراويح وهي نافلة؟”

هكذا بكل سهولة نوقف ونمنع بكل أريحية، وأرى ـ والله أعلم ـ أن دليل من منع قائم على ساق واحدة، وهو الجانب النظري لفقه المقاصد من حفظ النفس، وهو أمر معتبر لاشك فيه ولا خلاف، والساق الأخرى ـ حتى يستقيم الفقه والفهم وتتم علمية الاستدلال الصحيح ـ هي التمكن من تنزيل الجانب النظري على النازلة، ومراعاة جميع الجوانب المتعلقة بها، فالشعائر فرضا أو نفلا لها تعلق بجانب أكبر من حفظ النفس، وبالأخص منها ما يمثل ضرورى أعلى من حفظ النفس ألا وهو حفظ الدين، فألاولى بنا وبالمؤسسات والمجامع العلمية أن تُحدث نوعا من التوازن والجمع عند التعارض والتزاحم، فلا نخرق ضروري حفظ النفس بضروري حفظ الدين أو العكس، والذي منه بيقين صلاة الجمعة، وفروض الكفاية المتعلقة به من فتح المساجد، وإقامة الصلاة فيها، أما أن نفتخر بأننا منعنا الجمعة، ونستصحب مع ذلك منع كل صلاة من الممكن أن تؤدى في المسجد، وكأن هناك إجماعا من العلماء على منع الجمعة، فنستصحبه في محل الخلاف في غير الجمع، وهذا بين في بنيان المقال، وهو خطأ لا شك، فمنع الجمعة ليس متفقا عليه حتى نقول: “وإذا كنا قد أوقفنا الجمعة وهي فريضة بعذر كورونا فكيف لا نوقف التراويح وهي نافلة؟”

ورأيي في المسألة:
أن المنع المطلق يحتاج إلى دقة في التنزيل على واقعة كورونا، وليس ذلك للهواة من المفتين الذين ليس لهم خبرة ودراية بمنهجية الاستدلال، وبعيدين عن فقه الواقع بجميع ملابساته، فالفتوى الآن يمارسها المتخصص وهم القلة، والهاوي وهم الكثرة، والواقع خير شاهد ودليل، وإذا تعذر الجمع لجأنا إلى الترجيح، فالعمل بكل الأدلة أولى من إهمال بعضها، وما زال جهدنا لم يبذل فى الجمع بين حفظ النفس والدين، وقد رأينا أن كثيرا من الدول اجتهدت في الجمع، وما زال الجهد مطلوبا حتى لا نجرح ديننا من حيث أردنا حفظه.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى ردًا على بقية الدلالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى