ثقافة وأدب

صدمتي التي أنستني 22 عاماً

محمد الفضلي

كاتب وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب

في العام 2001 على ما أذكر تم إطلاق سراح دفعة من المعتقلين السياسيين في سورية، وكان من بينهم قريب لي، ويكون ابن عمة والدي رحمه الله، ومقيم في قرية من قرى درعا، وكان قد خرج بعد 22 عاماً قضاها في سجن تدمر الشهير.
بعد ثلاثة أيام من خروجه… رافقت والدي لتهنئته بالسلامة، وبعد أن وصلنا إلى منزله، وتبادل القبلات، وكلمات التهاني، والتبريكات بالخروج حياً من أسوأ ما يتعرض له بشري على وجه البسيطة.
كان قريبنا يجلس مدهوشاً في غياب عن الوعي الزماني، ويتفرس كل شيء حوله ليكتشف ماهيته.
ﻻ أعرف كيف تذكر والدي؟! فلقد كانا يلعبان سوية صغاراً، ويمرحان شباباً عندما كان يحضر إلى منزل جدي رحمه الله بالقرب من دمشق برفقة والدته.
كانت علائم الألم، والقهر باديةً على وجهه، والدموع تبرقان في عينيه
انبرى والدي يربت على كتفه، ويسعفه بعبارات الصبر، التي كنا نلوكها مذ أن جئنا إلى الدنيا، ومذ أن جاء حافظ إلى الحكم في سورية بقوله:
“طول بالك وصل على النبي. .الحمد لله على السلامة أنك خرجت حيّاً، وكل شي يتصلح، وأمر الله، وهكذا ربك يريد”
ومثل هذه الكلمات الاستهلاكية.
فجأةً !! ودون سابق إنذار ..قال الرجل:
هل تعلموا لم أنا بهذه الحالة؟!، وأجلس مصدوماُ، ولست بوعيّ؟!
الكل أعتقد أن سني السجن، وماقاساه من ألوان العذاب التي عجز عن اختراعها إبليس ذاته، والتي ذاقها الرجل، هي السبب!!
لكن الرجل قاطع نظرات حيرتنا، وعجزنا في أن نقول ما نعتقد، وقال:
والله يا أخوة ..دخلت المعتقل من 22 عاماً، وكنت أباً جديداً لطفل، وﻻ أعلم ماحدث له؟!!
اثنان وعشرون عاماً تقلبت فيها بين صنوف العذاب، والقهر
اثنان وعشرون عاماً أنستني حتى اسمي، وحروف لغتي.
لن أحدثكم عما رأيته، وسمعته، وعشته، وذقته من العذاب، لكن حين أعلموني بنبأ الإفراج عني، وتجهزت للخروج..أصابتني لحظاتُ إنكارٍ للذات، ونسيت سنواتي الاثنين وعشرين بكل ثوانيها البشعة، ولحظاتها المقيتة..
المهم خرجت، ثم اصطحبوني بسيارة، وقاموا بوضعي في مدينة درعا البلد، وانصرفوا..
سألت الناس أين أنا؟ وكيف الوصول إلى قريتي؟ فدلوني، وقام أحدهم بعد أن عرف من أنا، وأين كنت؟.. بإيقاف سيرفيس صغير، وأجلسني إلى جوار السائق، وقام بإعطائه مبلغاً من المال لإيصالي للقرية، التي تبعد ثلاثة أرباع الساعة عن درعا البلد.
وفي الطريق إلى منزلي… الذي لم أعد أعرف كيف السبيل للوصول إليه؟
كان السائق ينظر إلي نظرة حادة، ويتفرس وجهي بعيون صقر، مما يبدو أنه رجل عصبي، وكان يقول بين الفينة والأخرى:
أهلاً يا حاج.
ربع ساعة على هذا الحال، لكنني لم ألق له بالاً كثيراً، لشوقي لرؤية منزلي، وزوجي، وطفلي.
ثم تجرأ وسألني: أين تريد يا حاج؟
قلت له: للقرية الفلانية.
سألني: .ومن لك بالقرية؟
قلت له: أهلي وقرابتي.
قال لي: وكيف هكذا؟ أنا من القرية التي ستذهب إليها، ولا أعرفك!! كلنا مئة بيت ونعرف بعض…لعند من ستذهب بالضبط؟
قلت له: إلى بيت فلان (أقصد نفسي)
فجأةً، ودون سابق إنذار… توقف السائق في وسط الطريق والتفت إلي وقال:
ماذا تريد من بيت فلان؟ ومن أين تعرفهم؟ الآن ستخبرني!!
قلت له: أنت يا أخي أوصلني لعندهم، وماعليك بالباقي، هؤلاء أحبابي.
قفز السائق الى حيث أجلس وأمسك بياقة قميصي حتى كاد أن يخنقني وقال لي: اسمع ولاك.. هذا بيتنا الذي أنت رايح عليه، وأنا صاحب البيت، وأنا ما أعرفك، ماذا تريد مني!!
أقسم بالله لم أدر ما أفعل حينها.. لكن قلت له:
أأنت أحمد؟
قال لي: نعم… أنا أحمد، فماذا تريد مني؟ ومن أنت؟
فما كان مني إﻻ أن قبلت يديه، التي ﻻزالتا على الياقة، وقبلت وجهه، ورأسه، وأنا أقول له:
أنا أبوك… أنا أبوك
وأخبرته أجزاء من ذاكرتي عنه، وعن والدته، فأسقط في يده، وهو يقول:
خبرونا أنك ميت، اعتقدتك طالب شر.
ثم احتضنته، واحتضني في عاصفة من الدموع، والموقف لا تصفه كل الكلمات
حتى وصلنا إلى المنزل، ومن يومها، وأنا أعيش صدمتي هذه التي أنستني سنواتي الإثنتين والعشرين التي قضيتها في سجون حافظ الأسد.
ثم ختم قصته بقوله:
ابني ولا أعرفه؟! وصفق كفيه.
كان الحاضرون يغالبون الدموع عند سماعهم القصة، حتى دخل ابنه ذو الاثنين وعشرين خريفاً، وسلم علينا، ولقد شاهدت أن عينيه كانتا تتجنبان عينا والده طيلة الوقت.
فما زاد ذلك في قلبي إلا قهراً فوق قهر.

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

اترك رداً على محمد الفضلي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى