ثقافة وأدب

المقالح؛ هَرَمُنا الأكبر

جلال محمد الحلالي

كاتب يمني
عرض مقالات الكاتب

ليس لدينا نهر،، المقالح نيلنا،
ليس لدينا حدائق بابل،، المقالح حديقتنا المُحَلِقة،
وليس لدينا أهرامات،، المقالح هرمنا الأكبر.

يستطيع الرؤساء والملوك والأباطرة صناعة القادة والوجهاء والنبلاء، لكن إنساناً كعبد العزيز المقالح لا يصنعه إلا الله.
عندما صمم الخالق عقله ووجدانه أراد له الحياة لألف سنة وأكثر.

لا تجلس في حضرته إلا وينتابك الخشوع، ويُفعم قلبك بالجلال.
تستمع إليه فترى ذاتك كقصيدة حب يهمس إيقاعها في ثنايا روحك.

ها أنا بخجلٍ أكتب عن الدكتور عبد العزيز المقالح!
فهل يستطيع الجدول أن يكتب عن البحر؟!
وهل تستطيع الشمعة أن تتخيل الشمس؟!
وهل تجرؤ الفكرة على ادعاء الحكمة؟!

هو اليمن سهلاً وبحراً وعسلاً وزهرة رمان.
هو صنعاء عشقاً وأدباً وألماَ
هو عدن فتنةً وغزلاً وشاطئ عشاق.
هو الوطن الجريح؛ حِقب الأنين ولحظات الخيلاء.
هو ضمير الأمة اليمنية؛
هو اليمن الكبير.

كما جاء في الأثر، يأتي كل مئة عام مجدد؛ لكن الله أرسل المقالح لألف عام ليجدد عهد اليمن بذاتها القصوى، ويعيد اكتشاف مراتع صباها.
تخيلوا معي اليمن للحظة بدون المقالح؛ ما أوهن قصيدتها وما أجدب وجدانها.
تماماً كما سيتخيل الإنجليز بريطانيا بدون شكسبير.
تفرح اليمن، فيبوح عموده بِرِفعتها.
تئن اليمن، فيبكيها وننتحب.

هو أنجح من أحال تجربته الداخلية إلى إبداعٍ أدبي وفلسفي ليكشف عن الجانب الأكثر خفاء في أوجاع الناس.
هو الشاعر الشامل؛ الذي كتب في الجمال والحب والوطن والصداقة.
كتب قصيدة العمود والتفعيلة والنثر، فزادت بأعماله أرصدة الجمال لهذا البلد.

اخترق العزلة الأدبية التي أحاطت اليمن، وكسر قيودها الصدئة ليسمح بمرور الإبداع الشعري اليمني إلى كل العالم العربي. فهل عُرف شاعر يمني في العصر الحديث قبل كسر تلك القيود؟!

استضاف كبار الشعراء كأدونيس ومحمود درويش وسليمان العيسى فعرفوا من خلاله اليمن وتغنوا بها وأنصتوا إلى شعرائها.

قبل بضعة شهور اختارني الدكتور عبد العزيز المقالح لتمثيله في استلام جائزة أمير الشعراء أحمد شوقي كأول فائز بها مع الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطى حجازي.
شاعر اليمن الكبير يختصني أنا؟!
ما زالت الدهشة تأسرني حتى اللحظة. شرف لا يناله إلا ذو حظ عظيم، وشعور غامر بالعرفان والمسؤولية.

كان الحفل في المعلم الأهم للحياة الأدبية والفنية في مصر – دار الأوبرا؛ وكان الحضور أنيقاً وملهماً. أدباء وشعراء ومفكري مصر، ونخبة اليمن الأدبية والسياسية في أرض الكنانة.
لم أر اليمن من قبل بذاك البهاء والجمال، فلا أحد يستطيع أن يرتفع باليمن إلى هذه المنزلة إلا قامة بعلو قامة المقالح، فمكانة شاعرنا في مصر وبين أدبائها شاهقة.
بعد أن ألقيت كلمة المُحتَفَى به، قال لي الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطى حجازي: – ” احمل تهنئتي إلى صديقي عبد العزيز وقل له أن الجائزة شَرُفت به.”
حقاً كانت لحظات تغص باليمن الافتراضي.

لست ناقداً، أنا فقط عاشق لشعر المقالح؛ عاشقٌ يحاول أن يقول شيئاً عن تراث هذا العملاق الأدبي.
الشعر لدي هو ما هز وتراً، أو أطرب ساكناً، أو حرض للوصول إلى عمق جديد في داخلي، وذلك ما وجدته في شعر صاحب المقام.
كأحد أهم رواد مدرسة الحداثة؛ لا تدهشني في شعره قدرته على خلق فضائه المجازي الخاص فقط، بل أيضاً تلهمني نزعة التحرر لديه من قيود اللغة ومحاولة استنطاقها واستخراج طاقات جديدة فيها.
فلطالما التقطت في شعره حالات صراع بين متاحات اللغة وهالة الفكرة التي يريد أن يقولها ليوصل مفاهيم مبتكرة بأفاق ٍ جديدة.
يبهرني دائماً بالتوهج والكثافة؛ توهج الجمال وكثافة المعنى في وحدة موضوعية محكمة المعمار.
حافظ على وشائجه مع التراث دون تيه أو شرود فأمست جل إضافاته تنهمر أصيلة على ساحات الشعر اليمني، وفي ذات الوقت جلس على منصة الأدب العربي كأحد أمراء الشعر.

سبعة عقود من الإبداع والتجديد؛ سبعة عقود من الحب والروح الخالصة.
أنا مؤمن أن الإنسان المبدع هو قدرة روحية ونفسية ووجدانية قبل أن يكون قدرة عقلية. معظم العقول النادرة انتهى بها المطاف إلى ثنايا النسيان وزوايا الإحباط حينما قَصُرَت لديها متانة الروح وصلابة النفس.
لم يستكن؛ لم يقف، ولم تنل المكارة والعادياتُ من متانة نفسه أومن جمال روحة وعمق وفتنة عباراته.

أبو الطيب المتنبي – أحد أهم ساكني الوجدان العربي وصائغي خياله – كان حقبة زمنية تتجاوز الزمن، وما زال مورداً للحكمة والبهاء.
باستثناء أبي فراس الحمداني؛ كل من عاش في زمن المتنبي من الملوك والأمراء ودخلاء الأدب انتهى بهم الأمر إلى العتمة، وبقي المتنبي.
كذلك المقالح، سيبقى حاضراً في الوجدان اليمنى والعربي لقرون كثيرة قادمة.

لا يذكر المقالح إلا ويحضر البردوني، ولا يأتي البردوني إلا ويهل المقالح، ولدى الكثير ممن تنقصهم النباهة الأدبية نزعة غير حصيفة لإقامة مقارنة صفرية بين الفرقدين.
لم أشك يوماً في وجود علاقة تنافسية بين القامتين كدأب كل العمالقة؛ كما هو الحال جلياً مع كل الكبار كطه حسين وعباس العقاد، أو محمود درويش وأدونيس، أو محمد الماغوط وأنسي الحاج.
نزعة التفوق على الذات لكليهما كانت فائقة الإلحاح. نزعة التفوق تلك كانت هبة اختصنا الله بها نحن اليمنيين، فبها امتلكنا قامتين باسقتين تُعرف اليمن بهما.
خلال مدة معرفتي بالدكتور المقالح، كان دائماً يتحدث عن الإستاذ البردوني بأدب العلماء وباحترام شديد، وقال غير مرة إن تراث البردوني ما زال بحاجة إلى المزيد من الدراسة.
لذا من غيراللائق عقد مقارنات بين سماء وسماء؛ بين مدرسة ومدرسة أخرى؛ بين شكسبير وفيكتورهوجو: بين بوشكين وغوته.

المقالح يعلم قَدَره، ويدرك أن رسالته ليس لها خاتمة مطاف، لذا ما انفك يرعى جيل من الشعراء الشباب توسم فيهم حمل لواء الشعر.
شعراء واعدون ليس هناك سقف لنبوغهم أمثال زين العابدين الضبيبي ويحيى الحمادي وهشام باشا وغيرهم.
لم يفك لهم شفرات الإبداع الشعري، ولم يوفر لهم فرص التفتح والإزهار ويجنب النابهين منهم مزالق التيه والشرود فحسب، بل حرص أن يحافظ على الشخصية الإبداعية الخاصة لدى كل واحد منهم حتى لا يكونوا مجرد غابة من الأصداء أو ساحة من المتظاهرين تحت شعار يتيم.

في الختام أقول؛
ممتنون لك، مقدرون لما تمثله لنا؛ مدركون مقامك الأدبي، وفخورون بالمكانة الرمزية الرفيعة التي تشغلها في الفضاء الثقافي العربي.
كم نحن محظوظون أننا جئنا في عصر المقالح!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى