دين ودنيا

فتاوى كورونا التي هدمت الشعائر

مجدي شلش

أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف
عرض مقالات الكاتب

سيل من الفتاوى المتعلقة بنازلة كورونا، منها ما يتعلق بالفرائض كصلاة الجمعة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، ومنها ما يتعلق بالنوافل كصلاة الجماعة في المساجد والتراويح في شهر رمضان، هذه الفتاوى بعضها صدر من أشخاص والبعض الآخر صدر من مجامع أو هيئات علمية.

لا عتب أبدا على أناس لا صلة لهم بالعلم وخاضوا بأهوائهم في غلق المساجد وهدم الشعائر التي هي أصلا مهدومة في قلوبهم قبل سلوكهم، إنما العتب واللوم على من يتصدر للفتوى ويدلي بدلوه وهو منسوب لأهل العلم، وقد قدم بفتواه التي تمنع مطلقا الشعائر في المساجد فرضا أو نفلا، وخاضت في ترك الصيام أو الحج لمنع الضرر المترتب على أداء الشعائر جماعة على طبق من ذهب لهدم الشعائر تأصيلا وتفصيلا.

قد يقول قائل إنني أفتيت بالحق، والحق أحق أن يتبع، وافق أهواء المجرمين الذين يتربصون بالإسلام الدوائر والدواهي أو خالف، هذا دين، ويجب أن نفتي به، وهذا المنهج له عندي عدة نصائح:

أولها: الفتاوى التي منعت الشعائر وقالت بحرمة الاجتماع في المساجد لصلاة الجمعة أو الجماعة إنما قامت على أدلة ظنية الثبوت أو الدلالة، وليس لها دليل قاطع يدل على المنع، إنما هي من قبيل الاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ، وليس من قبيل الحق المطلق، حتى يقال إن الفتوى بالمنع دين وحق وافق أهل الأهواء أو لم يوافقهم.

ثانيها: غالب من قرأت لهم بالمنع ليسوا من أهل الفتوى، الذين توافرت فيهم شروط الاجتهاد، إنما منهم سادة خطباء من أهل الدعوة إلى الله، ومنهم من تخصص في الثقافة العامة، أو نشط في مجال التزكية، ومجال الفتوى وبالأخص في النوازل الكبرى يحتاج إلى تخصص دقيق، يشمل:

1- العلم بجميع النصوص التي وردت في النازلة، أو التي تشبهها في غالب أوصافها، حتى يصح التنزيل الصحيح. 2- فقه هذه النصوص وعللها في ضوء شرائط الاستدلال التي تمكن الشخص من الاستنباط الصحيح.

3- فقه الواقع والوقوف على التحديات التي تحياها الأمة الآن، فمن المعلوم أن الجهل بالواقع وبمفرداته يؤثر في صحة الفتوى، والواقع الذي تعيشه الأمة من الظلم والقتل والهدم لا يخفى على أحد، وفي مقدمة ذلك استهداف الشعائر الإسلامية التي القصد الأول منها إعلاء كلمة الله وإظهار التوجه الإسلامي للأمة. غالب الأنظمة المتحكمة في رقاب المسلمين الآن لا يرقبون في شعيرة من الشعائر إلا ولا ذمة، والواقع خير شاهد ودليل، فهل نقدم لهم على طبق من ذهب هدم الشعائر بأيدينا، أو أن الأمر يحتاج منا إلى تريث وفقه وإنزال الحكم على ما يناسبه، بحيث لا نقع في مخالفة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ولا مقصد ضروري من المقاصد التي أجمع على رعايتها الشرع الحنيف، من حفظ دين أو نفس أو مال أو نسب أو عقل.

الفتوى في النوازل من قبيل الاجتهاد قطعا، ولما لم يجمع أهل العلم فيها على قول معين، تبقى في حيز الأخذ والرد، والقطع في محل الظن ليس من دأب الأفذاذ من العلماء، إنما من دأب بعض طلبة العلم الذين لم يتقنوا فن الفتوى.

4- الاستشهاد بالقواعد الشرعية التي لم تحظ باتفاق العلماء في المنع من الشعائر وتصويرها للعامة على أنها من قبيل القواعد المتفق عليها، وأنها قاطعة في المنع من الشعيرة نوع من الغش والتدليس والاحتكام إلى مظنون لمنع ما هو ثابت بيقين ألا وهم تعظيم شعائر الله وأنها علامة على تقوى القلوب.

5- نعم نفي الضرر مقدم على جلب المنفعة، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وارتكاب أخف الضررين أهون من ارتكاب أشدهما، كلها قواعد صحيحة، لكن من الذي عنده المكنة العلمية على تطبيقها على النازلة، هذا ليس للأفراد أو الهيئات المسيسة والتي تدافع عمن يملك قرارها، أو المؤسسات التي تعيش من أجل الأمن ولقمة العيش التي فقدته في بلادها.

تنزيل الواقعة على النصوص الشرعية أو القواعد الشرعية يحتاج على سبيل الوجوب لهيئة علمائية مستقلة، تجمع أهل الاختصاص المحترفين في الفتوى، لا مجموعة هواة ليسوا من أهل التخصص وتلعب بهم الأهواء النفسية من حب الشهرة بالسبق إلى الفتوى والتسرع فيها حتى يكون من أهل السبق.

القدوة في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم إذا جد جديد أو نزلت نازلة جمعوا لها أولي الأمر من أهل العلم، فإن اتفقوا صار إجماعا، وإن تعددت الأقوال فالأمر فيه سعة، مع وضع الضوابط والمحاذير لمن منع ولمن أجاز حتى لاتكون فتنة ويقع الضرر.

6- عرض مذاهب العلماء السابقين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من أئمة الاجتهاد المطلق في النازلة أمر مقدر ومحترم، لكن القطع به لزماننا والإلزام به لوقتنا وقد اختلفت الظروف والأحوال، فهؤلاء الأئمة غالبهم عاش في ظل خلافة تحترم الشعائر الإسلامية وبالأخص ما يتعلق منها بأمور العبادات من صلاة وصيام وحج، ولم يروا المهازل التي تعيشها الأمة في زمن حل فيه الاستخراب العقدي والفكري والأخلاقي والسياسي والمالي، وأصبحت الأمة رهينة عند أبناء القردة والخنازير، فهل تلزم الأمة الآن بما أفتى به المجتهدون في العصر الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع الهجري، أو أن ذلك يقدر ويحترم ويكون موضع الاستئناس عند الفتوى؟

7- ألا من جديد في الفتوى يقدمه العلماء في النوازل، يحترموا فيه النصوص الشرعية والقواعد الفقهية واجتهادات السابقين من أولي العلم من أئمتنا وسادتنا، أم أننا ما زلنا عالة على فكرهم وجهدهم، العصمة للنص وحده، وما عدا ذلك فكل يؤخذ من كلامه ويترك حسب الواقع الذي نرى بأم أعيننا تحدياته وصعوباته تجاه الأمة الإسلامية.

8- الجديد الذي نستطيع أن نقدمه الآن هو: أن يكون القصد الأول من الفتوى ملاءمة المقاصد العامة مع فقه الواقع، والشرع أعطى بل ألزم الاجتهاد في كل نازلة بما يناسبها، والمناسب في نظري الآن هو: تنادي العلماء الأحرار الذين عرف عنهم إتقان التخصص في إخراج المنتج العلمي المتعلق بالفتوى، وفقههم للواقع بكل ظروفه وأحواله، فإن اتفقوا فقد بدأنا خطوة على طريق الاختصاص ولم شمل أهل العلم، وبداية لما أهم وأعظم، وإن اختلفوا فالأمر فيه مندوحة وسعة. قد يقول البعض هذا حلم لن يتحقق، أقول: ليس مستحيلا أبدا، وكثير من الأحلام تحققت على أرض الواقع وأصبحت حالة وعرف، إلى أن يأتي ذلك الأمر أقول برأيي – فإن كان صوابا فمن توفيق الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله – بكل وضوح وصراحة في نازلة كورونا فيما يخص المنع من الصلاة في المساجد وصلاة التروايح والصيام وغير ذلك: بِحسْب علمي وتخصصي أفتي بالأتي:

أولا: صلاة الجمعة واجبة باتفاق أهل العلم، وإقامتها واجبة في المساجد بالصورة التي لا يتحقق بها ضرر قطعي، أو يغلب على الظن تحققه، وهذا ممكن، بالتباعد في الصفوف، وأخذ المسافة المناسبة بين المصلين، أما تركها بالكلية أرى فيه إثم كبير لمن أفتى بالمنع المطلق، وبالأخص إذا كان من غير أهل الاختصاص، ومن رواد الإعلام الذي يستضيف المتخصص وغير المتخصص، وإنما يركز على أهل الشهرة.

ثانيا: صلاة الجماعة فرض كفاية في حق أهل البلد، إن تعمدوا تركها جميعا يحاسبوا على ذلك، وعليهم من الإثم والوزر في ترك فرض من فرائض الإسلام وشعيرة من شعائره، أما على مستوى الأفراد فأهل التحقيق على أنها سنة مؤكدة، لا يصح المواظبة على تركها، فالسنن المؤكدة وإن جاز تركها بالجزء لا يجوز تركها بالكل، وبناء عليه: يلزم أهل كل بلد أن يقيموا ولو جماعة واحدة في بلدتهم، مع أخذ التدابير والاحتياط لمنع انتقال الفيروس لهم، وعلى المستوى الفردي يؤدي كل مسلم على الأقل صلاة واحدة في المسجد يوميا، وإن تيسر له أكثر من ذلك فهو أفضل لا شك.

ثالثا: صلاة التروايح سنة مؤكدة في رمضان، والاجتماع لها يمثل شعيرة خاصة بالمسلمين في رمضان، ويجب ألا تهدم بالكلية، والعرف فيها أنها في المسجد وليست في البيت، ولا يجري عليها أحكام النوافل الفردية التي جاءت الأحاديث تدل على فضلها في البيت، فما كان شعيرة كصلاة العيدين والكسوف والخسوف والتراويح الجماعة في خارج البيت لا شك أفضل، وبالأخص لو كانت في المسجد، ويتخذ فيها من التدابير ما سبق أن قلته في صلاة الجماعة، وبناء عليه: الفتوى التي تمنع مطلقا لا حظ لها في نظري من الصواب.

رابعا: الصلاة خلف المذياع بخصوص صلاة التراويح: ليس فيها إجماع على المنع أو الجواز ممن تكلموا في حكمها، وأرى فيها بالآتي:

ليس فيها نص قاطع بالمنع، وغاية ما استدل به المانعون من أوجه الدلالة لبعض النصوص أو بعض القواعد الفقهية لا يرقى إلى المنع المطلق فيها، فتبقى المسألة في حيز الاجتهاد والأخذ والرد، وبناء عليه: أفتي بجواز قيامها؛ للآتي:

1- لعدم وجود النص القاطع بالمنع، والشروط التي اشترطها العلماء في صحة اقتداء المأموم بالإمام ليس مجمعا عليها، وغالبها لا يؤدي إلى بطلان الصلاة، وهذه الشروط وضعها العلماء في الأمور العادية وليست جارية في النوازل، فالنوازل لها حكمها بدليل صلاة الخوف التي لها كيفية تختلف عن الصلاة في الأمور العادية، ولا يقولن أحد إن ذلك من قبيل اختراع عبادة جديدة أو هيئة غير معهودة، فالفقهاء في أمر العبادات لهم اجتهادات كثيرة في مثل هذه المسائل عند كثرة الأعداد للمصلين قالوا بجواز التلبيغ، وبعد صحة اشتراط رؤية الإمام لصحة الصلاة، وفي ذلك نماذج اجتهادية مناسبة للوقت في كتب الفقه كثيرة، فالاجتهاد الفقهي لا يوسم بالبدعة حيث سمح الاختلاف في المسألة.

2-في إقامتها تعظيم لما هو قطعي، إذ إنها من جملة الشعائر التي يجب أن تحترم وتقدر، وفي إقامتها تحقيق مقاصد شرعية كثيرة لا تخفى على من كان من أهل العلم.

3- إقامتها مشروطة بعدم تحقق الضرر القطعي أو الظني من انتقال الفيروس، وإما إذا تحقق عدم الضرر فإقامتها في المساجد وما يلحق بها هو الأولي، فمن المعلوم فقها أن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، في العبادات والمعاملات، وبناء عليه: فالفتوى بالمنع المطلق فتوى جامدة صلبة لم تتحر الواقع المحلي ولا الإقليمي ولا العالمي، وتماهت مع أصحاب الأهواء وإن لم تقصد ذلك.

خامسا: يجري على الحج كشعيرة ما قلته في أمر صلاة الجمعة وصلاة الجماعة.

سادسا: الصيام فريضة تركها لأدنى ملابسة خطر عظيم وبهتان كبير، وما يجري على الفرد فيها إن كان مريضا أو مسافرا لا يجري على جميع الأمة، وقد ثبت بيقين أن الصوم له تأثير إيجابي على الصحة وبالأخص فيما يتعلق بالمناعة، وبناء عليه: كل من أفتى بحرمة الصوم في نازلة كورونا لا حظ لفتواه من الصحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى