دين ودنيا

ثلاث وصايا (نبوية) لحياة طيِّبة في ظل الإيمان بالقدر

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

كان الرسول صلى الله عليه وسلم مربياً ومزكياً لنفوس أصحابه، وهي المهمة التي شرفه الله سبحانه بها، وتتجلى هذه التزكية، بأوضح صورها من خلال هذه الوصايا الثلاثة التي تُعد بحقِّ نماذجَ العلاج النبوي لأمراض النفوس وتدريبها عملياً على التسليم لقضاء الله وقدره والرضا به.

الوصية الأولى:

 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان

وفي هذا الحديث النبوي يبين الرسول صلى الله عليه وسلم ن منأن من أراد نيل محبة الله ورضوانه فعليه أن يبادر إلى تقوية إيمانه ومجاهدة نفسه، وطلب القوة في العلم والجسم، وغير ذلك من عناصر القوة النافعة التي تتضافر جميعها لتكوين شخصية المسلم الذي يحبه الله سبحانه، ولكي يحظى المسلم بذلك فلا بد له من الأخذ بالوصايا النبوية الواردة في هذا الحديث: وهي أن يحرص على ما ينفعه ويطلب العون من الله سبحانه ولا يعجز، وأن يُسلّم أمره لله فيما قدّر له فلا يسخط ولا يشتكي من المصائب ولا يدع للشيطان مدخلاً يقوله: “لو أني فعلت كذا وكذا” فكلمة “لو” تجلب الحسرة والأسى، وتزيد اللوعة وتورث القلق والاضطراب، ولن يستطيع إعادة ما فات ولا إحياء من مات مهما تحسر، وإنما سيجلب لنفسه الكآبة ولجسمه الأمراض والآلام ويتعرض لغضب الله، باعتراضه على قدره، فالعلاج العملي أن يقول: “قدّر الله وما شاء فعل”، مُعِلناً استسلامه

الوصية الثانية:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني استخريك بعلمك واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم إن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فأقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني
ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، ويسمي حاجته.

وهذه الوصية النبوية تعد تدريباً عملياً على توطين النفس ورضاها بالقضاء والقدر، وتسليمها لما يقدر الله، اعتقاداً بأن ذلك هو الأصلح، والأنفع للعبد، فإذا همَّ المسلم بأمر من الأمور المباحة، من سفر أو زواج، أو تجارة أو غير ذلك فعليه أن يبادر إلى العمل بهذه الوصية النبوية، فيدعو بدعاء الاستخارة متذللاً أمام ربه، متواضعاً بين يديه، مستسلماً لأمره، راضياً بحكمه، داعياً أن يختار الله له ما فيه الخير في دينه ومعاشه وعاقبة أمره، وأن يصرف عنه هذا الأمر إن كان فيه شر، ثم يعزم على هذا الأمر، فإن انشرح صدره له، ويسر الله طريقه، وهو الخير الذي اختاره الله، وإن جاء الأمر على عكس ذلك، فعليه أن يفرح، لأن الله صرف عنه شراً واختار له ما يصلحه، ولو لم يدرك الحكمة فلتطمئن نفسه ولا يبقى متعلقاً بهذا الأمر، أو قلقاً من أجله، وبهذه الوصية النبوية، يدرب المسلم نفسه عملياً على الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمره، ويجاهد نفسه على مخالفة هواها ويربيها على الالتزام بأمر الله، لأن في ذلك صلاح دنياه وآخرته.

روى الأعمش عن مسعود رضي الله عنه قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر إليه الله من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: أصرفوه عنه فإني إن يسرته له أدخلته النار، قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دُهيت؟ وما هو إلا فضل الله سبحانه.

ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم كثيراً بدعاء الاستخارة ليعلمه لأصحابه، كما يعلمه السورة من القرآن، وهذا دليل على غاية الاهتمام به، والحرص عليه وهو ومن هو.

الوصية الثالثة:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم. وفي رواية البخاري: إذا نظر أحدكم إلى من فُضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضل عليه.

وفي هذا الحديث دواء لداء الحسد والتشكي من الأقدار، فالنفس التي تتطلع إلى الآخرين لن ترضى بحالٍ من الأحوال كلما بلغت درجة من الغنى والجاه تعودتها فملتها وتطلعت إلى المزيد فهي دائماً في تلهف إلى كثرة المال وتعلق به وسخط وحسرة وازدراء للنعم، وجحود للمنعم، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.

فإذا اتبع المسلم هذه الوصية النبوية فإنه سيعرف قدر النعمة ويرضى بما قسم الله له، وينال القناعة، ويحظى بالسعادة ولو كان مبتلى بالفقر أو المرض أو المصائب المختلفة، لأنه إن كان فقيراً لا يملك وفرةً من المال فلينظر إلى من ابتُلى بالفقر المدْقع والجوع الشديد، وإن كان مريضاً يشكو من بعض الآلام فلينظر إلى من ابتلي بعاهة أو مرض مزمن خطير، وهكذا يبقى دائماً مقدّراً للنعمة راضياً بما قسم الله له شاكراً صابراً، ولو أخذ المسلمون اليوم بهذه الوصية النبوية لسعدت أحوالهم، واستقامت أوضاعهم، وعرفوا الثمرة الحقيقية للإيمان بالقضاء والقدر، وسارعوا إلى التنافس في التقوى والعمل الصالح والتقرب إلى الله عوضاً عن التنافس على حطام الدنيا الزائل (كرزون صفحة 163).

المصادر والمراجع:

  • أنس أحمد كرزون، منهج الإسلام في تزكية النفس (1 / 163).
  • علي محمد الصلابي، الإيمان بالقدر، ص27-30.
  • محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، (7 / 175،162).
  • مسلم ابن الحجاج، صحيح مسلم، حديث 2664. 2963.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى