مقالات

لا يستطيع الأسد أن يستحم في مياه النهر مرتين

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

تجدر الإشارة بداية إلى أن عنوان هذا المقال ليس من صناعتي، وإن كنت قد أجريت عليه بعض التعديل، وإنما هو مقولة فلسفية للفيلسوف اليوناني “هيرقليطس”، الذي ولد في مدينة أفانوس قرابة العام 535 ق.م. أيام حكم الملك داريوس الأول، وهو يُعدّ من أكبر الفلاسفة اليونان وأكثرهم عبقرية. هيرقليطس هذا عُرف عنه أنه فيلسوف الصيرورة، فهو الذي أكد: أن الإنسان لا يستطيع أن يستحم في مياه النهر مرتين، لأن مياه النهر في حالة تغير مستمر، فالنهر لا يظل النهر نفسه لأن مياه جديدة تتدفق بشكل دائم، ولا نحن الأشخاص أنفسهم في كل مرة ننزل إليه، فالتغير يحكمنا كما يحكم الأشياء، واتصالنا بها اتصال تغير وتحول وليس اتصال ثبات، وهذا يعني أن التغير جوهر الأشياء، وأن الجريان مستمر وشلال التحول لا مفر منه.
هذا التغير والجريان وشلال التحول الذي تؤكده فلسفة الصيرورة هو ما أحدثته الثورة السورية في جسد المجتمع السوري على المستويات كافة، وأثبتت بما لا يدع مجالاَ للشك أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن التحول والتغير والصيرورة عصفت بكل ما كان مستقراً في ذهنية الإنسان السوري بفعل اللحظة الثورية التي يمر فيها المجتمع.
وحتى أوضح ذلك أقول: إن تغيرات كبيرة وجوهرية حصلت على المستوى القيمي، فبعد أن كانت قيم الولاء والطاعة والقائد الرمز هي القيم السائدة في المجتمع السوري، حلّت مكانها بعد الثورة قيم الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، وبعد أن كان حلماً على المواطن السوري أن يُفكر بالتعددية السياسية وتداول السلطة أصبح الآن يصرخ بأعلى صوته مطالباً بهما، ورافضاً لكل أشكال الاستبداد والطغيان والحرمان، وبعد أن كانت مصطلحات مثل: الحزب القائد، والقائد الرمز، والبعث العظيم مصطلحات مقدسة، أصبحت بعد الثورة مصطلحات لا يستسيغها أي مواطن سوري بعد أن فضحت الثورة ادعاءات البعث وزيف أهدافه.
إن التغيرات التي حدثت بفضل الثورة السورية المباركة كثيرة ومتعددة، ويكفي أن أُشير إلى أنه بفضل الثورة لم نعد نحن ولا أطفالنا نهتف للحزب والقائد والحركة التصحيحية المزيفة، ولم نعدّ نحن ولا أبناءنا نؤمن بدولة المقاومة والممانعة التي لم تستطيع خلال خمسة عقود أن تُحرر شبراً واحداً من جولاننا المحتل، بل لم نعدّ نحترم تلك البنادق التي وجهت إلى صدورنا وخانت وطننا.
لقد تغيرت قيمنا واتجاهاتنا نحو كل ما جذره نظام الاستبداد في نفوسنا عبر سنوات حكمه العجاف. كيف لا والمدن السورية تُدك بالدبابات وراجمات الصواريخ ومدافع الهاون. كيف لا نتغير ودماء الأطفال في معظم المحافظات السورية تسيل صباح مساء، والنساء الثكالى أصبحت في كل بيت. ثم كيف لا نتغير ونحن نرى ليلاً كالحاً يُطبق بجناحيه على سورية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
لكل ما سبق وأكثر منه بكثير لن يستطيع أن يستحم الأسد في مياه النهر السوري مرتين. لقد تغيرنا بفعل اللحظة الثورية التي نعيشها، ولم يعد بمقدور الأسد أن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فضلاً عن أنه لم يعدّ قادراً أن يُعيد سورية والسوريين إلى ما قبل 18/ آذار 2011. لقد أدرك الشعب السوري أن لا قيمة للإنسان في واقع الاستبداد، ولا مكان للحرية في الدولة الشمولية، لقد علمتنا الثورة أن الدول لا تُحكم بالحزب الواحد، ولا بالقائد الواحد، ولا بالدبابة والصاروخ والمدفع، ولا بالعنتريات التي ما قتلت ذُبابة، ولا برسالة البعث المزيفة التي قال فيها نزار: لو أدى البعث رسالته لوصلنا إلى الجبل الأقرع.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يستحم بمياه المجلري زيادة على نظام الأسد فماء الثورة السورية طاهر و سيبقى طاهراً لولا رعونة النصيريين…..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى