مقالات

نظرات في مرحلة الاستقلال

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

من مشاهدات خالد العظم في مذكراته حول الجلاء:

“صبيحة يوم الجمعة الثاني من حزيران 1945 شاهدت من الدار التي أقمت بها في حي المهاجرين الدبابات الانكليزية تجوب الطرق, وقد مرت أمامي وسط عاصفة من التصفيق والابتهاج, واختفى الجنود الإفرنسيون بلمحة بصر, وبدأوا بالرحيل عن دمشق..”

كان هذا المشهد قبل أقل من عام على جلاء الفرنسيين عن سورية.. ولم تكن تلك مشاهد الجلاء, لكنها كانت مقدمة له, وجاءت عقب رضوخ الفرنسيين للإنذار البريطاني, بوجوب وقف حملتهم الهمجية على العاصمة دمشق, والمدن السورية, للانتقام من السوريين, وردا على المظاهرات والإضراب العام, الذي عمّ مدنهم بأسرها, تأييداً لموقف الحكومة الوطنية بعدم الدخول في مفاوضات لعقد أي اتفاقية مع الفرنسيين قبل تسليم الصلاحيات جميعها, للحكومة الوطنية, بما في ذلك الجيش وتفرعاته, طبقا لبنود معاهدة الاستقلال.

 29 أيار 1945, تاريخ مشهود عند السوريين, واصطلح بعضهم عليه ب”مجزرة البرلمان”, فمع صبيحة ذلك اليوم, بدأ الفرنسيون بقصف دمشق وحلب وحمص وحماة ودير الزور والرقة ودرعا, وتحركت دباباتهم باتجاه العاصمة دمشق, مدعمة بالمدفعية الثقيلة, وهي تضرب الأحياء السكنية, والأسواق الشعبية, والمناطق الأثرية, وتمعن في البلاد قتلا وسلبا ونهبا.

وكان مبنى البرلمان, مما أصابته القذائف, فتهدمت واجهته وأصيب بأضرار كبيرة, وعمدت القوات الفرنسية إلى قتل حراسه القلائل, ومثلت بهم بعد نفاذ ذخيرتهم و استسلامهم.

واستمر القصف المتواصل ستا وثلاثين ساعة, حتى صدر الإنذار البريطاني, بوجوب وقف القتال, وامتثل الفرنسيون له, وبدأوا بسحب قواتهم، وتسليم المطارات والمواقع العسكرية للحكومة الوطنية، تلاها تسليم المستشفيات والمدارس والسجون، ومعها جزيرة أرواد وقلعة حلب وقلعة دمشق.

يُسجل التاريخ للرئيس شكري القوتلي, أنه بقي صامدا في داره بدمشق, ورفض عرض الوزير البريطاني المفوض بالانتقال إلى عمان تحت حماية الانكليز, وقال: “إذا كنت سأخرج من داري, فبسيارة الصحة إلى سرايا الحكومة, حيث أمكث هناك, وليأت الفرنسيون ليقبضوا علي هناك إذا تمكنوا من أخذي حيا”.

وفي مذكرات خالد العظم, أن الرئيس القوتلي, وكان وقتها يرقد على فراش المرض في بيته, عديم الاتصال بوزارته ورفاقه, استدعى وزير بريطانيا المفوض بدمشق, فجاء داخل دبابة انكليزية, وبلّغه القوتلي احتجاجا شديدا على أعمال الجيش الفرنسي, وطلب منه تدخل حكومته لوقف هذا الاعتداء, ومعالجة الأمر بسرعة”, فكان لذلك الفضل الأكبر في اجتياز البلاد هذه العاصفة الغاشمة.

كان لصمود السوريين ورئيسهم, والتضحيات التي قدموها في تلك الاحتجاجات, أكبر الأثر في رفع الروح المعنوية, والإصرار على الجلاء التام للفرنسيين, ومن هنا جاءت فرحة السوريين العارمة صبيحة الاستقلال 17 نيسان 1946, وهم يحتشدون بجموع هائلة, لسماع رئيسهم شكري القوتلي وهو يخطب قائلا:

“بني وطني هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم فلا يخفق فيه إلا علمكم هذا يوم النصر العظيم والفتح المبين..”..

كانت سورية أول دولة يجلو عنها الاحتلال, وكان للأحداث الأخيرة تلك, أكبر الأثر في إذكاء الحماسة والاندفاع لدى السوريين, وتهيئة النفوس لمرحلة قادمة من البناء والتنمية لدولتهم الناشئة. وقد تجلت آثار هذه الحماسة والاندفاع, في تجاوب السوريين مع أحزابهم وزعمائهم, ومشاركاتهم في الانتخابات والمناسبات السياسية, وكانوا سبّاقين في التفاعل مع القضايا الوطنية والقومية, كقضية فلسطين أيام التقسيم 1947 وحرب 1948ضد اليهود.. وهبّتهم لنصرة مصر, أثناء العدوان الثلاثي عليها عام 1956, ووقوفهم صفاً واحداً مع وحدة مصر وسورية عام 1958, فضلا عن دعم نضالات الشعوب العربية, التي كانت لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار, وأبرز مثال على ذلك وقوفهم مع ثورة الشعب الجزائري.

ومن نافلة القول أن تلك الفترة, أو ما عُرف ب “العهد الوطني”, شهدت حكما دستوريا برلمانيا, َعِمَ فيها السوريون بجوٍّ مفعمٍ بالحريات والديمقراطية وتكافؤ الفرص, والانفتاح السياسي والثقافي والاجتماعي, وازدهرت فيها الصحافة, وتعددت وسائلها وأدواتها, ولا تجد حزبا أو جمعية لا تمتلك جريدة أو مجلة أو أكثر, ويمكن الحديث عن عشرات المطبوعات التي تصدر يوميا أو أسبوعيا, وفي كل مدن سورية, تحمل وجهات نظر متنوعة ومختلفة, ونقداً صريحاً ولاذعا, وكانت سيفا مصلتا على الحكومة ومؤسساتها ومسؤوليها مهما كانت درجتهم..

كانت فترة جديرة بأن تنظر إليها الأجيال اللاحقة بكل تقدير واحترام, وإلى رجالاتها وقادتها برمزية خاصة, وتوليها مكانة واعتبارا لم يتكرر بعدها.

ومع كل ما أسلفنا في حديثنا “الموجز” عن “العهد الوطني”, إلا أن نظرة واقعية إلى تلك الفترة, تُظهر أنها لم تكن تخلو من الأخطاء والمشكلات, وأنها حفلت بأحداث ومواقف وسلوكيات, كانت كافية لإهدار تلك الميزات التي تحدثنا عنها, وحرمان السوريين من فرصتهم في بناء دولتهم ووطنهم, وتطويره على النحو الذي أمّلوه.

فقد كثرت الانقلابات العسكرية, وساد الاضطراب والفوضى السياسية, وغلبت الأهواء والمصالح الفردية والحزبية, والولاءات الأجنبية, وفي الوقت الذي كان مأمولا من الرموز والشخصيات الوطنية التي قارعت الاستعمار ووقفت بوجهه سنوات طويلة حتى أجلته عن ديارها, أن تضطلع بمسؤوليات الوطن وحمايته من العبث والاستغلال والتلاعب, في الحفاظ على البلاد, فإنها في الواقع اظهرت عجزا وتهاونا, وربما تسامحا ليس في محله, فأسلموا بذلك البلاد إلى فئات من العسكريين المغامرين, من المطبوعين على التمرد والانحراف, وغيرهم من الساسة الفاسدين, فتلاعبوا بمصيرها, وساروا بها في طريق الفوضى والخراب.

قد لا يكون من المبالغة القول بفشل تجربة الاستقلال, وأنها لم تكن بالمستوى المأمول. ولعل من سوء الطالع, أن الزعيم الوطني شكري القوتلي, الذي ناضل من أجل سورية الكبرى منذ أيام الملكية, كان في صبيحة الجلاء يحتفل برئاسته على كيان مختزل سلب منه ثلثاه, وبات يتوجب عليه أن يحميه ويحرس حدوده, وليس هذا وحسب, بل سرعان ما أشكلت عليه الأمور, وانقلبت عليه الأحوال, ليجد نفسه بعد برهة من الوقت, أمام انقلاب عسكري من رئيس الأركان الذي كان قبل أيام يقسم يمين الولاء والطاعة, وها هو اليوم يزج به في السجن, ثم ينفى لسنوات حارج الوطن.

ولأن الأقدار لا تنفذ عجائبها, فقد أعادت القوتلي إلى سورية, ثم إلى سدة الرئاسة, ثم ما لبث أن وجد نفسه وهو يُسلّم مقاليد البلاد إلى الرئيس عبد الناصر, ويقول عبارته الشهيرة: “على بركات الله, الله يبارك لك يا عبد الناصر”.

ثمة حاجة ماسة للوقوف على مرحلة, ما بعد الاستقلال, أو ما سُمي ب “العهد الوطني”, وإعادة قراءتها بكل حيادية وموضوعية, في مجمل ظروفها وملابساتها ومشكلاتها, وهيئاتها وأحزابها, ورموزها وشخصياتها, في محاولة للوصول إلى الأسباب الجوهرية التي أعاقت, أو بالأصح, وأدت تلك الدولة الناشئة, في المهد. وقد يذهب بنا إلى البحث والتقصي, إلى بداية تكوين الجمهورية الناشئة, والظروف والتحولات التي فرضها الانتداب الفرنسي عليها, والمؤكد أيضا, أن عوامل ذاتية ساهمت في ذلك, على رأسها التباين الكبير في أداء الزعماء الوطنيين ما بين مرحلة النضال, ومرحلة الحكم والسلطة. ولم يكن التنافس الحاد بين الأحزاب والقوى السياسية, والثقة المزعزعة, بأقل تأثيرا, بالإضافة إلى العجز والتهاون الذي اتسمت به مواقف السياسيين والزعماء الوطنيين المعول عليها, في كبح جماح العسكريين المتمردين, ووضع حد لمغامراتهم, وسلوكياتهم المنافية للمسؤولية والحس الوطني السليم, والذي دفع بالكثيرين للقول, بأن المؤسسة العسكرية السورية, كانت أول مسمار يُدق في نعش الجمهورية الوليدة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. موضوع مهم جدا وبنفس الوقت هو جدا معقد، ويحتاج حتى للوقوف على الواقع الاجتماعي للناس ولماذا يقبلون بهذا الفساد طالما توجد حرية للصحافة. ومن نافلة القول مثلا شاهدت بعض مقاطع متفرقة في مسلسل الدبور وهو يتحدث اجتماعيا عن هذه المرحلة، ورغم نقص الدقة في الأعمال الفنية، إلا أن فيها مؤشر إذا ثبت أنه صحيح فهو من جملة الأسباب.
    حيث ترد مقاطع عن التسلط العائلي واستغلال المناصب ومحاولة إعطاء الرشى وما الى ذلك.

    لكن بعد كل هذه التعقيدات. هناك سؤال غير مفهوم، وهو أن معظم الدول العربية قد مرت بمثل هكذا فساد وتنافسات والخ، فلماذا هو قدر سوريا بالذات أن يكون هكذا؟ ربما هو مجرد قدر رباني لحكمة أو هناك سبب خاص، أو هي الجغرافيا السياسية أو ميراث التاريخ أو غيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى