ثقافة وأدب

التناص في الشعر القديم والمعاصر (2)

مأمون الشبلي

باحث وناقد
عرض مقالات الكاتب

و لما رأينا الصبر قد حيل دونه .. وإن كان يومًا ذا كواكب مظلما

صبرنا وكان الصبر منا سجية .. بأسيافنا يقطعن كفًّا ومعصما

و لما رأيت الود ليس بنافعي .. عمدت الى الأمر الذي كان أحزما

والأبيات لمانع الضيم وهو الحصين بن حمام المري الذبياني من قصيدة رائعة وردت في المفضليات، وللقصيدة قصة طريفة:

فقد عَدت بنو جوشن على خمار يهودي كان جارًا لبني سهم فقتلوه، وكانوا جيرانًا، فكتب سيدهم – وكان غائبًا عنهم – يحرض قومه على القتال

فقام بالحرب الحصين بن الحمام فأبلى بلاء شديدا، وقد أخذ الحيص بيص سعد بن محمد التميمي صدر البيت الثاني وأحاله معنى آخر في أبيات اشتهر منها عجز بيت آخرها:

ملكنا فكان العفو منا سجية .. فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وكان الذي طار بين الناس من الأبيات قوله:

فكل إناء بالذي فيه ينضح.

وعلى ما كان عليه الحيص بيص من ميل إلى بني مزيد الأسديين الشيعة في أطراف الحلة، ومجاهرة بني العباس العدواة وهجاء عُرف عنه للمسترشد والمقتفي، إلا أن له شعرًا جيدا.

ورأيت بعض المراجع الحديثة تنسب الأبيات لشاعر عراقي المولد بحريني الجنسية حديث هو: عبدالحسين بن قاسم بن صالح بن هليّل الحلي، وهذا إما لجهل ممن يقوم عليها أو حسدًا من عند أنفسهم.

بالعودة إلى قصيدة مانع الضيم نقرأ فيها:

فلست بمبتاع الحياة بسبة .. ولا مُرتَقٍ من خشية الموت سلما

و أُطرق إطراق الشجاع ولو يرى .. مساغا لنابيه الشجاع لصمما

لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا .. وما عُلّم الانسان الا ليعلما

ويُنسب آخر الأبيات لجرير بن عبد العزِّي أو عبد المسيح المعروف بالمتلمس الضبعي وهو بحريني أيضًا، وللمتلمس هذا بيت جميل جدًا من أبيات يقول فيها:

ومُستَنبح تستكشف الريح ثوبه .. ليسقطَ عنه وهو بالثوب مُعصِم

عوى في سواد الليل بعد اعتسافه .. لينبحَ كلبٌ أو ليوقظ نُوَّم

فجاوبه مُستَسمِعُ الصوت للنَّدى .. له عند إتيان المحبّينَ مَطَعُم

يكاد إذا ما أبصرَ الضيفَ مُقبلًا .. يُكلِّمه من حبِّه وهو أعجم

وأما قول الحصين: لذي حلم قبل اليوم ما تقرع العصا، فهو المثل السائر المعروف: قُرعت له العصا، وقد تذكرته صدفة في محادثة لصديق رائع، كان قد ترك التدخين منذ ليال ليست بالبعيدة، ساءني غيابه، ولما حادثته ما آنستُ في صوته ما أعهد

من تفاؤل فسألته هل أحدثتُ ما أغضبك، ما الذي جعلك تبتعد عني؟

قال لا لم أبتعد، قلت له أحسبني أفهم الإشارة ولك أن تلمّح أو تصرّح أو تقرع العصا

ولعل قائلًا يقول: إن اللبيب من الإشارة يفهم، هو أقرب لما حدث، أقول نعم، واصْبر، فلذي حلم تُقرع العصا وقْع أجمل ودلالة أبلغ.

ولقد قرأناه في أشعار العرب، فعند سعد بن مالك الكناني:

قرعتُ العصا حتى تبيَّن صاحبي .. ولم تكُ لولا ذاك في القوم تُقرع

وفي الروايات هو أول من ذكر هذا فذهب مثلا، ويروى أنه قال البيت في أخيه عمرو بن مالك بن ضُبيعة عند النعمان بن المنذر.

وتنازعت العرب القول في أول من قال المثل أو من نُسب إليه – شأنهم في الشرف – فبين قائل هو عامر بن الظرب العدواني، وآخر يجعله قيس بن خالد (ذو الجدين)، وثالث ينسبه لربيعة بن مُخاشن من بني أسيد بن عمرو بن تميم

وقالت اليمن: هو عمرو بن حُمَمَة الدوسي.

وأيًا كان من قُرعت له فإن بيننا الآن من يستوجب ألف عصا يُقرع بها لا تُقرع له، فلا حلوم لهم ولا أحلام، لا يفهمون تلميحًا ولا يعون تصريحا.

وذكر الفرزدق المعنى أيضا بقوله:

فإن أعفُ أستبقي ذنوب مجاشع .. فإن العصا كانت لذي الحلم تُقرع

واستعاره ابن زيدون:

إن العصا قُرعت لذي الحلم .. والشيء تحقره وقد ينْمي

وبالعودة إلى أبيات الحصين مرة أخرى نقرأ له:

يطأن من القتلى ومن قصد القنا .. خَبَارا فما ينهضن إلا تقحما

عليهن فتيان كساهم محرق .. وكان إذا يكسو أجاد وأكرما

ويروى عجز البيت الأول: فما يجرين إلا تجشّما.

وهذا من نُبل أخلاق العرب أن يذكر أحدهم خصال خصمه الحميدة، ولكم أن تقولوا هذا هو الإنصاف، وإنّا قلّما نجد مُنصفًا في أيامنا الغبراء هذه.

وبالحديث عن الإنصاف، فإنّا لو قرأنا في موروثنا الأدبي لوجدنا ما يسمى قصائد سمّيت المنصفات، وهي قصائد يذكر فيها الشاعر أعداء له فينصفهم، وتختلف عما ورد في تعظيم الفارس عدوّه حتى يَعظُم نصره

إنما يعمد الشاعر هنا إلى جعلهم على قدم مساواة معه في الشدة والبأس، وهذا من الخلق الرائع، فلا يُخفي حسناتهم ولا يصفهم بما ليس بهم.

يقول أمية ابن أبي الصلت:

كأن أكفّهم عَذَبٌ مُلقّى .. وحُمّاض بأيدي مُعلنينا

فجاؤوا عارضا بَرِدًا وحينًا .. كمثل السيل يمنع واردينا

وشيب الرأس أهون من لقاهم .. إذا هزّوا القنا مُتقابلينا

كأن رماحهم سيل مُطِل .. وأمساك بأيدي مُوردينا

فلما لم تدع قوسًا ونبلًا .. مشينا النصف ثم مشوا إلينا

فذادونا ببيض مرهفات .. وذدناهم بها حتى استَقَينَ

وهذا والله إنصاف قلَّ أن نجد مثله.

وأما بيته: فلما لم تدع قوسًا ونبلًا. فقد أخذه من عبد الشارق بن عبد العزى في أبيات تأتي لاحقًا.

ولعنترة أبيات من المنصفات يقول فيها:

فلم أر حيًّا صابروا مثل صبرنا .. ولا كافحوا مثل الذين نكافح

إذا شئتُ لاقاني كميٌّ مدجج .. على أعوجيّ بالطعان مسامح

وأقبل صفّانا وفي عارضيهما .. جنيّ تُرى فيه البروق اللوامح

إذا أقبلوا في السابغات حسبتَهم .. سيولًا إذا جاشت بهن الأباطح

كأن القنا الخطيَّ فينا وفيهم .. شواطن بئر هيَّجتها المواتح

وثم فرقنا بالرماح ولم يكن .. هنالك في جمع الفريقين رامح

ودُرنا كما دارت على قطبها الرحى .. ودارت على هام الرجال الصفائح

أما الجهني عبد الشارق بن عبد العزى فيقول في قصيدة تكاد تكون الأشهر بين المنصفات:

أَلا حييت عنَّا ردينا .. نحيييها وإن كرمت علينا

فجاؤا عارضا بردًا وجئنا .. كمثل السيل نركب وازعينا

فلما أن تواقفنا قليلا.. أنخنا للكلاكل فارتمينا

فلما لم ندع قوسًا وسهما .. مشينا نحوهم ومشوا إلينا

شددنا شدّة فقَتلتُ منهم .. ثلاثة فتية وقَتلتُ قَينا

وشدوا شَدَّة أخرى فجرُّوا .. بأرجل مثلِهم ورموا جَوينا

فآبوا بالرماح مُكسَّرات .. وأُبْنا بالسيوف قد انحنينا

وباتوا بالصعيد لهم أُحَاح .. ولو خفَّتْ لنا الكَلمَى سرينا

وقوله: فآبوا بالرماح مكسّرات، قريب من قول عمرو بن كلثوم في معلقته:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا .. وأُبنا بالملوك مُصفَّدينا

ولست أزعم قُرب البيتين لتكرار كلمة أُبنا، إنما للصورة، فالملك الأسير سيف انحنى، والرماح العوالي عزيزات سُبينَ.

وفي بيتين من معلقة التغلبي مايشبه هذا وإن وردَ في باب الوصف ، ثم يرتد إلى فخره:

كأن سيوفنا منّا ومنهم .. مخاريق بأيدي لاعبينا

كأن ثيابنا منّا ومنهم .. خُضبن بأرجوان أو طُلينا

ولقد قرأتُ المُنصفات فرأيت أجملها قصيدة عبد الشارق بن عبد العزى، ووجدت اتفاق شعراء المنصفات على وصف خصومهم بالسيل، وهذا جليّ في الأبيات السابقة.

فلأمية بن أبي الصلت: كمثل السيل يمنع واردينا

ولعنترة قال: سيولًا إذا جاشت بهن الأباطح

وقال عبد الشارق: كمثل السيل نركب وازعينا

وبالعودة إلى قرع العصا لذي الحلم، فللحارث بن وعلة الشيباني أبيات قالها بعد مقتل أخيه:

قومي هم قتلوا أُميمَ أخي .. فإذا رميتُ يُصيبني سهمي

فلئن عفوت لأعفون جللًا .. ولئن سطوت لأوهنن عظمي

لا تأمنن قومًا ظلمتهُم .. وبدأتهم بالشتم والرّغم

أن يأبروا نخلًا لغيرهم .. والشيء تحقره وقد يَنمي

وزعمتمُ أن لا حلوم لنا .. إن العصا قُرعتْ لذي الحلم

وعجز بيت الحارث الأول (فإذا رميتُ يُصيبني سهمي) يُذكّرني بيتًا للشاعرة نارت حسن الشيخ من قصيدة مطلعها:

ما بين مطرقتين: الخوفُ والوجد ..ولوعة لم يكن من نزفها بدُّ

بيت تقول فيه:

نقوِّم السهم كي نغتال فاجعة .. نغتالنا دون قصد حين يرتدُّ

وأراه في بيت الحارث بن وعلة، كما أراه في بيت للشاعر هشام باشا من قصيدة مطلعها:

بين السكوت وبينه جفوة .. وبقلبه من قلبه جذوة

يقول فيها:

زَيْدٌ أخي ما زال يقتلني .. ما زال يقطع فأسه حقوه

ما زال يجري من هنا وهنا .. نحوي ليطلق سهمه نحوه

هذا ويغفر الله لمحمود سامي البارودي القائل:

ترى كل مَشبوب الحَميَّة لم يسر .. إلى فئة إلا وطائره يَعلو

إذا صال رَوَّى السيف حَرَّ غليله .. وإن قال أورى زَنده المنطق الفصلُ

له بين مجرى القول آياتُ حكمة .. يدور على آدابها الجِدُّ والهزلُ

تلوح عليه من أبيه وجده .. مخايِل ساوى بينها الفرع والأصلُ

فأشْيبُنا في مُلتقى الخيل أمرد .. و أمردنا في كل معضلة كهلُ

لنا الفصل فيما قد مضى وهو قائم .. لدينا وفيما بعد ذاك لنا الفضلُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى