ثقافة وأدب

رثاء أم

د. نور الدين اللباد

شاعر ودبلوماسي سوري سابق
عرض مقالات الكاتب

كان الفجر يرسل خيوطه الأولى في ذلك الصباح الربيعي البارد ،وكان الدخان يتصاعد من أفران البيوت فيوقظ في القرية رائحة الخبز. أنهت أمي خبزها وخرجت من الفرن وهي تحمل على رأسها طبق القش المملوء بالخبز الساخن الطازج كان وجهها محمراً بعد أن لفحته نيران الفرن فاختلط عرقها مع سَكَن الموقد، فكانت خطوط سوداء تسيل على وجهها لتوازي دقّة السيّالة في وسط شفتها السفلى وكأنها تكمل رسم السيّالة التي لم تكن مكتملة .كانت أمي تضع في طرف أنفها الأيمن خزّامة ذهبية( زمّيم) تلمع مع عرق وجهها فيضفي عليه لوناً ورديّاً طبيعيّاً كما خلقه الله. دخلت لبيت( الخَرجْ) ولفت أرغفة الخبز بقطعة قماش أبيض كي لا يجف، وأشعلت (بابور) الكاز ووضعت عليه ابريق الشاي الكبير فهناك عائلة كبيرة في الدار حيث نعيش مع بيت عمي وأولادهم وجدتي وجدي . وأيقظت أخي عماد كي يتناول ماتسنى من الخبز والشاي لكي يذهب للمدرسة . لم أكن تجاوزت الخامسة من عمري حينها وعلى مايبدو أني قضيت الليلة السابقة باكياً فوعدتني أمي أن تأخذني معها إلى( جنى العكّوب)..
بعدأن أنهت مهامها المنزليةواستيقظ جميع من في الدار تركت أمي أخي و أختي التوأم (خليل) و( مها )لدى جدتي حيث كان أول خطوهما.جهزّت عدة الجَنى وهي( العبوة) والتي هي عبارة عن فأس صغير ، جانب
للحفر و جانب ينتهي بفرعين لخلع جذر النبات وسكين كبيرة تسمى (الخوصة) لتنظيف العكوب من الشوك.
و(الشليف) وهو قطعة قماش كبيرة على شكل جعبة الصيادين يربط. بخيطين من الأسفل حول. الخصر وخيطين من الأعلى حول الأكتاف. …. ألبستني سترة من الصوف ولفت رأسي بأحد مناديلها فالجو في نهايات آذار ما زال بارداً وحذاءً جديداً (من الشاموا البني الغامق بسحاب في وسطه وينتهي بإطار من فرو ناعم) و هذا الحذاء هو محور القصة، كان والدي قد أرسله لي من (الكويت) مع أحد أصدقائه. كانت صديقتاها( فوزة العلي أم خالد رحمها الله) و(عيشة الخطيب أم خالد أيضاً أمدّ الله بعمرها) تنتظرانها أمام باب دارنا كي يذهبن سويةً . كانت أمي تقول لي أنني (والخالدَيْن) ولدنا الثلاثة في يوم واحد. كان لابدّ أن نقطع مسافة طويلة خارج القرية و بمحاذاة وادي ( العرّام ) الذي فاض في تلك السنة بغزارة وكانت صديقات أمي وهن ماشيات جانب النهر يغنين( الوادي طايف طوفة… . زغرتيليو يانوفة)….. فأمي اسمها (نايفة) ونوفة يبدو أنه اسم دلع لم أكن أسمعه إلا من صديقات أمي وجدتي. كان لابد من قطع هذه المسافة التي تتجاوز السبعة كيلو مترات كي نصل إلى منطقة اسمها( الخِفي) تقع جنوب (الصنمين) وهي منطقة صخرية يكثر بها العكوب في سنين الغلال والخير ورغم شوكه يعتبر العكوب نبتة سامية لمذاقه اللذيذ وصعوبة جنيه وهو يحتاج لخبرة في الحفر حول الجذر وخلعه باتقان كي لايضيع نصفه في الأرض .كانت النسمات باردة وأنا أركض أمام أمي وكأنني أرنب صغير بين حقول القمح الذي ما زالت سيقانه غضة طرية لم تَطُلْ بعد حيث يمتد بساط أخضر جميل في أفق لاينتهي. كانت الجنّايات في الطريق يجنين عرق رشاد أو كزبرة بريّة من هنا أو عرق هندباء أو خبيز أو ( قرص عنّة) أو مُرّار من هنا فالشليف مقسم لجيوب يوضع في كل جيب نوع من المحصول .
لم أكن أشعر بالتعب أو الجوع فكنت أحس بفرح غامر تمتلئ رئتاي الغضتان بهواء نقي كم أتمنى أن تعودا بعد أن أتعبهما التبغ والسجائر . كنت أشعر باللذة عندما تعطيني قطعة خبز من الرغيفين اللذين جلبتهما وبها عرق كزبرة برية وكانت تقول أن الرشاد طعمه حاد لايناسب الأطفال. بعد يوم شاق تعبت به أمي كثيراً وانغرزت بيديها الكثير من الأشواك حتى استطاعت أن تجني ما يقارب العشرة كيلوغرامات من العكوب فالجنّاية النشيطة لاتستطيع أن تجني أكثر من هذه الكمية إلى جانب نباتات أخرى كانت غذاءً لكل فلاّحي الدنيا .في طريق العودة وقبل الصنمين بأربعة كيلومترات كان لابد أن نقطع النهر للضفة الأخرى كي نصبح قريبين من طريق الإسفلت علّنا نحظى بسيارة عابرة أو جرار ينقلنا للقرية. كانت أمي تحمل (جناها) على ظهرها و تقودني بيدها و أثناء عبورنا للنهر لا أدري كيف زلقت رجلي على الصخر فخلعت فردة حذائي و سقطت في الماء وجرفها تيار الماء القوي لم تنتبه أمي لبكائي إلا عندما قطعنا النهر فقد كانت تمسك يدي بقوة و عندما انتبهت قالت ما بك تبكي فقلت لقد سقطت فردة الحذاء وسحبها الماء ، جلست أمي في الأرض وأحسست أنها تريد البكاء مثلي لكنها استغفرت ربها وبحركة مفاجئة قامت ورمت بفردة الحذاء الثانية فازداد بكائي فقالت لقد رميتها علّ الذي يجد الأولى يجد الأخرى و يستفيد منهما و لاتبكِ فغداً سأقول لعمك أن يكتب مكتوبا ً لأبيك ليرسل لك واحداً غيره.
أصبحت حافياً وحارت أمي ماذا تفعل بعد أن لامتها صديقتاها لأنها أتت بي معها مما زاد من دموعي فخلعت حذاءها (حفّاية) البلاستيك و ألبستني إيّاه ومشت حافية. بالطبع لم يكن لديها جوارب ، وقادتني ومشت حافية لا تأبه لوعورة الطريق أو الأشواك كنت أمشي وأتعثر لأن الحذاء واسع فيفلت من قدميّ فقالت لاعليك هات الحذاء وقرفصت وقالت اصعد على الشليف وتمسك بأكتافي جيداً و حملتني على ظهرها فوق حملها ومشت، بعد سنين طويلة عندما درست الأدب الفرنسي كنت أقرأ كتاباً للشاعر الفرنسي (بول ڤاليري) يقول فيه:
(كنت أبدو أطول قامة من أبي ونحن نمشي في الحقول ، هذا لأنه كان يحملني على كتفيه)
تذكرت أمي بهذا الموقف .لقد كانت أمرأة ذات بنية قوية لم تكن تتجاوز حينها السادسة و العشرين وكان لديها أربعة أطفال وأنجبت بعدهم ستة. كان الوقت قد تجاوز العصر والسماء بدأت تحبك غيماً أسوداً من جهة الغرب وهذا يعني أنها ستمطر بعد رعد فمطر الربيع دائماً ما يكون غزير .أحسست بالنعاس وكان لدي رغبة بالنوم ولكن الدمع مازال في عيوني شعرت أمي بأنني سأنام و خافت أن أسقط فكانت تكلمني حتى أبقى صاحياً.لم نمشِ طويلاً حتى لاح من بعيد جرار قادم نحونا وقفت أمي وصديقاتها فكان الجرار لعم والدتي يحمل معه أيضاً بعض النسوة من القرية كذلك كن في (الجَنى). أسرع عمي محمد بجراره لأن السماء بدأت تنذر بالمطر. نزلنا أمام الدار بعد يوم كان فيه من الفرح الكثير لكنه تكلل بالحزن في نهايته.

خمسون عاماً مرّت وما زلت أذكر ذلك اليوم ، يوم فقدت حذائي الصغير في النهر .هناك أشياء رغم صغر قيمتها يبقى لها ذكرى تنحفر في تلافيف الذاكرة للأبد .
أتاح لي عملي في السلك الدبلوماسي لمدة طويلة أن أشتري أحذية من باريس وروما واسطنبول ومن ماركات شهيرة لكن حذاء طفولتي لايُنسى.
إحدى المرات الكثيرة اشتريت لأمي حذاء جميلا من الشاموا الأسود وقلت لها أتذكرين حذائي الذي سقط في النهر ،كانت تضحك وتقول ( أما تزال في ضلالك القديم)…

كتبت لها قصائد من بلدان العالم كتبت لها من صنعاء… .
عيناكِ ترقب عودة الأحباب في شغفٍ على كل الدروب
عيناكِ قافلتانِ من مطر الشتاء يكاد يورقُ في
محاجرها الغروبْ
عيناكِ يا أماه نافذتان للفرح الموّردِ في القلوبْ

كتبت لها من كندا من وراء الأطلسي على خليج هدسون.… ..

( يا ميمتي بيدچ مفاتيح السوالف
وأنتِ تدري چم قُمرْ عدّا على شراع السفينة
وإنت تدري چم نجم غرّب وغاب بهل بحر
يكتب سوالفنا الحزينة
وما بين حزنچ والدمع والنوح بدموعچ علينا
صار البحر والريح وسطور الدفاتر يرسمولي
الناس بعيونچ وأحس بيدچ حنونة.

صرت أشوفچ من ورا موج المحيط الغرّق بدمعو سفاين
صرت أشوفچ من ورا غيم السما الشايل دمع واسرار لزهور الجناين
من ورا الدنيا تطول ايدچ تغطيني إذا ريح الشتا عدّت
أحسچ تهمسي بإذني تغطّى ونام ياقليبي إذا ضَوّْ القمر
سافر وعتمة ليلنا اشتدتْ
لابد ياميمة الحبايب تنجمع
لابد ما نضوي شمع
لعيونچ الحلوة يَ عنبرْ
ياحلم يا ماي يافيض النبعْ..

منذ أربعة أعوام رحلت أمي غريبة مثلي ولم أرها ..غريبان أنا وهي وأخوتي لا أدري هل يأتي يوم أضع على قبرها باقةً من آس وأقرأ الفاتحة؟
عندما رحلت كتبت لها :

وتخونني اللّغة الكئيبةُ والحروف المتعبةْ
لا أدري هل أرثيك أم أرثي سنيني الهاربةْ
هذا أنا أبكي عليكِ وأنت لاتبكي علَيّْ
قد جاء دوري بالبكاءِ فقد بكيتِ طوال
أعوامٍ علَيْ
مهما بكيتُ فلن أجازي قطرةً يا مخزن الدمع السخيّْ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى