دين ودنيا

التشريع الإسلامي لحفظ جهاز المناعة الإنساني

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

تتالى التقريرات العلمية ، والكشوف الطبية في هذه المرحلة التي نعيشها ، وتؤكد أن وباء كورونا القاتل يصيب بالدرجة الأولى الرئتين وجهاز التنفس ، و يعرّض من عنده ضعف في جهاز المناعة إلى تعقيدات صحية كبرى ،كإخضاعه لجهاز التنفس الاصطناعي الذي تتراوح مدته بين الأسبوعين والثلاثة ، حيث ينقص 40 بالمائة من وزنه ، فضلا عن تعمد الأطباء إدخاله إلى الإنعاش المتعمّد ، حتى لا يشعر بآلام اتصال خراطيم الأكسجين بقصبته الرئوية ، عافانا الله واياكم ، وفي كثير من الأحوال إن لم نقل أكثرها يتوفى المريض ولا يتحمل ، والأعمار بيد الله عز وجل .

فهذا الوباء يهدد بالدرجة الأولى من عنده هشاشة وضعف في جهاز مناعته ( système immunitaire ) ، والناس في هذا طبعا متفاوتون وليسوا على درجة واحدة ،

كما قال الذي خلقهم ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

وقال أيضا ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) .
ومن خلال تتبعي للأخبار المتعلقة بهذا الوباء ، وانتشاره و نسبة الوفايات التي تسبب فيها ، لاحظت شيئا لعلي أسوقه لكم ، بعد أن حاك في صدري خواطره ، ألا وهو أن هذا الوباء رغم دخوله لبلاد العرب والمسلمين ، إلا أن أقل نسبة للوفايات في العالم هم من هذه الأمة المرحومة الميمونة ، فنَعم مات ويموت به مسلمون بلا شك ، لكن اذا قارنا بين نسبة الوفايات في الأمم الأخرى وهذه الأمة وجدنا الفرق شاسعا ، وهذا في ظني يعود إلى عدة عوامل منها :

1 – أن هذه الأمة مهما أصيبت فإنها مرحومة برحمة خاصة من الله عز وجل ، لقوله تعالى ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) وهذه الرحمة كما قال أهل العلم رحمة خاصة ليست لكل الناس ، فهو عز وجل رحمان بكل الخلق رحمة عامة ، لكنه جل شأنه رحيم بالمؤمنين .
ولذا سأل نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام ، (أن لا يهلك الله أمته بسنة عامة فأعطاه الله ذلك ) ويقاس على السَّنة والقحط كل المصائب ، والحديث في الصحيحين.
ولذا حتى ولو استوى المؤمنون والكافرون في القضاء الإلهي لكن المؤمنين لهم معاملة خاصة من ربهم ، تبارك وتعالى ، قال سبحانه ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )
وقال أيضا ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ) ؟؟
فالألم في حق المؤمنين أخف !! بلا شك .

2 – بالتتبع والاستقراء ، لنصوص الشرع ومقاصده ، و قواعده وأصوله ، ندرك أن الإسلام ولله الحمد ، دين الشمول والكمال ، فمن أعظم مقاصده كما هو معلوم ،، حفظ النفس ، وهذا المقصد لا يتوقف على تحريم القتل والانتحار ، أو الإلزام بالقصاص فحسب عند القتل العمد ، بل يتعدى الى أوسع من ذلك ، ليشمل أيضا عدة تشريعات أساسية ، منها الواجب ومنها المستحب ، ومنها المحرم ومنها المكروه ، ومنها المباح ،

أما الواجب ، فحفظ النفس هو في الواقع منظومة متكاملة ، تبدأ منذ خروج الانسان الى الدنيا ،

كإلزام الأمهات بارضاع الاولاد عند القدرة ، لقوله سبحانه ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ  ) ولا يخفى على عاقل منافع الرضاع للولد خاصة إذا تمت مدته أي سنتان ، وذلك على المستويين ، الجسمي والنفسي !!

و منها في المستهلكات ، كإلزام المسلم بأكل المذكى أي المذبوح من الحيوان ، الذي استفرغ دمه فقلّ بالتالي ضرره ، و تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، إلا ما ذُبح ، وهذا ليس من فراغ !!
وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ، الذي تحقق ضرره بما لا شك فيه ، إلا من مكابر ومعاند !!
ناهيكم عن بقية المحرمات ، كالخمر ، وسائر المسكرات ،
و كل أنواع الخبائث ، قال تعالى ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ )
مع العلم أن الاسلام لا يحرم شيئا إلا لثبوت ضرره على الانسان ، و هذه هي فلسفة الاسلام للمحرم ، فهي قائمة على هذا الأصل ، وليست كفلسفة التوراة التي جاء في التحريم للعقوبة والحجر والتضييق على بني إسرائيل ولو كان ذلك لبعض المباحات !!
كما قال تعالى ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ  ….)

وقال أيضا ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) ) .
ولذا لما بعث الله عيسى بن مريم عليه السلام ، خفف عنهم بعض ما كان حراما عليهم عقوبة ، كما في قوله تعالى ( وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) .

ومنها ، إلزام المسلم بالطهارة ، من الحدث والخبث ، ففي آداب قضاء الحاجة ( البول والغائط ) ووجوب الاستنجاء ، و وجوب غسل اليدين بعد ذلك ، فضلا عن الوضوء الذي يقوم به المسلم مرات كثيرة في اليوم والليلة ، و ألزامه بالغسل من الجنابة ، و من الحيض والنفاس اذا كانت امرأة ،
وغيرها من سائر الآداب ، ليتبين له بجلاء ووضوح أن ذلك من وسائل حفظ النفس ، لأن عوائدها ونتائجها صحية بالأساس مع مقصد التعبد لله عز وجل بها !!
وها نحن نرى العالم اليوم يتواصى بغسل اليدين تجنبا للعدوى ،بل منذ 2008 بل جعلوا يوم 15 من أكتوبر يوما عالميا لغسل اليدين !!!
وكأنه اكتشاف خارق !! في الوقت الذي سبقهم الاسلام إلى هذا الأدب بخمسة عشر قرنا !!
فغسل اليدين ، عندنا نحن المسلمين ، عبادة وثقافة ، و تربية ومروءة ، وقد علمنا الله ورسوله ، ذلك في شريعة سمحة غراء ، ضمنت للبشرية السعادة الدنيوية والاخروية لو كانوا يعلمون !!
إن غسل اليدين عندنا يبدأ منذ ان يفتح الانسان عينه من النوم لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( اذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء وليغسلهما ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) رواه مسلم ، بل إن الشافعي يرى بعموم هذا التشريع حتى من نوم النهار !!
وغسل اليدين مصاحب لكل وضوء ، و والتثليث في ذلك سنة مستحبة ، كما هو مطلوب قبل الأكل وبعده وفيه أحاديث ، ومطلوب بعد حمل الميت ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من غسّل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ ) وقال أيضا ( ليس ميتكم بنجس فإذا حمله أحدكم إنما يكفيه أن يغسل يديه ) .

كما أن الإسلام حث على القوة والتقوي بصفة عامة ، ففي الحديث ( المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ..)
كما نهى الاسلام عن الإسراف ، ومجاوزة الحد المعقول في الأكل والشرب تجنبا للسمنة ، لقوله تعالى موبخا الذين كفروا ، ومحذرا المؤمنين من هذا السلوك ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ  )
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم السمنة المتكلفة التي هي من مظاهر الخلل في الاستهلاك فقال في قوم ( ويظهر فيهم السمن ) .

اذن كل هذا وغيره من التشريعات الاسلامية ، الهدف منها حفظ النفوس ، والمحافظة على الصحة ، وتقوية جهاز المناعة عند الانسان .

ولا أقول هذا الكلام على إطلاقه ولا على عمومه ، بل فقط إشارة في معرض المقارنة بين نسبة الوفايات بهذا الوباء بين المسلمين وغيرهم ، كما ليس القصد والمراد الشماتة بأحد والله ، بل من باب ( ليزداد الذين آمنوا إيمانا ) وليتدارك الشاكّون والمرتابون ، في دين الله وشرعه وكتابه قبل أن يفجأهم الأجل ( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ… ) .

فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام ، و نسأله أن يحفظنا وأياكم بهذا الدين قائمين وقاعدين وراقدين إنه سميع قريب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى