بحوث ودراسات

الدَّولة العثمانيَّة: خلافة إسلاميَّة أم مُلكٌ عاضٌّ؟ 5 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

انحدار الدولة العثمانيَّة وأسباب سقوطها في رأي لويس

يعتقد لويس أنَّ الدولة العثمانيَّة بدأت في التراجع منذ وفاة السُّلطان سليمان القانوني، في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، مستشهدًا في ذلك بمذكِّرة قدَّمها كوتشي بك للسُّلطان مراد الرَّابع عام 1630 ميلاديًّا، يشير فيها الموظَّف الحكومي البارز فيها إلى أسباب الضعف التي أدَّت إلى تراجُع قوَّة الدولة، عنها أيام سليمان القانوني، برغم مرور أقل من قرن على وفاته. أمَّا عن أبرز أسباب الضعف، فكان تخلِّي السُّلطان عن موقع المراقَبَة المباشرة على شؤون العامَّة، ويضاف إلى ذلك المحاباة في اختيار كبار موظَّفي الدولة، بعد أن كان الكفاءة والحرص على نهضة البلاد مقياس الاختيار في السابق، ممَّا فتح المجال أمام تدخُّل الحريم والخصيان والطفيليِّين في الحُكم. صحيح أنَّ الفترة الباقية من تاريخ الدولة شهدت فترات نهوض وازدهار، لكنَّها سرعان ما كانت تأخذ في الانحدار من جديد، وكان لعدم مسؤوليَّة ولاة الأمور وتفضيلهم مصالحهم الشخصيَّة دوره في التراجع. ينقل لويس آراء سياسيِّين وكتَّاب تناولوا أحوال البلاد بالنقد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد، وعبَّروا عن أمانيهم بعودة العصر الذهبي للدولة، وكان سبيل تحقيق ذلك، في نظرهم، “استعادة الإيمان، وتطبيق الشريعة الإسلاميَّة من جديد، والعودة إلى العادات الخالصة القديمة لآل عثمان” (ص176). يسخر لويس من أنَّ السُّلطان سليم الثالث تلقَّى نصيحة بنفس هذا المضمون، لمَّا سأل مستشاريه عن سبيل إنقاذ الدولة عام 1792 ميلاديًّا، حيث يرى لويس أنَّ آخرين من رجال الدولة وجدوا “طريقًا جديدًا، طريق الإصلاح والتجديد، والذي عبر الأتراك من خلاله، في الوقت المناسب، من مرحلة الانهيار الأخير للدولة العثمانيَّة إلى مولد الجمهوريَّة التركيَّة” (ص176). 

“الهاجس العثماني” في صراع الغرب مع الإسلام

يتناول برنارد لويس في كتابه Islam and the West-الإسلام والغرب (1993)، علاقة الإسلام منذ ظهوره قبل ما يقرب من 1450 عامًا، بالعالم المسيحي، التي عادةً ما اتَّسمت بالتنافس، وأحيانًا بالعدائيَّة، وإن كان التعايش السلمي هو السمة الأساسيَّة لتلك العلاقة. يكمن الخلاف بين المسيحيَّة والإسلام في إنكار الإسلام لعقيدة الثالوث المقدَّس، والاعتقاد ببنوَّة يسوع، آخر نبيٍّ أرسله الربُّ لبني إسرائيل، للإله الخالق، إلى جانب إنكار المسيحيَّة لإرسال نبيٍّ بعد يسوع، إيمانًا بما ورد في نبوءات العهد القديم عن المخلِّص، ومن ذلك ما جاء عنه في سفر دانيال، من أنَّه يأتي “لختم الرؤيا والنبوة” (سفر دانيال: الإصحاح 9-آيَّة 24). لا تنفي نقاط الخلاف تلك وجود قواسم مشتركة بين الإسلام والمسيحيَّة، ورثتها الديانتان، على حدِّ قول لويس، من التراث اليهودي والهلنستي والشرق أوسطي المشترك. غير أنَّ ذلك لم يمنع التصادم بين أبناء الديانتين، الذين يعتقد كلُّ فريق منهم بأنَّ ديانته هي رسالة الله الأخيرة للبشر، ومهمَّته نشر تلك الرسالة لتحقيق الخلاص للعالم كلِّه. أسفر التصادم عن حروب مقدَّسة قادها كلُّ طرف ضدَّ الآخر، عُرفت بالجهاد في حالة المسلمين، وبالحروب الصليبيَّة من جانب المسيحيِّين. أدَّت تلك الحروب إلى فقدان كلِّ فريق أجزاء من أراضيها، ليعمل على استعادتها من جديد من خلال الإغارة على العدو، الذي بدوره يثأر لهزيمته. ولم يحسم الصراع بين الفريقين إلى اليوم.

ينقسم هذا المؤلَّف إلى ثلاثة أقسام، تندرج تحت كلِّ قسم منها عدَّة دراسات سبق نشرها منفردةً. يركِّز هذا القسم على دراسة في القسم الثاني من كتاب لويس، عنوانها “The Ottoman Obsession-الهاجس العثماني”، تتناول تصوُّر الأوروبيِّين للخطر العثماني المحدق في القرنين الخامس عشر والسادس عشر للميلاد، من تسلُّل الإسلام إلى قلب أوروبا، بادئًا بروما، مقرِّ الكنيسة الكاثوليكيَّة، بعد أن عصف العثمانيُّون ببيزنطة، حاضنة الأرثوذكسيَّة. يبدأ لويس دراسته بالإشارة إلى صدور مؤلَّف ضخم، من 6 آلاف صفحة، عام 1603 ميلاديًّا، تحت عنوان The Generall Historie of the Turkes-التاريخ العام للتُّرك، من تأليف القُس والمؤرِّخ البريطاني ريتشارد نولز، كان بمثابة إنذار للمجتمع الأوروبي من التقدُّم العثماني في الديار الأوروبيَّة، ودعوة إلى إيقاف الزَّحف العثماني إلى أوروبا. جمع نولز ممَّا قرأه باللاتينيَّة واليونانيَّة والفرنسيَّة والإيطاليَّة، وغيرها من اللغات الأوروبيَّة التي كان يتقنها، ما كُتب عن تاريخ الأتراك في الأناضول، واصفًا الخطر التركي على مستقبل أوروبا دينيًّا وسياسيًّا، في عبارة موجزة تقول “إمبراطوريَّة التُّرك المجيدة، الإرهاب الحالي للعالم“، نقلًا عن لويس (ص72). يشير لويس إلى أنَّ أوروبا لم تنظر إلى الإسلام باعتباره تهديدًا للعالم المسيحي من الناحية العقائديَّة، مفضَّلةً تصنيفه من الناحية العرقيَّة، لكنَّ التعامل مع المسلمين أثبت أنَّ التحدي الحقيقي يكمن في اشتراك الإسلام مع المسيحيَّة في السعي إلى نشر رسالة السماء في العالم؛ ومن ثمَّ فإنَّ الزَّحف الإسلامي تهديد صريح لمساعي سيطرة المسيحيَّة على العالم بأسره، تمهيدًا لاستقبال المخلِّص في قدومه آخر الزمان.

انقسم المرتدُّون عن المسيحيَّة لصالح الإسلام إلى نوعين، نوعٌ اعتنق الإسلام بعد سيطرة العثمانيِّين على أراضيه، ونوعٌ هاجر إلى دار الإسلام بحثًا عن الفرص. لم يشكِّل هذا النوعان من المسلمين الأوروبيِّين أيَّ خطر على مستقبل المسيحيَّة في أوروبا، كما رأى لويس، الذي يستشهد برأي مارتن لوثر، مؤسِّس البروتستانتيَّة، الذي اعتبر أنَّ “ضدَّ المسيح” هو بابا الفاتيكان والتُّرك معًا، حيث قال “الوحش المفعم بالحياة لا بدَّ أن يكون له جسد وروح؛ وروح ضدِّ المسيح هي البابا، وجسده من التُّرك”، نقلًا عن لويس (ص73). أثبت التُّرك قدرتهم على تهديد أوروبا، بوصولهم إلى حدود فيينا أكثر من مرَّة، وإن كان فشل حصارهم الثاني للمدينة، عام 1683 ميلاديًّا، بمثابة بداية التراجع الفعلي لقدرة الدولة العثمانيَّة على الاستحواذ على مزيد من أراضي أوروبا؛ على العكس، فما حدث هو خسارة تدريجيَّة لما حاز عليه العثمانيُّون خارج الأناضول. لم يكن التهديد التركي ديني وعسكري وفقط، إنَّما كان تجاريًّا أيضًا، بأن كانت الدولة العثمانيَّة مركزًا تجاريًّا رائجًا، كان الأوروبيُّون يتوافدون عليه للتبضُّع، وذلك قبل الطفرة التقنيَّة التي قلبت الموازين لصالح أوروبا، بأن بدأت شعوب العالم تتَّجه إليها لاقتناء ابتكاراتها الحديثة، وكان السلاح من أهم ابتكارات أوروبا التي تهافت عليها العثمانيُّون، دون مساعٍ حثيثة لتطوير أسلحة تغني عن الحاجة إلى الغرب.

تنوَّعت مصادر المعرفة بتاريخ الدولة العثمانيَّة، وامتدَّ تدوينها لقرون، ولعلَّ أهم مصدر لتلك المعرفة ما سرده العبيد المحرَّرون عن تجربتهم في أراضي الدولة، إلى جانب ما سجَّله الرحَّالة الأوروبيُّون من انطباعات عن زياراتهم، خاصَّة بعد القرن الخامس عشر، حينما أصبح السفر أسهل وأكثر أمانًا. بحلول القرن السادس عشر، بدأت تتكوَّن صورة عن الدولة العثمانيَّة، ممَّا ورد عن تجارب العبيد، واللاجئين، والحُجَّاج، والتجَّار، والدبلوماسيِّين في الدولة، هذا إلى جانب ما رواه الزوَّار، من أطبَّاء وفنَّانين. المثير للانتباه أنَّ الصورة النمطيَّة للتركي في الأعمال الدراميَّة الأوروبيَّة، لا سيَّما الإيطاليَّة، كانت لأبطال سمتهم الشرُّ والعنف، ولعلَّ من أشهر نماذج ذلك التصوير النمطي للتركي بالخطر الكامن، ما ورد في مسرحيَّة Othello-عطيل (1603م) على لسان البطل عن “تركي معمَّم خبيث” (الفصل 1، المشهد 3). ومع تنوُّع مصادر المعرفة بالدولة العثمانيَّة، تنوَّعت التصوُّرات عن دولة الإسلام، وإن اتَّفقت في الإعجاب بالمنجزات الحضاريَّة والتخوُّف من التمدُّد العثماني إلى قلب أوروبا.

لم تمنع الصورة النمطيَّة السلبيَّة للتُّرك بعض الأوروبيِّين المنصفين من نقل صورة مختلفة تمامًا، معترضين على تصوير التُّرك بوصفهم شياطين، وهمج، وعديمي الإيمان. ينقل لويس عن الرَّحَّالة الفرنسي جان ذيفنوت قوله عن التُّرك بأنَّهم “جديرون بالاحترام ويحترمون غيرهم، سواء كانوا تُركًا أو يهوديًا أو مسيحيِّين. ليس من عقيدة التُّرك إباحة خداع الآخر أو سرقته، ويتساوى في ذلك التركي والمسيحي” (ص80). عبَّر المفكِّر الأسكتلندي ديفيد هيوم، الذي ينتمي إلى عصر التنوير الأوروبي، في كتابه الشهير Essays, Moral, Political, and Literary-مقالات أخلاقيَّة وسياسيَّة وأدبيَّة (1758م)، عن رأي إيجابي عن التُّرك، الذين وصفهم بـ “الاستقامة والجاذبيَّة والبسالة”، نقلًا عن لويس (ص80). اعترف كُتَّاب أوروبيُّون منصفون كذلك بأنَّ المسلمين لم يفرضوا دينهم على المدن الأوروبيَّة التي دخلوها، ومن هؤلاء القُس والمؤرِّخ البريطاني توماس فولر، الذي اعترف في كتابه History of the Crusades-تاريخ الحروب الصليبيَّة (1639م)، بأنَّ المسيحيِّين تمتَّعوا بحريَّة المعتَقَد في ظلِّ المسلمين، طالما لم يهاجموا عقيدة الإسلام.

إلى جانب الأمانة، والرُّشد، والتسامح، اتَّصف التُّرك/المسلمون في كتابات بعض الغربيِّين بكرم الضيافة؛ أمَّا عن أهم الصفات السلبيَّة المنتشرة عنهم فهي السلطة التعسفيَّة والشهوة الجامحة. ويعترف لويس بأنَّ سلاطين الدولة العثمانيَّة لم يكونوا طغاة مستبدِّين، رغم أنَّ سُلطاتهم كانت تفوق سُلطات حُكَّام أوروبا؛ والسبب هو القيود التي كان تطبيق الشريعة الإسلاميَّة يفرضها على السَّلاطين. أمَّا عن مسألة الانغماس في الشهوات الجسديَّة، فكان من الصعب دحضها، مع اعتياد العثمانيِّين على تعدُّد الزوجات واتِّخاذ الجواري، وإن كانت هناك مبالغات في وصْف اتِّباع الشهوات في زمن السَّلاطين. أصبح التهافت على النساء سمةً أساسيَّةً يُعرف بها التُّرك/المسلمون في القرون الوسطى؛ لدرجة أنَّ ويليام شكسبير لمَّا أراد أن يبالغ في تصوير انغماس أحد أبطال مسرحيَّة King Lear-الملك لير (1606م)، في الشهوة “في مرافقة النساء، تجاوَز التُّرك” (الفصل 3، المشهد 4).

يختتم لويس مقاله بالإشارة إلى التنافس الشديد بين العالمين الإسلامي والمسيحي في القرن السادس عشر للميلاد، حيث يقول “لمَّا كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة لم تزل على قمَّة القوَّة، شاع، على الأقل بين السياسيِّين، أنَّ التهديد التركي فاق كلَّ الجوانب الأخرى. تواجهت حضارتان، وعقيدتان، وأسلوبان مختلفان للحياة، في تنافُس على قيادة العالم. بدا الأمر للبعض أنَّ القوَّة العثمانيَّة المركزيَّة والمنضبطة حتمًا ستتغلَّب على أوروبا المسيحيَّة الضعيفة والمقسَّمة والمزعزَعَة؛ ولكن كم كانوا خاطئين.” (ص84). ما حدث هو أنَّ قوَّة الدولة العثمانيَّة أخذت في الضعف، ولم يعد الإسلام يجتذب الغرب المسيحي، على حدِّ قول لويس، وقد أسهم صراع العثمانيِّين مع الفرس، والذي استمرَّ حتَّى القرن الثامن عشر، في تشتيت دولة الإسلام ومقرِّ الخلافة عن مواصلة جهود نشر الإسلام في العالم المسيحي، وفي استبدال صورة التركي القوي مصدر التهديد، بصورة الضعيف الذي لا يأمن على نفسه من التهديد، وكذلك في حدِّ ذاته “دعوة للهيمنة الأجنبيَّة” (ص84).

الدَّولة العثمانيَّة “خلافة أم سلطنة”؟

يطرح المستشار محمَّد سعيد العشماوي في مؤلَّفه الخلافة الإسلاميَّة (1990)، في طبعته الثانية (1992) سؤالًا في غاية الحساسيَّة عن هويَّة الدَّولة العثمانيَّة، إذا كانت خلافة أم سلطنة، وإن كانت رؤيته الشخصيَّة للحدث توضح عدم اقتناعه بأنَّ العثمانيِّين، بدءً من تاسع سلاطينهم، سليم الأوَّل، أسَّسوا دولة خلافة تحتكم إلى الشَّريعة. تقدَّم سليم الأوَّل إلى مصر عام 1517 ميلاديًّا، وهزم جيش المماليك حينها، وشنق سُلطانهم، طومان باي، واجترَّ الخليفة العبَّاسي الأخير، المتوكِّل، معه إلى الأناضول، ليجبره على التنازل عن الخلافة، فلبس شعار الخلافة في احتفال مهيب. يعتبر العشماوي سليم الأوَّل “شخصيَّة سوء بكلِّ معيار”، ملفتًا إلى أنَّه أجبر أباه، بايزيد الثاني، على التنازل له عن الحُكم، واقتنص منصب الخلافة، رغم أنَّ الخليفة العبَّاسي في مصر لم يكن سوى أداة في أيدي سلاطين المماليك (ص221). يعتقد العشماوي أنَّ الخلافة “لم تنتقل إلى الفاطميِّين انتقالًا شرعيًّا”، على اعتبار أنَّ الدَّولة قامت في ظلِّ وجود الخلافة العبَّاسيَّة، وتقاطع وجودهما لما يزيد على القرنين، كما أنَّ ما فعله سليم الأوَّل، من إجبار الخليفة العبَّاسي الأخير على التنازل عن منصبه، لا يُكسبه الشرعيَّة، وكذلك لم يُلقَّب سلاطين آل عثمان بالخلفاء، وفق رأيه القائل بأنَّ السلاطين استخدموا ورقة الخلافة لشحذ همم المسلمين واستمالة مشاعرهم الدِّينية وقت الأزمات، مثل الحملة الفرنسيَّة على مصر والشَّام (ص221).

ينفي العشماوي عن الدَّولة العثمانيَّة صفة الخلافة بالكليَّة، قائلًا “هي لم تركن إلى الخلافة إلَّا فرض سلطانها على رعاياها باسم الدِّين، وفي قهر خصومها في الداخل بدعوى الشَّريعة، وفي منع أيِّ معارَضة لها بالتلويح بسيف الإسلام” (ص222). يجتهد الباحث كذلك في إثبات أنَّ تطبيق أحكام الشَّريعة، بعد خلطها بالفقه “وهو من صُنع الإنسان”، لا يعتبر خلافةً، خاصَّة وأنَّ هذا المعيار لم يتوفَّر في الدَّولة العثمانيَّة، مضيفًا أنَّ هناك أمثلة كثيرة على عدم أنَّ تلك الدَّولة لم تعبأ بالشَّريعة، ويذكر منها أنَّ سليمان القانوني، ابن سليم الأوَّل، أسند القضاء في مصر إلى قاضي العسكر، مانعًا قضاة المذاهب الأربعة من ممارَسة مهام القضاء (ص222). يضيف العشماوي أنَّ القوانين كانت توضع زمن الدَّولة العثمانيَّة “تعبيرًا عن إرادة السُّلطان، وليس تعبيرًا عن إرادة الله، أو إرادة الأمَّة”، وبالتالي “كان القانون…يسقط بموت السُّلطان الذي أصدره” (ص223).

لم تفلح محاولات الإصلاح التي أطلقها سلاطين آل عثمان المتأخِّرون، وعلى رأسهم عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، في إنقاذ الدَّولة العثمانيَّة من الانهيار، خاصَّةً بعد الهزائم المتكرِّرة في الحروب أمام الجيوش الغربيَّة. ويجد العشماوي في سعي عبد الحميد الثاني إلى الحفاظ على كيان الخلافة محاولة “لتثبيت سُلطان الدَّولة ومنع أيِّ معارَضة لها”، وليس للإبقاء على الكيان الجامع لمسلمي العالم، تحديًا للغزو الاستعماري الصهيوني (ص228). وبما أنَّ التيَّار الشعوبي الذي وصل إلى هرم السُّلطة في تركيا عقب هزيمتها في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918)، رأى في الخلافة استبدادًا وتملُّصًا من المساءلة، كان القرار الأوَّل بفصلها عن السُّلطة، بعد إسقاط السَّلطنة، عام 1922 ميلاديًّا، ثمَّ بإلغائها بالكامل في 3 مارس من عام 1924 ميلاديًّا.

الأمير يردُّ على العشماوي: دور القوَّة الخفيَّة في تشويه الخلافة الإسلاميَّة

أعدَّ الدكتور بهاء الأمير-المتخصِّص في تاريخ الحركات السريَّة والعقائد الباطنيَّة-هذا مقاله “الخلافة والمُلك والدولة العثمانيَّة وبلاليص ستان” (2019م)، ردًّا على ما أثرتُه في الفصل المخصَّص لدور القبَّالة في إسقاط الدولة العثمانيَّة، في كتاب “لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ”: القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة (2019)، الذي تفضَّل الدكتور الأمير بتقديمه تقديمًا نقديًّا، من أنَّ الدولة العثمانيَّة لم تكن خلافةً؛ إذ قال النبيُّ (ﷺ)، كما جاء في سُنن أبي داود “خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ”؛ كما ورد عن الترمذي عن سَفِينَة-رضي الله عنه-أنَّ الرسول قال “الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ”. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ “امْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: امسِكْ خِلاَفَةَ عَلِيّ قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً” (رواه أحمد وحسَّنه الأرناؤوط). يبيِّن الأمير أنَّ مسألة طبيعة الحُكم بعد الخلافة الرَّاشدة، وإذا كانت خلافةً أم مُلكًا، تثير جدًلا، ربَّما لم يحسم لدى البعض، موضحًا أنَّ الفصل في طبيعة الحُكم يتوقَّف على معيارين: الأوَّل هو شكل الحُكم وطبيعة انتقال السُّلطة، والثاني هو الأسس التي يقوم عليها الحُكم، ويقصد بذلك الأسس الأخلاقيَّة والتشريعيَّة.

اتَّبعت الخلافة الرَّاشدة المنهاج النبوي في الحُكم، واستندت إلى أحكام الشَّريعة، واعتمدت على الشُّورى والبيعة في اختيار الحاكم. أمَّا ما تلا ذلك من أنظمة حاكمة، فقد حصرت الحُكم في أسرة بعينها، وآثرت المغانم الدُّنيويَّة، وتصارعت فيما بينها على الحُكم، وهذا ما ينفي عنها الالتزام بالمعيار الأوَّل، وهو شكل الخلافة، كما أوضح الأمير؛ بالتالي، “فهذه الدول ليست خلافة، وحُكَّامها ملوك من هذا الوجه وبهذا الميزان” (ص7). يستدلُّ الأمير في هذا الرأي بحديث النبيِّ، الوارد في مُسند الإمام أحمد، القائل ” تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ. ثم سكت”. إن لم تلتزم دول المُلك الوراثي بمعيار الشكل الذي أقرَّته الخلافة الرَّاشدة، من حيث الاعتماد على الشُّورى في اختيار الحاكم، فقد التزمت، كما يرى الأمير، بمعيار المضمون، بأن طبَّقت “الأفكار والمنظومة العقائديَّة والقيميَّة والأخلاقيَّة والتشريعيَّة” الموافقة لصحيح الإسلام، دون استناد إلى قوانين وضعيَّة (ص7).

أكملت الخلافة الرَّاشدة مساعي النبيِّ (ﷺ) لنشر رسالة الإسلام، ومواجهة التهديدات الشرقيَّة والغربيَّة؛ فواصلت مواجهة الدولة البيزنطيَّة، وأحكمت سيطرتها على الشَّام والعراق وجزيرة العرب. صحيح أنَّ الدولة الأمويَّة تخلَّت عن مبدأ الشُّورى في تعيين الحاكم، بل ووصل الصراع على الحُكم إلى حدِّ التآمر والقتل، لكنَّها لم تتخلَّ أبدًا عن الاحتكام إلى ما أنزل الله وقاله رسوله (ﷺ)، وشهد زمنها ازدهارًا كبيرًا في علوم القرآن الكريم والحديث الشَّريف، أثمرت عن ظهور المذاهب الفقهيَّة الكبرى في نهاية حُكم الأمويِّين. لا ينكر أحدٌ شيوع بعض الفتن زمن الدولة العبَّاسيَّة، مثل فتنة خلق القرآن، وغيرها من المسائل التي أثارت جدلًا واسعًا، ولقي بسببها أئمَّة الفقه الثلاثة الكبار، أبو حنيفة النُّعمان والشَّافعي وأحمد بن حنبل، أشدَّ ألوان التنكيل على يد حُكَّام بني العبَّاس، لكنَّ هذا لا يرجع في المقام الأوَّل إلى ضعف إيمان الحُكَّام أنفسهم أو فساد عقيدتهم، إنَّما إلى تسرُّب الأفكار الخبيثة، المستمدَّة من العقائد الباطنيَّة، إلى دولة الإسلام، بعد الاحتكاك المباشر بالفُرس، ممَّن أبطن بعضهم المجوسيَّة وأظهر الإسلام تقيَّةً، وبعد نشاط حركة ترجمة مؤلَّفات فلاسفة الإغريق. وبرغم ما تعرَّض له فقهاء الإسلام من بطش على يد بعض حُكام بني العبَّاس، فقد أنصفهم حُكَّام آخرون، وقضوا على الفتنة، والشاهد على ذلك إنصاف الخليفة المتوكِّل للإمام أحمد بن حنبل، بعد أن أنهى فتنة خلق القرآن، وكتم أفواه المعتزلة، بفضل تأثُّره بتعاليم الإمام الشَّافعي.

ويعدِّد الأمير أسباب اعتبار أنَّ التسمية الصحيحة للنظام الحاكم لدولة الإسلام، منذ وفاة النبيِّ (ﷺ) وحتَّى سقوط الدولة العثمانيَّة، الخلافة، وإن كان توارُث الحُكم هو شكل انتقال السُّلطة غالبيَّة تلك الفترة، الممتدَّة لما يزيد على 13 قرنًا. أمَّا السبب الأوَّل، فهو أنَّ لقب “خليفة” كان اللقب الرَّسمي لحُكام دولة الإسلام؛ والثاني هو أنَّ علماء المسلمين أجازوا تلك التسمية، برغم ما عُرف عن بعض الحُكَّام من انحراف نسبي عن الشريعة واتِّباع للهوى في الحُكم؛ وأمَّا السبب الثالث، فهو تمييز دولة الإسلام عن “الإمبراطوريَّات الماسونيَّة” التي أُسِّست على أنقاض دولة الخلافة، بلا أيِّ علاقة بـ “الإسلام والدولة النبويَّة والخلافة الرَّاشدة” (ص11).

أمَّا عن إذا ما كانت الدولة العثمانيَّة تمثِّل الخلافة الإسلاميَّة فعليًّا أم أنَّها تفتقر إلى الشرعيَّة، فيرى الأمير أنَّ التفرقة بين تركيا “الكماليَّة” والدولة العثمانيَّة واجب قبل تناوُل هذه المسألة؛ فتركيا هي جزء من الدولة العثمانيَّة، التي بسطت سُلطانها على ثلاث قارَّات، وكانت جامعة للمسلمين في أنحاء العالم تحت لواء الإسلام (ص13). مع الاعتراف بفضل النظام التركي القائم، تحت إدارة حزب العدالة والتنمية المنحاز إلى الإسلام، في إخراج مقر الخلافة الأخير من الدائرة الخبيثة للعلمانيَّة، ولكنَّ هذا “لا يغيِّر من هويَّة تركيا ومسارها، ولا يخرجها عن كونها دولة قوميَّة علمانيَّة” (ص13). ومن أسباب الزَّعم بأنَّ الدولة العثمانيَّة لا تتمتَّع بالشرعيَّة، والسبب هو الاستناد إلى حديث النبيِّ (ﷺ)، الوارد في مُسند الإمام أحمد، عن أنس بن مالك “الأئمَّةُ من قُريشٍ”؛ ويردُّ الأمير على ذلك بحديث آخر، في صحيح الإمام مُسلم، عن أمِّ الحصين، التي روت عن النبيِّ (ﷺ) قوله “إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع-حسبتها قالت أسود-يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا”. الأهم من ذلك أنَّ الحديث النبوي الشَّريف لا يقتصر على تلك العبارة، بل له بقيَّة، وهو يقول “الأئمةُ من قُريشٍ، إنَّ لي عليكم حقًّا، وإنَّ لهم عليكم حقًّا مثلَ ذلك، ما إن استُرحِموا رَحِموا، وإن عاهَدوا وفُّوا، وإن حكمُوا عدَلوا، فمن لم يفعلْ ذلك منهم فعليهِ لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمَعين“، ومن آيات الذِّكر الحكيم ما يفيد بأنَّ عدم الوفاء بعهد الله واتِّباع النهج الذي أمر به يؤدِّي إلى تحويل ثقة الله تعالى إلى آخرين، يوفون بالعهد ويطيعون الله ورسوله، وهذا يكشف عنه قوله تعالى “وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم” (سورة مُحمَّد: الآية 38). وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنَّ من أسباب سقوط دولة بني العبَّاس الركون إلى متاع الدنيا واتِّباع الهوى والخنوع في مواجهة الغزو المغولي، فلعلَّ في ذلك ما برَّر استبدالهم.

وآخر مسألة تسترعي الانتباه، في رأي الأمير، هي نزع الشرعيَّة عن الدولة العثمانيَّة وإنكار كونها خلافة، من خلال إثارة أقاويل، منها “أنَّ العرب أحقُّ بها من العثمانيِّين، أو أنَّ الدولة العثمانيَّة احتلالٌ تركيٌّ لبلاد العرب”، أو الاحتجاج بأحاديث وآثار تنفي عن فتح القسطنطينيَّة عام 1453 ميلاديًّا، على يد السُّلطان الشَّاب وقتها، محمَّد الثاني، والذي لُقِّب بـ “الفاتح” لاحقًا، أن يكون المقصود في حديث النبيِّ ، الذي رواه الحاكم والإمام أحمد بإسناد صحيح “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”. أمَّا عن سبب ذلك، فهو وقوف دولة آل عثمان عقبة في طريق تأسيس إمبراطوريَّات ماسونيَّة، تخدم أغراض الدولة الخفيَّة التي تحكم العالم من وراء الستار، وتهيِّئ العالم لاستقبال المخلِّص لحُكم العالم من هيكل بني إسرائيل في الأرض المقدَّسة. ويكفي موقف السُّلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م) من عرْض تيودور هرتزل، مؤسِّس الصهيونيَّة، بتسديد ديون الدولة مقابل التنازل عن الأرض المقدَّسة لتأسيس وطن قومي، وهو في حقيقة الأمر ديني، لليهود، بأن ردَّ السُّلطان برفض بيع ما لا يملك، وهو ديار الإسلام، وبأنَّ اليهود بإمكانهم الحصول على الأرض المقدَّسة بلا مقابل، إذا أسقطوا الخلافة. وذهبت جهود عبد الحميد الثاني لتأسيس جامعة للأقطار الإسلاميَّة سدى، وسقطت الخلافة بفعل مكائد اليهود وأعوانهم من الخائنين لدين الله تعالى، وإن كانوا لم يخونوا إلَّا أنفسهم.

يسرد الأمير أصل فكرة نزع الخلافة الإسلاميَّة عن دولة آل عثمان، مشيرًا إلى أنَّها نشأت في مصر، وعلى يد جمال الدِّين الأفغاني، “اليهوديّ الخفيّ وعميل البريطان”، الذي استقدمه السُّلطان عبد الحميد الثاني إلى مقرِّ الخلافة عام 1892 ميلاديًّا؛ بغية تقييده (ص21). تسرَّبت آراء الأفغاني، الأستاذ الأعظم لمحفل كوكب الشَّرق الماسوني في القاهرة، إلى تلميذه وعضو محفله، السُّوري عبد الرَّحمن الكواكبي، الذي عمل على نشر فكرة نزع صفة الخلافة عن الدولة العثمانيَّة من خلال خطبة له، مطالبًا بتعيين خليفة عربي قُرشي. وفي نهاية الحديث عن تلك المسألة، يقول الأمير “وتاريخ العرب خلال القرن العشرين، وكلُّ ما شهدته فيه من أحداث، وإلى هذه اللحظة، وما اندلع فيها من ثورات تدور وقائعها أمامك، هي جميعها توابع زلزال إسقاط الدولة العثمانيَّة الجامعة لبلاد الإسلام، دون أن تكون هناك قوَّة إسلاميَّة حقيقيَّة تحلُّ محلَّها…فملأته الإمبراطوريَّات الماسونيَّة ثمَّ سلَّمته لليهود” (ص26).

يتناول الأمير في كتابه اليهود والحركات السريَّة في الكشوف الجغرافيَّة وشركة الهند الشرقيَّة البريطانيَّة (2019م) مسألة الخلافة العثمانيَّة بمزيد من الإيضاح، معنونًا هذا القسم من الكتاب “آل عثمان حماة مياه المسلمين” (ص255). يستشهد الأمير بقول المفكِّر والمؤرِّخ الإسلامي عبد الرَّحمن بن خلدون، في كتابه الشهير المقدِّمة (جزء2)، فيما يتعلَّق بدولة الخلافة في الإسلام، واعتبارها “حمل الكافَّة على مقتضى النَّظر الشرعي في مصالحهم الأخرويَّة والدُّنيويَّة الرَّاجعة إليها، إذ أحوال الدُّنيا ترجع كلُّها عند الشَّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة…” نقلًا عن الأمير (ص257). يكرِّر الأمير ما سبق طرحه عن استبدال الله تعالى بني العبَّاس بالتُّرك، بعد أن انصرف القريشيُّون عن الدِّين بمشاغل الدُّنيا، وآثروا المُلك والتنعُّم على نشر كلمة الله. نفهم ممَّا سَبَق أنَّ صحَّة منظومة الخلافة تعتمد على مدى صلاح الدِّين، المرتبط بعمل الآخرة، بجعل عمَل الدُّنيا في خدمته، ممَّا يجعل الانشغال بما يتعارض بعمل الآخرة من شهوات الدُّنيا إيذان بنهاية الاصطفاء الإلهي لحمْل لواء الإسلام. اختار الله تعالى دولة آل عثمان “لتحفظ مسار عالم الإسلام، بتوحيد بلاده…ولولا ذلك…لكان هيكل بني إسرائيل أمامك قائمًا” (ص258).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى