مقالات

مهام المدرسة في بناء سورية جديدة

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

     اهتم المربون في السنوات الأخيرة اهتمامًا كبيرًا بمشكلة تكامل المدرسة مع الحياة الاجتماعية، باعتبار المدرسة جزءًا لا يتجزأ من النظام الاجتماعي السائد، فضلاً عن أنها تتأثر بما يسود المجتمع من تغيرات اجتماعية، وإنها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تتبع وتعكس النظام الاجتماعي الذي تعمل في فضاءه.

     وهذا يعني أن التربية لا تنفصل عن المجتمع والفلسفة التي يؤمن بها، بل لا بد أن تصبح التربية عاملًا فعّالًا في بناء النظام الاجتماعي، فالتعليم السوري الحالي لا ينفصل عن سياسات البعث في المجتمع، ولا التعليم الصيني ينفصل عن سياسات المجتمع الصيني الشيوعية، ولا التعليم الأمريكي ينفصل عما تذهب إليه الفلسفة البرجماتية، وبذلك ينتفي السؤال الثنائي الذي يقول: هل يجب على المدرسة أن تُسهم أو لا تُسهم في بناء المجتمع، فهذه الثنائية لا وجود لها في الواقع، إذ إن المدرسة تُسهم بالفعل في هذا البناء، ولكن المشكلة التي تتطلب الحل هي كيف تُسهم المدرسة في البناء الاجتماعي؟ 

     لعلنا إذا نظرنا إلى المجتمعات الجديدة نجد أن المدرسة أسهمت إسهامًا فعالًا في بنائها، فبناء تركيا الجديدة على يد أردوغان، أو ماليزيا على يد مهاتير محمد، أو سنغافورة على يد حليمة يعقوب لم يكن ليتم ويصل إلى نتائجه لو لم تكن المدرسة وسيلته الفعّالة. والتربية على هذا الأساس عليها أن تختار القوى العلمية والتكنولوجية والثقافية الجديدة، التي تحدث التغيير في النظام القديم، وتبحثها وتقدرها وتقوم بأعبائها ونتائجها، وأن تجعل من المدرسة الحليفة الأولى للوصول إلى هذه النتيجة. ومعنى هذا أن التربية عامل مهم من عوامل التغير الاجتماعي.

     مع ملحوظة أن المدرسة عندما تعكس التطور الاجتماعي في المجتمع، إنما تساعد عملية انتشار المخترعات الجديدة على أداء وظيفتها، فإذا كانت التغيرات التكنولوجية قد دخلت المجتمع الحديث، فإن انتشارها يحتاج إلى أن نعدّ للمصانع مثلًا العمال المهرة والمهندسين اللازمين للقيادة، ثم نعدّ الأسرة للتغيرات الاجتماعية المصاحبة والناتجة عنها. والتربية تقوم بهذه المهمة عن طريق المدرسة التي هي المؤسسة التربوية المقصودة.

     وقد أصبح من المعروف أنه لكي نُغير نظام المجتمع كله يجب أن نُغير التربية، وذلك ليكون تغييرًا حقيقيًا في النظام الاجتماعي والسياسي، ولذلك لا بد من انقلاب جذري في النظام التربوي السوري، وصياغة ملامح لفلسفة تربوية جديدة تؤمن بالتغيير وبمطالب مجتمع ما بعد الثورة، لأن صياغة المجتمع السوري الجديد لا تتم إلا بإعادة صياغة النظام التربوي وفلسفته وأهدافه، وليس المقصود بالتربية التعليم والتعلم فقط، بل رسم سياسة مؤسسات المجتمع وتحميلها مسؤوليات تنفيذها لبناء الإنسان السوري، وتنشئته تنشئة اجتماعية حضارية يُستبعد منها مفردات الاستبداد والتطرف والتعصب وتقديس الأشخاص.

     من هنا يجب أن يكون هدف التربية في المجتمع السوري بعد الثورة هو عملية تنشئة اجتماعية شاملة، فالتربية لا تستطيع أن تصنع المجتمع وتغيره، أو تُحدث فيه أثرًا بارزًا وسريعًا في بنيته، إلا إذا استطاعت أن تقهر العوامل الأخرى الكامنة في المجتمع التي تشدها إلى الخلف، وأن تكون على علم ودراية تامة بمشكلات المجتمع كلها.

    والمستقرئ لواقع المجتمع السوري اليوم يُدرك أن له مطالب عديدة تتصل بضرورة التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي يجب أن تعمل المدرسة على تحقيقها، لأن العملية التربوية لا تقتصر على نقل المعلومات والمعارف إلى التلميذ، مع أن ذلك جزءًا مهمًا منها، ولكن العملية التربوية مادتها فرد في مجتمع، بكل ما يتضمنه مفهوم الفرد ومفهوم المجتمع، وبكل أبعادهما. لذلك تفرض التغييرات الاجتماعية مطالبها على المدرسة السورية في أكثر من صورة، أذكر منها:  

| قد يكون التغير في النظام المدرسي، أو في السياسة التعليمية بصفة عامة لمقابلة حاجة اجتماعية، أو حلًا لمشكلة اجتماعية أحس بها القائمون على المجتمع، وشعروا بأن البرنامج المدرسي يستطيع أن يُسهم في حلها. مثال ذلك: حاجة المجتمع السوري لإعداد معلمين لتعليم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بعد أن عانى المجتمع السوري عقود طويلة من الاستبداد والدكتاتورية، فإذا استطاعت السياسة التعليمية أن تُحسن تقويم المطالب الاجتماعية للمجتمع السوري بعد الثورة عندها تصبح قادرة على تغيير البرامج التربوية بما يخدم مطالب المجتمع السوري الجديد.

| قد يكون التغير التربوي نتيجة الإحساس بأن هناك قيمًا في المجتمع يجب المحافظة عليها، وأن هناك قيمًا أخرى جديدة لم تتحقق بعد، وأن هناك قيمًا تعمل المدرسة على تحقيقها، وتتعارض في أسسها مع ما يهدف إلى تحقيقه المجتمع الجديد من قيم واتجاهات جديدة.
مثال ذلك: حاجة المجتمع السوري في هذه المرحلة الحاسمة إلى قيم الحرية والكرامة والديمقراطية التي يجب ترسيخها وتعزيزها في نفوس الأجيال وعقولهم، وبيان أن هناك قيمًا مثل العدالة الاجتماعية لم نستطع تحقيقها في سلوك الأفراد، فما زالت البيروقراطية مثلا مسيطرة على وزارات الحكومة ومصالحها المختلفة، وما زال النقد الذاتي بعيدًا عن مستوى التطبيق العملي، ولكي تستطيع المدرسة إدراك جوهر هذا التغيير ومداه يقع على عاتقها دراسة المجتمع في أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والإيديولوجية، وأثر العملية التربوية في هذه الأبعاد.

     وعلى هذا الأساس يجب أن يفهم القائمون على السياسة التعليمية المطالب الاجتماعية التي تفرض تحدياتها على المدرسة، وأن تتم مناقشتها وتقويمها كمدخل لعملية البناء الاجتماعي، ومن أجل أن يتحقق ذلك فهم بحاجة إلى علم بالمعارف التربوية السائدة، وبالمعارف الاجتماعية التربوية الجديدة التي لم تُنفذّ بعد في الميدان التربوي المهني في المدرسة، وكذلك معرفة ووعي بمشكلات المجتمع السوري، ولاسيما تلك التي تفرض تحدياتها على المدرسة، فضلاً عن معرفة القيم الأساسية في المجتمع وتقديرها، ولاسيما القيم الديمقراطية التي يحتاجها المجتمع العام ومجتمع المدرسة على حدً سواء.

     بالإضافة إلى إنشاء مراكز ودور للنشر الثقافي تهتم بثقافة الثورة، على أن يكون هدفها توعويًا وتنمويًا في آن واحد. توعويًا يتمثل في توعية المواطنين في كيفية المحافظة على هوياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتنمويًا من خلال الاستفادة من الثقافة في تنمية مهارات الفرد وصقلها بالمعارف اللازمة، لكي يكون قادرًا على فهم ثقافة مجتمعه، والتصدي لمحاولات عولمة الهُوية والحضارة والثقافة.

     مع التأكيد أن سر تقدم أي مجتمعٍ من المجتمعات هو الإيمان العميق بأهمية الثقافة، عبر فهم الطرائق والأساليب التربوية الناجحة التي تقودهم إلى المحافظة على هويتهم وعراقة مجتمعهم من التآكل والاندثار، وهذا لن يتم إلا بالتعاون المشترك بين جميع أفراد المجتمع الواحد، أفراداً وجماعات ودولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى