دين ودنيا

دلالة السنة النبوية والفطرة على تأثير الدعاء بإذن الله تعالى (14)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

1 ـ دلالة السنة النبوية على تأثير الدعاء:
وأمّا السنة الدالة على تأثير الدعاء، فأكثرُ من أن تحصرَ، فقد تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمران: الأول: فعله للدعاء، والثاني: حَثُّه وترغيبُه في الدعاء، ومن الأدلة ما يلي:
أ ـ حديث أنس بن مالك:
قال: بينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ يومَ الجمعةِ، إذ قامَ رجلٌ فقال: يا رسول الله هلك الكراعُ، وهلك الشاءُ، وفي رواية: وجاع العيال، وفي رواية أخرى: هلكتِ الأموالُ، وانقطعتِ السبُلُ، فادع الله أن يسقيَنا. فمد يديه ودعا، وفي رواية: وما نرى في السماء قزعةً، فوالذي نفسي بيدِه ما وضعها حتى ثار السحابُ أمثالَ الجبالِ، ثم لم ينزلْ عن منبرِه حتى رأيتُ المطرَ يتحادَرُ على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمُطرنا من الجمعةِ إلى الجمعة.
ثم جاء ذلك الرجل أو غيرُه في الجمعةِ المقبلةِ فقال: تهدّمتِ البيوتُ، وانقطعتِ السبلُ، فادع الله يمسِكُها، فرفع يديه فقال: «اللهمَّ حوالينا ولا علينا»، فما يشيرُ بيدهِ إلى ناحيةٍ من السحابِ إلاّ انفرجتْ.

ب ـ حديث النزول
وهو حديثٌ مشهورٌ متواترٌ، ومن طرقه، ما رواه أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا حتى يبقى ثلثُ الليلِ الأخيرِ فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيبَ له؟ ومَنْ يسألني فأُعطِيَه؟ ومَنْ يستغفِرني فأغفرَ له؟».
إنَّ المشاهدة لتأثير الدعاء لمن أكبر الأدلّة وأصدقِها برهاناً، وأقواها حجةً، فنحن رأينا وشاهدنا في أنفسنا ومن حولنا تأثيرَ الدعاء، فمن منا لا يقعُ في شدّةٍ وكربٍ وضيقٍ ثم يستغيثُ بربه، فلا يرى أثرَ ذلك؟ فنحن نشاهد في حياتنا وأيامنا القصيرة وقائع لنا ولغيرنا تحصلُ فيها إجابة الدعاء بعد يأسٍ وقنوطٍ من المخلوقات، وبعد انقطاعِ السبلِ والحِيَلِ، فهذا يكفي وحدَه للدلالة.
والحقُّ الذي لا مريـةَ فيه أنَّ الدعـاءَ سببٌ من الأسبـاب، وأنّ لـه تـأثيراً في جلب المنافع، ودفع المضار، كسائر الأسباب المقدّرة والمشروعة، وأنّـه لا منافـاةَ بين القدر والدعاء، فالدعاءُ من جملةِ ما سبقَ به القدر، وتضمّنه القدرُ السابق.
ولا شك أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي حرّك العبدَ إلى الدعاءِ، ويسّره له، وهو الذي قذف في قلبِ العبدِ الحركةَ إلى الدعاءِ، وألهمه التضرّعَ والابتهال والانطراحَ بين يديه، ووفّقه لذلك، وصرف عنه الموانع من استكبارٍ وكسلٍ وغيرِ ذلك، فهذا الخيرُ منه، ولولا الله لما دعا العبد.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنِّي لا أحملُ همَّ الإجابةِ، وإنَّما أحملُ همَّ الدعاء، ولكن إذا أُلهمتَ الدعاءَ فإنَّ الإجابةَ معه.
فإذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه دعاءه، والاستعانة به، وجعلَ استعانته ودعاءَه سبباً للخير الذي قضاه له.
2 ـ دلالةُ الفطرةِ على تأثير الدعاء بإذن الله:
قال تعالى:﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *﴾
[النمل: 62] فالآية صريحةُ الدلالةِ على أنّ دعاءَ المضطرِ هو السببُ في إجابة سؤاله، وكشف السوء عنه، وهذا من آيات الله العظيمةِ الدالّة على وحدانيته، وتفرّده بالربوبية والألوهية، ولهذا أعقبه بقوله:
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *﴾.
والإنسان من طبيعته إذا وقع في شدّةٍ وضُيّقَ عليه تحركت فطرته ومشاعره، واتّجه إلى الله، ونسيَ ما كان يدعو من قبلُ، وهنا يوقِنُ أنّه لا منقذَ إلا الله، وتنكشف عنه الحجب، ويزول الرين، وتذهب الغشاوة، وينطرح بين يدي الله منكسراً متواضعاً مبتهلاً متضرعاً باكياً، ويجأر إلى اللهِ كاشفِ السوءِ، مجيبِ المضطرين، غياثِ المغيثين، منقذِ الهالكين، وجابرِ المنكسرين، ومنقذِ الغرقى، وسامعِ النجوى، فكم من ملحدٍ نزلت به ضائقةٌ آبَ إلى الله، وكم من شاردٍ فاسقٍ وقع في مأزق تاب إلى الله، ورجع إلى طاعته، فالفطرةُ خيرُ شاهدٍ، وأقوى دليلٍ، وأنصعُ برهانٍ، وأوضحُ حجةٍ، لأنّها لا تحتاجُ إلى تركيب مقدمة، وإقامة أدلة جدلية، واستنتاجِ، ودليلها لا يمكن مقاومتُه، ولا دفعه بالشبهاتِ والوساوسِ، ألا ترى الإنسان إذا ما وقع في معصيةٍ يتّجه مباشرةً إلى السماء، ويرفع يديه قائلاً: (يا ربِّ يا ربِّ) وهذه الحالةُ تهجم عليه، وتسيطر على تفكيره وشعوره، وتجعله يشعر أنّه لا منقذَ ولا منجيَ ولا مغيثَ إلا الله سبحانه وتعالى، فلو لم تدل الفطرةُ على تأثير الدعاء لما اتّجهت إلى الدعاء، ولكانت تلجأُ إلى وسائلَ أخرى للاستغاثة والاستعانة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى طبيعةَ الإنسانِ هذه في عِدّة آيات منها: قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾[يونس: 12]، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الزمر: 8]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ*﴾[فصلت: 51]، وقوله تعالى:﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *﴾[النحل: 53]وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *﴾[يونس: 22]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا *﴾[الإسراء: 67]، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ *﴾[لقمان: 32].
فالإنسان في مثل هذه الشدائد ينسى تلك الأشياء التي كان يتعلّق بها، ويرجع إلى ربه، فتحصل له معرفةٌ قويةٌ من أقوى ما تكون المعارف، فإنّ المعارفَ التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبتُ وأرسخُ من المعارف التي ينتجها مجرّدُ مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال.
المصادر والمراجع:
– علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(70:67)
– جيلان العروسي، الدعاء ومنزلته من العقيدة ،(1/366).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى