مقالات

المسؤولية والالتزام

مطيع السهو

سياسي وكاتب
عرض مقالات الكاتب

هناك موضوعان يشملان مجالات واسعة من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية والعلمية والتربوية والأخلاقية وغيرها من الجوانب الحيوية الأخرى ،وهما المسؤولية والالتزام، ويقتضي وضع دراسات وبحوث من قبل العلماء والمختصين للنهوض بمستوى ونوعية المسؤولية ودرجات الالتزام للإيفاء بمتطلباتها بدءًا من حدودها الدنيا والفردية، وصولاً إلى حدودها العليا والعامة.
وإزاء اتساع آفاق النظرة للمسؤولية والالتزام فإننا وضمن مجال اهتمامنا سنحاول التركيز في هذه العجالة على الجانب السياسي وتحديداً في مجال العمل الحزبي والتنظيمي للأحزاب ذات التوجه الوطني والقومي ممن كان لها شأن في حركة التحرر والنهوض العربي على الصعيد الشعبي عبر عقود عديدة وما رافق مساراتها من نجاحات في فترات معينة، وإخفاقات مريرة شابت عملها في فترات أخرى ،وهي تواجه تعقيدات الوضع العربي والدولي وهي بلا شك ظروف موضوعية تقابلها ظروف ذاتية أشد صعوبة تتعلق أساساً بتركيبة تلك الأحزاب والحركات والعلاقات الداخلية السائدة في صفوفها والمتحكمة في مفاصلها التنظيمية ومدى التصاقها مع روحية العمل الجماعي واحترامها لرأي الأكثرية ومشاعرها التي تدعي الالتزام بها .
إن في مقدمة العوامل الذاتية الضاغطة باتجاهات سلبية تعيق نهوض تلك الحركات والأحزاب لتوسيع قاعدتها الشعبية وقيامها في أداء مهماتها المأمولة، تتمثل في عدم وضوح طبيعة المسؤولية في صلتها بالفكر ،وفي تجسيداتها العملية ولاسيما أن المسؤولية أمانة يتفاوت مدى الوفاء بمتطلباتها تبعا لعمق الإيمان بالأهداف والمبادئ للحزب أو الحركة النضالية، والأمانة في تحمل المسؤولية تعني على المستوى النظري البحث بأعلى درجات الإخلاص، كما تعني الصدق التام بعيداً عن المواربة، فضلاً عن التجرد من المصالح الشخصية والفئوية، والتخلي كلياً عن الرغبات في تحقيق مكاسب ومغانم مادية تتعارض مع التوجهات النضالية أو على حساب المصالح العامة، وقد اقتضت الجهود الحثيثة لتطوير مسارات عمل الأحزاب والحركات النضالية إضافة شروط أخرى مهمة لمعنى المسؤولية كالشفافية والانفتاح على الرأي الأخر وقبول النقد والاعتراف بالأخطاء ورفض الذرائع والتبريرات التي تساق للتقاعس عن إتباع المعالجات الناجعة للتخلص من تلك الأخطاء وتفادي تكرارها، وأرقى ما ثبتته تلك الأحزاب والحركات بصدد المسؤولية كونها تكليفاً وليست تشريفاً، وهذا المفهوم يعكس عمق المعنى الأخلاقي للمسؤولية.
وعلى صعيد الواقع العملي غالباً ما نرى فهماً خاطئاً ومشوشاً للمسؤولية اعتقاداً من بعض ممن تناط بهم المسؤولية وبخاصة في المفاصل القيادية المتقدمة ،أن المسؤولية جاءتهم نتيجة استحقاق لما يمتلكونه من قدرات وإمكانات فكرية فذة، أو مواصفات شخصية متميزة؛ ومن ثم هذا يدفعهم إلى الاستبداد والتعالي وهذا دون شك اعتقاد خاطئ يقودهم إلى الفردية والتفرد، والحط من إمكانات الآخرين وبخاصة من كانوا مقربين منهم ،ويمتلكون الإمكانات والمواصفات نفسها وساعدوهم في تبوأ المواقع المتقدمة في المسؤولية ،حيث دفعتهم هذه الأفكار الخاطئة إلى الانحراف وإتباع أساليب شتى للحفاظ على مواقعهم بحيث تفضي في النهاية إلى ضعف التنظيم، وشيوع ظواهر سلبية خطيرة كالشللية والمحسوبية والتملق ومحاباة المسؤولين والتستر على أخطائهم وغياب الصدق وانعدام الصراحة وغيرها من الظواهر المرضية الأخرى التي قد تؤدي في مجملها إلى بروز أجنحة وتكتلات ربما تسفر عن انشقاقات وانقسامات في هيئة أحزاب وحركات جديدة وتعدد لا معقول بوجهات النظر مما يؤدي إلى تفتيت الساحة النضالية الشعبية .
إن مفهوم المسؤولية يتطابق في جوانب كثيرة منه مع مفهوم الالتزام كونهما مفهومين متلازمين فإدراك المسؤولية يبقى معلقاً في الهواء أو مجرد شعور أو إحساس ما لم يرافقه التزام حقيقي يتجسد في أقوال وأفعال تنم عن مواقف في سياقات الممارسة والتطبيق تتصل بالإيمان بالأهداف والمبادئ، والسعي الجاد لتحقيقها على أرض الواقع، كما أن افتراق المسؤولية عن الالتزام يفضي إلى تهميش كل منهما فلا تجد المسؤولية صيغة معبرة عنها في غياب الالتزام ويفقد الالتزام وجهاته إذا فقدت المسؤولية التي يرتكز عليها، والأسوأ هي حالة تناقض المسؤولية مع الالتزام فلا يعود الالتزام سوى فعل مدمر للمسؤولية بكل أبعادها ومضامينها المبدئية، ولا ريب إن الماّسي والكوارث التي ألمت بأمتنا العربية وتراجع المد القومي في أعقاب الخامس من حزيران عام 1967 قد وضعت الأحزاب والحركات ذات النهج القومي والتقدمي على المحك أمام خيارات صعبة في مرحلة حاسمة من التاريخ، وألزمتها بمراجعة شاملة لأفكارها وتوجهاتها وصيغ عملها وهياكلها التنظيمية ،والعلاقات الداخلية السائدة في تنظيماتها ومفاصلها القيادية ومع ذلك لم تسفر تلك المراجعات إلى تحقيق شيء من التقدم في تعميق الفهم لطبيعة المسؤولية وتأكيد ارتباطها الوثيق بالالتزام.
وبناء على ما تقدم ،فلا شك أن الوصول إلى فهم متقدم للمسؤولية وصيغ التعبير عنها بأفعال واعية ومواقف واضحة ضمن مفهوم الالتزام النابع من الإيمان العميق بالأهداف والمبادئ من شأنه الارتقاء بمستوى أداء الأحزاب والحركات الوطنية والقومية، وينقلها إلى مرحلة جديدة في الفعل التاريخي الصائب لصالح جماهير الأمة وطموحها صوب تحقيق أهدافها في التحرر والتقدم، فكلما كانت الأمة قادرة على أن تستأنف دورها في مسارات التطور الإنساني في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، فهي بذلك تدل على وعي جميع أطياف شعبها بمسؤولياتهم كما تدل على أنهم يعملون من منطلق التزامهم بهذه المسؤوليات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى