مقالات

متى ستعود الحياة الى طبيعتها؟ (قراءة في مستقبل كورونا )

د. معاوية أنور العليوي

طبيب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

أدى انتشار فيروس SARS-CoV-2 إلى توقف الحياة في دول العالم وبقاء الناس في منازلهم وإيقاف جميع الأنشطة والتجمعات تطبيقًا للعزل والتباعد الاجتماعي للحد من انتشاره، فتم فصل الناس عن بعضهم، وعن أماكن عملهم، وأصدقائهم وأهلهم، وحتى عن دور عبادتهم بمشهد مهول لذا من الطبيعي أن يتساءل كل هؤلاء: متى ستعود الأشياء إلى طبيعتها؟
الجواب بسيط، إن لم يكن مرضيًا تمامًا: عندما يكون عدد كافٍ من السكان – ربما ٧٠٪؜ من الناس – مقاومًا لمرض COVID-19 لمنع انتشار الفيروس من شخص لآخر عندها ستعود الحياة الى طبيعتها نوعًا ما، ولكن للأسف لا أحد يعرف بالضبط كم سيستغرق الوصول إلى هذه النقطة، فهناك مساران واقعيان لتحقيق المناعة على مستوى السكان، الأول هو تطوير اللقاح، والثاني هو أن المرض يشق طريقه بين السكان، مما يؤدي بالتأكيد إلى قتل الكثيرين، ولكن أيضًا ترك العديد من الناس – أولئك الذين يصابون بالمرض ثم يتعافون – محصنين على الرغم من أننا لا نعرف حتى الآن بشكل قاطع ما إذا كان التعافي من المرض يمنح أي مناعة على الإطلاق، وان كان صحيحًا ماهي مدة هذه المناعة ولكن الأقرب هي أن تمنح للإصابة به مناعة مؤقتة لفترة تترواح بين ١-٣ سنوات.
لسوء الحظ، ووفقًا للمعطيات الحالية يستغرق حدوث أحد هذين المسارين مدة تتراوح بين ٧-١٢ شهر ًاعلى أقل تقدير، ولكن من المرجح أن يتم استعادة درجات من الحياة الطبيعية في هذه الأثناء بشرط ان يتم أولا: الحد من انتشار الفيروس ( تسطيح المنحنى ) ثم الوصول إلى عدد ( صفر ) من الحالات المكتشفة يوميًا، والأهم أن يصبح لدى السلطات الصحية نظرة شاملة عن المصابين، والذين تعافوا وأصبحوا محصنين، والذين لا يزالون عرضة للإصابة وهذه المعلومات ستنشأ من الاختبارات واسعة النطاق التي تكشف المصابين حديثًا ( تتحقق من وجود الفيروس نفسه ) والاختبارات التي تكشف المصابين من فترة ( تتحقق من وجود اجسام مضادة للفيروس )، والتي لا تزال أغلب دول العالم عاجزة بشكل رهيب عن القيام بها أما قبل ذلك فسيكون إنهاء التباعد الاجتماعي قبل الأوان والعودة إلى الحياة الطبيعية بمثابة خطأ فادح له عواقب إنسانية كبيرة أهمها اغراق مستشفيات البلاد بحمل كارثي من المرضى سيؤدي بكل تأكيد الى المزيد من الوفيات لذا مما تتقدم وطبقًا للإحصائيات الحالية ورغم نجاح الكثير من الدول في التقليل من سرعة انتشار الفيروس الا اننا لا نزال ضمن المرحلة الأولى في حربنا ضد هذا الفيروس فحتى هذه اللحظة لم يتم تسطيح المنحنى في دول العالم – بعض المناطق أو المحافظات في الكثير من دول العالم قد استطاعت من تسطيح المنحنى بالفعل وخلال فترة قصيرة – والذي قد يستغرق مدة لا تقل عن ٢-٤ أسابيع على أقل تقدير ( ١-٣ شهور في أغلب دول العالم ) لندخل بعدها في المرحلة الثانية وهي مرحلة الوصول الى العدد ( صفر ) من الحالات ويتطلب نجاح هذه المرحلة أمرين رئيسين الأول: استمرار العزل والتباعد الاجتماعي سواء الجزئي في بعض المناطق والكامل في المناطق الأخرى والثاني: التوسع بإجراء الاختبارات التشخيصية مع الاستمرار في تقسيم المجتمع الى خمس مجموعات يتم التعامل معها وفقًا لذلك، وكما يلي:
١- الحالات مؤكدة الإصابة
أي الأشخاص الذين يعانون من علامات وأعراض تتوافق مع المرض مؤكدة بايجابية الاختبار، ويتم إدخال المصابين بأعراض حادة أو المعرضين لخطر كبير ككبار السن والمصابين بأمراض مزمنة إلى المستشفى لتلقي العلاج مع إنشاء مستشفيات مؤقتة عن طريق استخدام مراكز مؤتمرات فارغة أو الملاعب أو الصالات، على سبيل المثال ، لرعاية أولئك الذين يعانون من أمراض خفيفة أو معتدلة وذات مخاطر منخفضة.
٢- الحالات المشتبهة
أي الأشخاص الذين يعانون من علامات وأعراض تتوافق مع المرض ،ولكن نتائج الاختبارات سلبية في البداية وهؤلاء هم الفئة الأكثر خطورة لنقل العدوى في المجتمع ،لذا يجب عزلهم لمدة ١٤ يومًا وإعادة الاختبار بشكل يومي حتى يتم التأكد من عدم اصابتهم بالمرض.
٣- المخالطين
الأشخاص المؤكدة إصابتهم، وهولاء يتم عزلهم في فنادق تم تحويلها إلى مراكز للحجر الصحي لمدة ١٤ يومًا.
٤- غير المخالطين وغير المصابين
وهم الذين لا تتوافر عنهم معلومات لا بالتعرض ولا بالإصابة، وهولاء يتم عزلهم في منازلهم بشكل ( جزئي أو كامل ) حتى يتم السيطرة بشكل كامل على المجموعات الثلاثة أعلاه.
٥- المتعافين
وهم أولئك الذين كانوا مصابين سابقًا، وتعافوا، وأصبحوا محصنين بشكل كاف ( يتم إثبات ذلك عن طريق تطوير اختبار الأجسام المضادة )، وهؤلاء سيعطى لهم بطاقة تسمح لهم بحرية الحركة ويتم الاستفادة منهم في قطاع العمل بعد ذلك.
مع نجاح هذه الإجراءات وهذا هو المتوقع فان الوصول الى العدد ( صفر ) من الحالات المكتشفة يوميا سيستغرق من ١-٣ شهور على أقل تقدير، وبعدها قد يعود جزء كبير من الناس ( باستثناء كبار السن والمصابين بالأمراض المزمنة في البداية ) إلى شيء يشبه الحياة الطبيعية ولكن بشكل تدريجي مع الالتزام بالكثير من التعليمات والإجراءات للوقاية من العدوى بالتوافق مع تفعيل آليات المراقبة الحكومية ،وتحت هذه الشروط يمكن أن يتم إعادة فتح المطاعم ( مسافات متباعدة الجلوس مع عدد محدد من الزبائن ) والأسواق والشواطئ والمجمعات التجارية والشركات الصغيرة ( عدد معين من الزبائن المسموح لهم الدخول مرة واحدة وعدد معين من الموظفين ) أما الأحداث الكبيرة كالمهرجانات

الموسيقية والمسارح والحفلات والبرامج التلفزيونية والمباريات الرياضية، فستظل مؤجلة أو تقام بدون جمهور، والشيء نفسه بالنسبة للمدارس والجامعات وأغلب الوظائف الحكومية والخاصة التي سيستمر فيها التعليم والعمل عن بعد، وبالنسبة للسفر فمن الممكن أن تقل القيود المفروضة على السفر ولكن تبدو مثل هذه الخطوة محفوفة بمخاطر جمة يجب دراستها بشكل جيد قبل القيام بها، وقد يسأل سائل لماذا يجب أن نصل الى العدد ( صفر ) من الحالات؟ الجواب بكل بساطة بدون وجود مناعة ضد الفيروس سواء طبيعية ( الإصابة السابقة) أو صناعية ( اللقاح ) فان انتقال الفيروس من شخص الى اخر سيظل احتمالا قائمًا ما دام ان هناك شخص مصاب بمرض COVID-19 في الخارج ولا يزال يتواصل مع الآخرين مما قد يؤدي الى تفشي الفيروس من جديد ( ارتفاع المنحني ) بعد السيطرة عليه، وهنا يجب أن نشير إلى أمر في غاية الأهمية حول الطريقة التي سيطرت بها الصين على انتشار الفيروس، وهي هل أن الصين اعتمدت على الحجر الاجتماعي بمفرده بتسطيح المنحنى أم أن الفيروس قد انتشر بين الناس لدرجة انه أصاب ٦٠-٧٠٪؜ من السكان أثناء بقائهم في الحجر المنزلي، مما ساهم في حصولهم على مناعة طبيعية ضده؟ وبالتالي أعلنت الصين عن تخفيف القيود على الناس والسماح له بالخروج من عزلهم والإبقاء على اغلب تدابير الوقاية والمراقبة الحكومية، والحقيقة هذا الأمر لا يمكن إثباته إلا عن طريق تطوير اختبار الأجسام المضادة وإعلان الصين نتائجها بكل شفافية!!!! لذا اعتقد أن أهم خطوة على جميع الدول القيام بها خلال المرحلة الأولى والثانية هي اجراء الاختبارات بنوعيها للكشف عن الحالات المصابة والممنعة والاستمرار بها بعد ذلك وعلى نطاق واسع وبكل تأكيد أنه خلال هذه الفترة ستزداد معرفتنا أكثر بسلوكيات وخواص هذا الفيروس التي تجعلنا أكثر ثقة بشأن قدرتنا على استئناف الأنشطة المختلفة بشكل أكبر ، وربما حدد الباحثون علاجًا لـ COVID-19 يمكن أن يخفف الأعراض بشكل سريع وموثوق ويمنع الوفيات صحيح انه لن يقضي على الفيروس ولكن سيقلل الحاجة المستمرة للعزل الاجتماعي ويقلل أيضًا من خطر زيادة عبء المستشفيات في البلاد في حالة ظهور تفشي من جديد والذي سيظل احتمالا قائمُا.
بحلول فصل الصيف ستكون الصورة قد اتضحت اكثر حول موسمية الفيروس وفيما إذا كان لا يتأثر بارتفاع درجات الحرارة ( احتمال قليل ) أم يتأثر سواء بالقضاء عليه بشكل كامل (أمر ممكن) أو بتقليل فوعته (على الأغلب) وهنا سنكون أمام ثلاثة مسارات متشابهة الإجراءات خلال المرحلة الثالثة ( مرحلة الصيف ) بشرط نجاح تطبيق إجراءات المرحلتين المذكورتين أعلاه فالمسار الأول احتماله قليل، وهو ألا يتاثر الفيروس نهائيًا بارتفاع درجات الحرارة، أما الثاني، فهو ممكن الحدوث، وهو أن تحرقه أشعة الشمس كما حدث مع الفيروس المسبب لوباء السارس الذي بدأ ينتشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام ٢٠٠٢ واستمر حتى شهر تموز/يوليو عام ٢٠٠٣ بينما المسار الثالث الأكثر احتمالًا وهو أن تقل فوعته كثيرًا في فصل الصيف مع بقاء احتمال انتقاله من شخص إلى اخر أمرًا وارداً، وفي كل الأحوال ستبقى التدابير المطبقة في المرحلة الثانية قيد التنفيذ مع احتمال انفراجها اكثر ويعتمد هذا بالدرجة الأولى على عدم حدوث موجة جديدة من الانتشار ( على احتمال أن المسار الثاني لم يحدث ) تحطم الاستجابة نهائيًا وتعيدنا إلى التباعد الاجتماعي داخل المنازل من جديد أما غير ذلك فان الصيف سيكو ن أكثر انفراجًا من الربيع، على الأقل في نصف الكرة الشمالي من الأرض كما أنه سيمنحنا وقتًا جيدًا لإنتاج المزيد من أجهزة التنفس الصناعي، وإنشاء المستشفيات الميدانية، ومعدات الحماية التي يرتديها العاملون في مجال الرعاية الصحية لمنع العدوى مع التوسع أكثر وأكثر في إجراء اختبارات الأضداد التي تكشف المصابين السابقين والحاصلين على مناعة مؤقتة والذين سيصبحون رجال ونساء المرحلة القادمة، ويبقى الجانب السلبي الأكبر لهذا الصيف هو التوجس والانتظار لقدوم فصل الخريف وعودة انتشار الفيروس من جديد مما يعيد الحاجة إلى العزل والتباعد الاجتماعي، والذي قد يكون على قدم المساواة مع ما يحدث الآن أو بدرجة أقل فبحلول ذلك الوقت سيكون العديد من الأشخاص قد طوروا مناعة ضده، ويمكنهم نظريًا الخروج دون المخاطرة بالعدوى وسنعرف المزيد عن الفيروس أيضًا والأهم قد اصبح النظام الصحي مستعدًا بشكل جيد لمواجهة الأوبئة ،مع طاقة استيعابية أكبر للمستشفيات تمنع حدوث ظاهرة الإغراق بالمرضى، مما يجعلنا نتعامل معه كفيروس تنفسي موسمي مستوطن، مثله مثل فيروس الإنفلونزا والفيروسات التنفسية الأخرى على احتمال عدم اكتشاف لقاح ناجع ضده والذي يعتبر أمرًا بعيد المنال قبل ربيع عام ٢٠٢١ على أقل تقدير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى