بحوث ودراسات

العقل الفقهيّ بين نزعتي الحروفيّة والمقاصديّة

يوسف الحمود

كاتب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

إنّ سجاليّة العقل الفقهيّ وتمظهراته المعرفيّة هي سجاليّة قديمة قدم الفقه والواقع الدّينيّ والعقليّ للإنسان، وقد أثارت تداعيات فايروس كورونا وإغلاق المساجد والمعابد جلبةً وضجيجاً حادّاً بين الدّعاة والمفكّرين الإسلاميّين، بين مجوّزٍ ومانع، وقابلٍ ورافضٍ، وبين مؤولٍ ذلك بأنّه إجراء سلطويّ لإغلاق المساجد والتّضييق على الإسلاميّن كما ذهب إليه الدكتور حاكم المطيريّ، وأكثر رموز السّلفيّة الجزائريّة وآخرون كثيرون في الحقل الإسلاميّ، بينما  ذهب بعضهم إلى القول بالحرمة والمنع كالعلاّمة الدّدو دون التّعرّض للبُعد السّياسيّ، واتّجه الرّيسونيّ وأكثر المقاصديّين المعاصرين إلى جواز الإغلاق وضرورته تحقيقاً للسّلامة العامةّ والحفاظ على الأرواح البشريّة، وهذا ما أعاد جدليّة المقاصد وحفظ الضّرورات والكلّيات في الاجتماع الدّينيّ والسّياسيّ وأنّ الحفاظ على الإنسان مقصد الدّين وغاية التّشريع، بينما توّجسَ آخرون من الطّرح المقاصديّ لكثرة استثماراته من جهة الحداثيّين والعلمانيّين دون تفريقّ بين مدرسة المقاصد الإسلاميّة التّأصيليّة والمدرسة الحداثيّة التّوظيفيّة !

فالمهمّ في هذا السّياق تأكيد أنّ النصّ الدّيني ينفتح على أبعاد مختلفة من المعرفة بحسب الدّلالات القريبة والبعيدة للنصّ كما هو موضوع علم الدّلالات في أصول الفقه والتّشريع، كما أنّ طبيعة العقل الجدليّ المقاصديّ تختلف عن العقل الحروفيّ الّذي يرى أنّ الحقيقة كامنةٌ في ظاهر الخطاب دون النّفاذ إلى أعماقه وغاياته، وأظهر من يمثّل ذلك في الفقه الإسلاميّ تاريخيّاً ابن حزم الظّاهريّ وامتداداته المعرفيّة كما هي في المدرسة السّلفيّة السّطحيّة المعاصرة، وينبغي إدراك ملحظ مهمّ بأنّ السّلف كانوا على الأعمّ من ذوي النّزوع المصلحيّ المآليّ من خلال اجتهاد واعٍ لفقه النصّ وغاياته وأبعاده المقاصديّة، وليس نصّاً ظاهريّاً يقوم على تقديس ظاهر النصّ دون النّفاذ إلى بواطنه وأسراره، فالفقه الظّاهريّ فقهٌ لم يُكتب له البقاء في سلسلة المدارس الفقهيّة الحيّة الباقية، وقد حمل ابن حزم الظّاهريّ  – في إحكام الأحكام – على الفقهاء وبالأخصّ المالكيّة منهم على قبولهم بالمصلحة وعملهم باعتبارات المقاصد ورأى في ذلك خروجاً وتركاً للسنّة يقارب الارتداد! وما ذلك إلاّ بسبب التّمسّك الشّكليّ والسّطحيّ بالنّصوص دون الانفتاح والبحث عن مضامينها وغاياتها الّتي هي مقصد الشّرع ومحطّ غرض النصّ الدّينيّ عموماً، وما يراه ابن حزم نكوصاً وارتداداً للعمل بظواهر النّصوص يراه الجمهور ميلاً إلى الغايات والمقاصد، وذاك الاتّجاه الظّاهريّ الشّكليّ بعيدٌ من حيث فهم التّشريع عن منهج السّلف وفلسفتهم حول النّصوص، فلقد أعمل السّلف المتقدّمون كلّ أبعاد النصّ واستثمروا أكثر طاقاته بما أمكنهم من بحث واجتهاد على قدر الوسع والطاقة، وقد كان عمررضي الله عنه أكثر الصّحابة إعمالاً للمصلحة والمقاصد في الواقع الإسلاميّ للخلافة الرّاشدة، كما هو مشهور في مسائل كثيرة كالأراضي المفتوحة ووقف قسمتها على الفاتحين وإيقاف حدّ القطع عام الرّمادة ومنع العرب من زواج الأعجميّات وترك المسلمات، وحكم على زوجة المفقود بطلب الطّلاق بعد مضيّ أربع سنوات على فقده أو رفعها للقاضي، رعايةً لمصلحة الزّوجة ودفع الضّرر عنها، وإن لم يثبت موت زوجها، وقد اتّفق معه عثمان وعليّ وابن عبّاس، وجماعة من التّابعين، وغير ذلك من الاجتهادات المصلحيّة والمقاصديّة، وعمر من أكثر الصّحابة والسّلف إعمالاً للمقاصد وبحثاً عن آفاق الأحكام بوعي الفقيه وإدراك المجتهد البصير وهذا الملحظُ من اجتهادات عمر والصّحابة رضي الله عنهم في إعمال المقاصد مُدركٌ عند الفقهاء التّأصيليّين من فقهاء المقاصد الّذين أشاروا إليه بوضوح تامّ كما قال الشّاطبيّ ¬: ” الشّارع وضع الشّريعة على اعتبار المصالح باتّفاق ” وكلام ابن القيّم مُتداوَلٌ وشائعٌ عند الفقهاء والدّارسين: ” بأنّ الشّريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلّها، ورحمةٌ كلّها، ومصالحُ كلّها، وحكمةٌ كلها، فكلّ مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرّحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشّريعة وإن أُدخلت فيها بالتّأويل “، والفقهاء الأربعة عملوا بالمقاصد والحِكم الّتي بنيت عليها الشّريعة بنسب مختلفة وبأسماء ومصطلحات متعدّدة، ولكنّ التّفاوت كان في مساحة الأخذ بالمقاصد ولم تكن المشكلة في شيوع المصطلح بل في وجود المفهوم والحقيقة وهي تحرّي الحكمة والغاية من التّشريع، فالفقهاء المجتهدون من الأوائل كأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ رحمهم الله وغيرهم كانوا يلحظون المصلحة والمقاصد في اجتهاداتهم، بل هي مبنيّة على ذلك وما المصلحة المرسلة عند المالكيّة والاستحسان عند الحنفيّة إلاّ تطبيقٌ لهذا المبدأ وإن اختلفت الأسماء والاصطلاحات، ولذلك قال الغزاليّ: ” إذا فسرّنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشّرع فلا وجه للخلاف في اتّباعها، بل يجب القطع بأنّها حجة ” .         

وتكاد تتطابق أمثلة الحنفيّة الآخذين بالاستحسان مع أمثلة المالكيّة الآخذين بالمصلحة المرسلة، مثل تضمين الأجير المشترك، وتضمين صاحب الحمّام الثّياب، والقول بعدم قبول توبة الزّنديق بعد القدرة عليه، ومن القواعد المتّفق عليها بين الفقهاء قاعدة “المقاصد معتبرة”    وقاعدة” الأمور بمقاصدها “، وقاعدة ” العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني “، وهذه القاعدة بالنسبة للسّابقة كالجزئيّ للكليّ، ومن أروع التعبيرات قول ابن رشد الحفيد في مفهوم  المصلحة والغاية: ” بأنّ الاستحسان التفات إلى العدل والمصلحة وكلاهما غاية التّشريع”.

فعزلُ النصّ عن المقاصد والمصالح بذرائع شتّى يفقد التّشريع والفقه معناه وإنسانيّته بالمحافظة على حياة النّاس وهي مقّدسة في المنظور الدّينيّ فيّ كلّ النّصوص الواردة بشأن الحياة الإنسانيّة ووجوب صونها وحفظها كقوله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } [سورة المائدة:32]،  إنّه أعظم نصّ تتجلّى فيه الأنسنة والقيمة لهذا الكائن المشرَّف المستخلف .

فلا مندوحة لنا من العمل على حفظ الإنسان والاهتمام الفاعل والجادّ بكرامته وتفعيل قيمته وفلسفته في الوجود الواقعيّ والمعرفيّ والفلسفيّ للارتقاء من خلاله وعطائه إلى فلسفة الدّين وكنه الشّريعة الصّائنة للمعنى الأنسنيّ بهبةٍ ومنحةٍ إلهيّة لهذا الأنموذج المكرّم. 

فبهذا الاعتبار يتبيّن لنا أنّ التّفريق بين الاتّجاه المقاصديّ الـتّأصيليّ والتّوظيفيّ العلمانيّ ضروريّ ومنهجيّ، كما أنّ التّفريق بين الدّعاة الحروفيّين والجامدين قبالة التّجديديّين الّذين يريدون وضع النصّ في سياقاته المجتمعيّة والسّياسيّة والحيويّة ضروريّ أيضاً، فإسقاط المصلحة إسقاط للإنسان واعتباره، لأنّه لابدّ من تزامل الحكم ومناطه، والنصّ ومقصده كما دلّت عليه النّصوص السّامية الّتي جعلت حفظ النّوع غاية الوجود الإنسانيّ، وكذلك هي مناط الفقه والتّشريع والعلّة الغائيّة لبقائه واستثماره في البقاء والبناء الدّيني والعمرانيّ الحضاريّ كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [سورة الأنفال:24].

إنّها دعوة للاستجابة وإعادة إنتاج الحياة الصّالحة الطّيبة الفاعلة، وبهذا المنهج يبقى الفقه   حيّاً -كما هي الحياة – ومتحرّكاً قادراً على الاستجابة والانفعال، كما هو قادرٌ على الفعل الفكريّ والفقهيّ والحضاريّ، وتلك سمات الخلود الّتي وصف الله بها فلسفة الدّين وأصالة التّشريع.     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى