دين ودنيا

التوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب (9)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

الأصل أن يستعملَ العبدُ الأسبابَ التي بيّنها الله تعالى لعباده وأذن فيها، وهو يعتقد أنَّ المسبِّبَ هو الله سبحانه وتعالى، وما يصل إليه من المنفعة عند استعمالها بتقدير الله عز وجل، وأنّ إنْ شاء حرمه تلك المنفعة مع استعماله السببَ، فتكون ثقتُه بالله، واعتمادُه عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب.
وبالتتبّع لما قاله العلماء في التوازن بين المقامين نجد أنَّ جمهورَهم يقرّرون أنّ التوكُّلَ يحصل بأن يثق المؤمن بوعد الله، ويوقن بأنّ قضاءه واقعٌ، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بدّ له منه من مطعم ومشرب وتحرُّز من عدو بإعداد السلاح وإغلاقِ الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئنُّ إلى الأسبابِ بقلبه، بل يعتقد أنها لا تَجْلِبُ بذاتها نفعاً، ولا تدفعُ ضراً، بل السبب والمسبب فعلُ الله تعالى، والكلُّ بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركونٌ إلى سبب قدح في توكّله.
أ ـ في القصص القرآني ما يَجْلِي هذا التوازنَ أيّما تجليةِ، ويبيّن مفهوم هذين المقامين وتطبيقهما على أرض الواقع، وعلى الوجه الذي تقتضيه العقيدة الصحيحة مثل:
• قصة يعقوب عليه السلام مع أبناء عند وصيته لهم قبل دخولهم مصرَ لجلب ما يحتاجونه من طعامٍ وموادٍ غذائية حينَ أصابَ بلدهم الجدب والقحط، فقد وصّاهم كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ*﴾[يوسف: 67]. فيعقوب عليه السلام ضربَ لنا المثل في كيفية الأخذ بالأسباب في نطاق التوكُّل على الله، إذ في قوله: تدبيرٌ وتشبّثٌ بالأسباب العادية التي ﴿لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ تؤثّر إلا بإذن الله تعالى، ولكنه استدرك ذلك مبيناً لهم أنَّ الأخذ بالأسباب هنا ليس هو مدافعةً للقدر، بل هو استعانةٌ بالله تعالى، وهربٌ منه إليه] فقال: أي: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ يكون ما أمرتكم به مغنياً غناءً مبتدئاً من عند الله، بل هو الأدب والوقوفُ عند ما أمر الله، فإنْ صادف ما قدّره فقد حصلت فائدتان، وإن خالف ما قدّره حصلت فائدةُ امتثالِ أوامره، واقتناع النفس بعدم التفريط.
وقد أراد يعقوب عليه السلام بهذا أن يعلّم أبناءَه الاعتمادَ على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة، تأدُّباً مع واضع الأسباب، ومقدِّر الألطاف في رعاية الحالين، لأنا لا نستطيعُ أن نطّلعَ على مراد الله في الأعمال، فعلينا أن نتعرّفها بعلاماتها، ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها، وهذا سرُّ مسألة القدر كما أشار إليها قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له».
وبهذا يثبت أنَّ الأسباب لا بدَّ لها من سياج قوي من التوكُّل تدور في فلكـه، ولا تخرجُ عن حقيقته، ليكونَ ذلك أدعى لتحقيق المراد، وأجدر لامتثال أمر الله، وذلك لأن الأسبابَ العادية لما لم تكن غير مستقلة في تأثيرها، ولا غنية في ذاتها، مفتقرة إلى ما وراءها. كان من الواجب على من يتوسَّلُ إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكَّل مع التوسل إليهـا على سببٍ وراءها، ليتـمَّ لها التأثير، ويكون ذلك منه جريّاً في سبيل الرشد والصواب، ويكون ذلك بالتوكل على الله سبحانه في الأمور كلها، فإنَّ الله لا إله إلا هـو، ربّ كـل شيء، وهذا هو الله سبحانه وحدَه لا شريكَ له، فإنّ الله لا إله إلا هو ربّ كل شيء، وهذا هو المستفادُ من الحصر الذي يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ *﴾
[إبراهيم: 12].
لقد مدح الله تعالى هنا يعقوب عليه السلام فقال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ*﴾[يوسف: 68]، لأنه عمل بالأسباب، واجتهد في توفيتها، وهو مقتضى الحكمة، ثم ردَّ الأمرَ كلَّه لله تعالى، واستسلم إليه، وهو حقيقة التوحيد فقال: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ﴾ ﴿مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾[يوسف: 67] فأثنى الله تعالى عليه من أجل جمعه بين هاتين الحالتين العظيمتين.
• قصة مريم عليها السلام: وهي كما وردت في القرآن الكريم تبيّن لنا بوضوحٍ بالغٍ أنّه لا اختلاف ولا تباين بين مقامي الأخذ بالأسباب والتوكل، إذ كلٌّ له ملابساته وظروفه التي ترجِّحُ مقاماً على اخر في بعض الأوقات والأحوال.
كانت مريم في بداية حياتها يأتيها رزقُها من غير تكسُّبٍ، كما قال تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *﴾[آل عمران: 37]، فلما ولدت أُمِرتْ بهزّ الجذع، قال علماؤنا: لمّا كان قلبُها فارغاً فرّغ الله جارحتها عن النّصَب، فلما ولدت عيسى عليه السلام، وتعلق قلبها بحبه، واشغل سرُّها بحديثه وأمره، وكلَها إلى كسبها، وردها إلى العادةِ بالتعلّق بالأسبابِ في عباده.
ب ـ السنة النبوية:
_خ فعلى مستوى السنة الفعلية ثبتَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهَرَ في الحربِ بين درعين، ولبس على رأسه المِغْفر، وأقعدَ الرماةَ في الجبل، وخندق حولَ المدينة وأَذِنَ في الهجرةِ إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجرَ هو، وتعاطى أسبابَ الأكل والشرب، وأدّخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزلَ عليه من السماء، وكان هو أحقَّ الخلقِ أن يحصلَ له ذلك، ومع كلِّ ذلكلا يُظَنُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه مالَ إلى شيءٍ من الأسباب غفلة مقدار طرفة عين.
والمثال النبوي الفعلي لهذا التوازن على وجه التفصيل حادثُ الهجرة الذي اصطحب فيه أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقد استوفيا هما الاثنان في هذه الهجرة الأسباب المتاحة جميعها، ولم يغفلا واحداً منها.
إنّ من تأمّلَ حادثَة الهجرةِ، ورأى دِقّةَ التخطيط فيها، ودِقّةَ الأخذِ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدّماتها إلى ما جرى بعدها، يدركُ أنَّ التخطيط المسدَّدَ بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأنَّ التخطيطَ جزءٌ من السنة النبوية، وهو جزءٌ من التكليف الإلهي في كلِّ ما طولب به المسلم، وأنّ الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أنَّ التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين.
فعندما حان وقتُ الهجرةِ، وشرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في التنفيذِ، نلاحظ الاتي:
• وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت: برغم ما كان يكتنفها من صعابٍ وعقباتٍ، وذلك أنّ كلَّ أمرٍ من أمورِ الهجرةِ كان مدروساً دراسةً وافيةً، فمثلاً:
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شدّة الحرِّ، الوقت الذي لا يخرجُ فيه أحد، بل من عادته أنّه لم يكن يأتي له في ذلك الوقت، لماذا؟ حتّى لا يراه أحد.
• إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصّديق: وجاء إلى بيت الصّدّيق متلثّماً، لأنّ التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم وجه المتلثم.
• أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِجَ مَنْ عنده، ولمّا تكلّم لم يبيّن إلا الأمرَ بالهجرة دون تحديدِ الاتجاه.
• كان الخروج ليلاً، ومن باب خلفيٍّ في بيت أبي بكر.
• بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة على ذلك بخبيرٍ يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً، ما دام على خُلُقٍ ورزانة، وفيه دليل على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجِمُ عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.
• انتقاء شخصيات لتقومَ بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلّها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل هؤلاء الأفراد، وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
• وضع كلَّ فردٍ من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيدُالقيام به على أحسن وجه، ليكونَ أقدرَ على أدائه والنهوض بتبعاته.
• فكرة نوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مكان الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة ناجحة، قد ضلّلت القوم، وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى خرجَ في جُنْحِ الليل تحرسُه عنايةُ الله، وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارُهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كانوا يشكّون في أنه ما يزال نائماً مُسجًّى في بردته، في حين كان النائم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
• وقد كان عمل أبطال هذه الرحلة على النحو التالي:
عليّ رضي الله عنه: ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، يخدع القومَ، ويُسلِّمُ الودائع، ويلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
عبد الله بن أبي بكر: رجل المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو.
أسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنود المشركين، بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.
عامر بن فُهيرة: الرّاعي البسيط، الذي قدّم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدّدَ اثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كي لا يتفرّسها القوم، لقد كان هذا الرّاعي يقوم بدور الإمداد، والتموين، والتّعمية.
عبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارةَ البدء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب، فهذا تدبير للأمور على نحو رائعٍ دقيقٍ، واحتياطٍ للظروف بأسلوبٍ حكيمٍ، ووضع لكلّ شخصٍ من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدٍّ لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكلِّ مطالب الرحلة، واقتصارٍ على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف.
لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثَمّ باتت عنايةُ الله متوقعةً.
إنّ اتخاذ الأسباب أمرٌ ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمرٌ يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكّلُ أمراً ضرورياً، وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدَّ كل الأسباب، واتّخذ كلَّ الوسائل، ولكنّه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يُستجابُ الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخُ فرسُ سُراقة في الأرض، ويكلل العمل بالنجاح.
• وأما على مستوى السنة القولية في هذا الصدد: نجد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فِرّ مِنَ المجذومِ فرارَك من الأسَدِ»، في الوقت الذي ثبت فيه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم. وظاهر الحديثين يدل على التنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب، إلا أنّه عند التحقيق نجد أنه صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم، ليبيّن أنَّ الله هو الذي يُمْرِضُ ويشفي، وأنّه لا شيءَ يعدي بطبعه، نفياً لما كانت الجاهلية تعتقده من أنّ الأمراضَ تعدي بطبعها من إضافة إلى الله، فأبطل النبيُّ صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك، في حين نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الاقتراب من المجذوم، ليبيّن أنَّ هذا من الأسبابِ التي أجرى الله تعالى العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارةٌ إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إنْ شاء سلبها قواها، فلا تؤثر شيئاً، وإن شاء أبقاها فأثرت، وفي ذلك فسحةٌ لمقام التوكل على الله، وهذا يبيّن أنّ لكلِّ حالةٍ مقامها التي شرعها الله عز وجل لها.
ومن ذلك ما ورد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بقوم فقال: من أنتم؟ قالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتواكلون، إنَّما التوكل رجلٌ ألقى حَبَّه في بطنِ الأرضِ، وتوكل على ربه عز وجل.
المصادر والمراجع:
– علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(46:41)
– مجدي محمد عاشور، السنن الإلهية، ص(219)
-توفيق محمد، أضواء على الهجرة ، ص (393 ـ 397).
– ابراهيم علي احمد،في السيرة النبوية: قراءة لجوانب الحذر والحماية ، ص (141).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى