مقالات

أسباب زوال الحضارة الإنسانية الأولى وكيف نعتبر في زمن الكورونا؟

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

بعد أن عمَّ وانتشر وباء كورونا في معظم أنحاء المعمورة، وأمام هذه الابتلاء العظيم الذي حلَّ بالبشرية من كل جانب؛ فلا استثنى أحداً كَبُرَ أم صَغُرْ، بَعُدَ أم قَرُبْ، بدأ البعض بالتساؤل عن سر هذا البلاء العام الذي أصيبت به الإنسانية اليوم، هذا الوباء المميت في بعض الأحيان والسريع الانتشار، الذي اجتاح الحواضر والأقطار، وأصاب العامة والخاصة، فقد تبادر إلى أذهان البعض، هل هي نهاية البشرية !؟ وهل هي علامات الساعة!؟ وما هي حكمة الخالق من ذلك؟ وإذا كان قد قدر على هذه الأمم الهلاك فلماذا !؟

وفي محاولة مني للإجابة على هذه التساؤلات، سوف أستعرض في هذا المقال عوامل زوال الحضارة الإنسانية الأولى، وهذا المقال هو القسم لأول لمقال ثاني عن عوامل نشوء الحضارة الإنسانية الثانية، لعلنا نستخلص من تلك التجارب التاريخية الأجوبة النافعة والدروس والعبر لفهم الواقع الذي المعاش اليوم.

إنَّ نوحاً (عليه السلام) جاء في نهاية الحضارة الإنسانية الأولى والتي بدأت من آدم (عليه السلام)، ثم انحرفت عن التوحيد وإفراد العبادة للخالق العظيم وتطورت الحياة الإنسانية على وجه الأرض في قضاياها المادية، وضعفت وأخطأت السبيل في قيمها الروحية ومعرفتها بخالقها العظيم، فأرسل الله عز وجل نوحاً (عليه السلام) إلى قومه فأقام عليهم الحجة، ومضت سنة الله في زوالهم واستئصالهم وآمن معه القليل الذين أنشأ بهم حضارة السلام والبركات بعد الطوفان العظيم.

وإنَّ من أسباب نهاية الحضارة الإنسانية الأولى عوامل عديدة من أهمها:

أولاً: الكفر بالله (عزَّ وجل):

وقد رفض قوم نوح دعوة التوحيد ورسالات الله وكفروا بها وحاربوها، ووصفهم الله بالكفر في قوله تعالى: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ (هود:27).

ثانياً: الشرك بالله:

فقد سجل القرآن الكريم موقفهم النهائي من الشرك وعبادة الأصنام بعد المواعظ البليغة والنصائح الغالية التي بذلها لهم نوح (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ (نوح:23).

ثالثاً: الظلم:

يعدُّ الظلم من اكبر عوامل سقوط الحضارات، وله مفهوم شامل عريض، يؤدي إلى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة وعلاقة الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره، وعن هذا تنبثق ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية، وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية بأسرها، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ (هود: 117)، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ (هود: 102).

رابعاً: تكذيب رسول الله نوح (عليه السلام):  

وردت آيات كثيرة تدل على أن تكذيب الرسل كان سبباً في هلاك الأمم السابقة وهذه الآيات واضحة الدلالة وصريحة في العلاقة بين تكذيب الرسل وبين ما حاق بهم من الهلاك والدمار

قال تعالى: ﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ (الحج:42-44). وقال تعالى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ﴾ (الفرقان:37).

خامساً: استعجال العذاب:

ومن أسباب العقاب الإلهي الذي نزل بقوم نوح، استعجالهم بالعذاب فقوم نوح عندما يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة أخذتهم العزة بالإثم واستكبروا وأبوا الإذعان للبرهان العقلي والفطري وإذا هم يتركون الجدال إلى التحدي، فقد كانوا قوماً عمين، قال تعالى: ﴿ قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (هود:32)

سادساً: الترف:

ومن أسباب العقاب الإلهي الترف، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ (هود:116-117). وقد بيَّن نوح أن جماهير قومه اتبعوا رؤساءهم وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴾ (نوح:21).

سابعاً: الاستكبار:

من أسباب هلاك قوم نوح الاستكبار، وهو خلق في النفس دال على الاسترواح، والركون إلى رتبة فوق المتكبَّر عليه، فمتى اتصف المرء بهذا الخلق يقال: في نفسه كبر، فإذا ظهر كعمل صادر عن الجوارح كان تكبراً واستكباراً.

وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الكبر المتوعد عليه بالعقاب فقال: الكبر بطر الحق، وغمط الناس. وصفة الاستكبار الذميمة كانت شائعة في قوم نوح (عليه السلام)، وكانوا قوماً مستكبرين متجاوزين الحد في الكبر، ووصفهم بهذه الصفة نبيهم نوح (عليه السلام) في شكواه إلى ربه من عنادهم وعدم استجابتهم، قال تعالى: ﴿ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ (نوح:7)  أي استكباراً عظيماً غير معهود، وقد أكد الفعل بالمصدر للدلالة على فرط استكبارهم. قال تعالى: ﴿ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ (نوح:7).

ثامناً: المكر:

لقد تعرض نوح (عليه السلام) لأمر عظيم من مكر الكافرين، قال تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴾ (نوح:22). وقد كان المكر صفة بارزة في قوم نوح، واستخدم الملأ من قومه كافة وسائل وأساليب المكر لصد الناس عن دعوة التوحيد والاستجابة لعبادة الله، وآثروا الشبهات والاتهامات الباطلة ووضعوا العوائق والعراقيل أمام دعوته، لقد دبروا الحيل ونصبوا الحبائل ليمكروا بنوح (عليه السلام)، فأبطلها الله وجعلها سبيلاً لهلاكهم، ومضت سنة الله في الماكرين، قال تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ (الانعام:123).

تاسعاً: ظهور المعاصي وكثرة الذنوب:

إن من أسباب سقوط وهلاك الحضارة الإنسانية الأولى ظهور المعاصي وارتكاب الخطايا والانغماس في الذنوب، قال تعالى: ﴿ مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ﴾ (نوح:25).

عاشراً: الاشتغال بالدنيا ونسيان الآخرة:

فقد اشتغل قوم نوح بأمور الدنيا وأصابهم الغرور بها، ونسوا الآخرة وفرحوا بالأموال والأولاد والمتاع الزائل وغاب عنهم الاستعداد ليوم الرحيل وتطاولوا على أهل الإيمان ووقعوا في سنة الاستدراج الرباني، فكثرت أموالهم وأولادهم وأبطرتهم هذه النعم الكثيرة وتحقق فيهم قول الله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:44-45).

الحادي عشر: سنة الاستبدال:

قال تعالى: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴾  (محمد:38)، فقد مضت سنة الله في الاجتماع البشري على أنه ما أهلك قوماً إلا أنشأ من بعدهم قوماً آخرين يقومون بعمارة الأرض، والحضارات كما أن لها سنن قيام وسقوط، لها سنن تجدد وانبعاث واستبدال، وقد تحدث القرآن الكريم عن الاستبدال الحضاري، وهذا ما حدث لقوم نوح (عليه السلام) حيث تجمعت فيهم أسباب الهلاك، فمضت سنة الله فيهم بالطوفان، ولكي تستأنف الإنسانية رسالتها استبدلها الله بنوح (عليه السلام) والذين آمنوا برسالته.

الثاني عشر: سنة الله في الأجل الجماعي:

قال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ (الأعراف:34)، فكما جعل الله عز وجل لكل فرد أجلاً تنتهي به حياته الدنيا، جعل سبحانه وتعالى للأمم والحضارات آجالاً تنتهي إليها وتسقط في نهايتها ويسدل الستار عليها، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ (الحجر:4-5).

وقد بيَّنت الآية أن كل القرى الهالكة كان لها أجل مقدر في أسباب هلاكها، وذلك لما أقام الله الحجة على أهلها بتقديم النُّذُر وفرص الإمهال وسنن الاستدراج، الذي قدره الله لها مرتب على سلوكها وأعمالها وعلى اعتقادها وصورها، ومن خلال هذا تنفذ مشيئة الله، فلا يغر المكذبين تخلف بأس الله عنهم فترة من الوقت، ومن عدل الله أن يذوق كل واحد جزاء عمله وتصرفه، وسنة الله في طريقها المعلوم تمضي رويداً رويداً نحو الأجل المقدر الذي يمنحه الله لتلك القرى، وحتى لا تبقى بقية خير، عند ذلك تبلغ الأمة أجلها وتنتهي إلى مصيرها، وما من أمة عرفت الحياة ثم تمردت عن الحق وتولت عن العدل إلا والله مهلها قبل يوم القيامة أو معذبها، وهذا قدر مقدر في الكتاب المسطور، قال تعالى: ﴿ إِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ (الإسراء: 85).

وهذا ما حدث لقوم نوح، حيث بعث الله لهم رسولاً لهدايتهم فردوا دعوته كبراً وعناداً، وأعرضوا عنها جحوداً وطلبوا منه تعجيل العذاب وكذبوا وجحدوا وظلموا وبطروا وأترفوا، فوقع عليهم العقاب الإلهي بسبب ذنوبهم مع تقدير الله لهم وفق سنة ” لكل أمة أجل ” فعلم الله لا يتبدل وسنته لا تتحول وهي جارية وحاكمة وفق مشيئته وإرادته وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى.

تلك عوامل أدت إلى هلاك الأمم وزوال الحضارات عبر التاريخ الإنساني؛ فالكفر والشرك والظلم والترف والكذب والمعاصي والاستكبار والغرق في ملذات الدنيا ونسيان الآخرة والابتعاد عن القيم الإنسانية يحكم الله بها بعقاب فردي وجماعي أيضاً، وإنها دعوة للبشرية جمعاء لترك فسادها وظلمها وتهاونها بسفك الدماء وأكل الأموال بالباطل وشيوع الفواحش والآثام، ولذا عليها التمسك بقيمة العدل المطلق بجميع أنواعه ومحاربة الظلم وترك المعاصي، والأخذ بأسباب النجاة في الدنيا والآخرة، وتلك من أسباب الازدهار.

اللهم ارفع هذا الوباء والبلاء وردنا إليك رداً جميلا وخذ بأيدي بني آدم نحو رضاك … اللهم آمين

  • المراجع:
    1. علي محمد الصلابي، نوح والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية، دار ابن كثير، ص 365:336.
    1. محمد هيشور، سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، دار الوفاء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1997م، ص 23، 302،303.
    1. سعيد محمد بابا سيلا، أسباب هلاك الأمم السالفة، ص 165.
    1. الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، ص 29/72.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى