غير مصنف

الأخذ بالأسباب والتوكل على الله تعالى (8)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يمنعُ من الأخذ بالأسباب، فالمؤمنُ يتّخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمرُ به من اتخاذها، ولكنّه لا يجعلُ الأسبابَ هي التي تنشءُى النتائج، فيتوكل عليها، فالتوكل: هو قطعُ النظرِ في الأسباب بعد تهيئةِ الأسباب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل».
ففي جانب الأسباب يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]. ويقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[الأنفال: 60]، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 10].
وفي جانب التوكل، يقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *﴾[آل عمران: 122]، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[آل عمران: 159]، ويقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *﴾ .
ولقد أرشدنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عدم تعارضها مع التوكل، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنّكم توكّلتم على اللهِ حَقَّ توكُّلِه لرزقكم كما يرزقُ الطيرَ، تغدو خماصاً، وتعود بطاناً». ففي هذا الحديث الشريف حَثٌّ على التوكل، مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب، حيث أثبتَ الغدوَّ والرواحَ للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها.
إنَّ العملَ بسُنّة الأخذِ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمرُ الذي خُلِقَ له العبيد، وأُرسلت به الرسل، وأُنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السماوات والأرض، وله وُجِدَت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية.
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب، وأرشدنا ألاّ نعتمد عليها وحدَها، وإنّما نتوكل على الله مع الأخذ بها، وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
الأمر الأول: الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها، ورجاؤها وخوفها، فهذا شِرْكٌ يدقُّ ويغلظ وبين ذلك.
الأمر الثاني: ترك ما أمر الله به من الأسباب، وهذا أيضاً قد يكون كفراً وظلماً وبين ذلك، بل على العبدِ أن يفعلَ ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل مَنْ يعتِقدُ أنَّ الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمُه وحكمُه، وأنَّ السبب لا يضرّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية، ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيانَ من لا يرى النجاة والفرج والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنّها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحاً، ولا توصله إلى المقصود، فيجرِّدُ عزمَه للقيام بها حرصاً واجتهاداً، ويفرّغُ قلبَه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريداً للتوكل، واعتماداً على الله وحده.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: «احرصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تَعْجَزْ». فأمره بالحرص على الأسباب، والاستعانة بالمسبب، ونهاه عن العجز، وهو نوعان:
النوع الأول: تقصير في الأسباب، وعدم الحرص عليها.
النوع الثاني: تقصير في الاستعانة بالله، وترك تجريدها.
فالدين كله ظاهِرُه وباطنه وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية.
1 ـ القول بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهلٌ بالدين:
إنّ القولَ بالتنافي بين التوكل والأخذ بالأسباب جهلٌ بالدين، وهذا من قِلّة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإنّ الله تعالى خلق المخلوقات بأسبابٍ، وشرع للعبادِ أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والاخرة، فمَنْ ظَنَّ أنَّه بمجرّد توكله، مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصِّلُ مطلوبه، وأنَّ المطالب لا تتوقّف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالِطٌ.
2 ـ التوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب:
الأصل أن يستعملَ العبدُ الأسبابَ التي بيّنها الله تعالى لعباده وأذن فيها، وهو يعتقد أنَّ المسبِّبَ هو الله سبحانه وتعالى، وما يصل إليه من المنفعة عند استعمالها بتقدير الله عز وجل، وأنّ إنْ شاء حرمه تلك المنفعة مع استعماله السببَ، فتكون ثقتُه بالله، واعتمادُه عليه في إيصال تلك المنفعة إليه مع وجود السبب.
وبالتتبّع لما قاله العلماء في التوازن بين المقامين نجد أنَّ جمهورَهم يقرّرون أنّ التوكُّلَ يحصل بأن يثق المؤمن بوعد الله، ويوقن بأنّ قضاءه واقعٌ، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بدّ له منه من مطعم ومشرب وتحرُّز من عدو بإعداد السلاح وإغلاقِ الباب ونحو ذلك، ومع ذلك فلا يطمئنُّ إلى الأسبابِ بقلبه، بل يعتقد أنها لا تَجْلِبُ بذاتها نفعاً، ولا تدفعُ ضراً، بل السبب والمسبب فعلُ الله تعالى، والكلُّ بمشيئته، فإذا وقع من المرء ركونٌ إلى سبب قدح في توكّله.
المصادر والمراجع:
– علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(41:39)
– ابن القيم، مدارج السالكين، (2/130).
– مجدي محمد عاشور، السنن الإلهية، ص(215)
– سيد قطب، في ظلال القران (2/919).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى