بحوث ودراسات

الدَّولة العثمانيَّة: خلافة إسلاميَّة أم مُلكٌ عاضٌّ؟ 3 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

عدم الاكتراث بمنجزات التقنيات الحديثة من أهم أسباب “الرجعيَّة”

يتطرَّق لويس إلى مسألة جديدة في رصده لأسباب تأخُّر الأمَّة الإسلاميَّة عن ركب الحداثة الغربيَّة، وهو ما لمسه من تقاعُس عن الاستعانة بمنجزات الغرب من الأجهزة الحديثة، ضاربًا المثل في ذلك بعدم الاستعانة بمقاييس للزمن والمسافات. يستشهد لويس لما أورده أوجيه دي بوسبيك في كتابه آنف الذِّكر The Turkish Letters of Ogier Ghiselin de Busbecq, Imperial Ambassador at Constantinople 1554–1562-الخطابات التركيَّة لأوجيه غيزيلين دي بوسبيك، السفير الإمبراطوري في القسطنطينيَّة 1554-1562، عن تجربته خلال خدمته في الدولة العثمانيَّة، حينما كان بعض رفقائه من العثمانيِّين يوقظونه ليلًا، قبل الفجر بساعات، اعتقادًا منهم أنَّ الصبح انبلج، بينما هم أضلَّهم نور القمر، على حدِّ وصفه. ما أثار استياء دي بوسبيك هو إصرار العثمانيِّين على عدم استخدام الساعات، على عكس ما كان يفعل هو، مضيفًا أنَّ بعضهم اقتنع بموثوقيَّة استخدام الساعات بعد التجربة.

ينقل لويس عن دي بوسبيك قوله في موضع آخر من كتابه أنَّه لم يصادف في حياته أمَّة أشدَّ تقاعسًا عن استخدام الابتكارات الحديثة من إنتاج غيرها من الأمم، ويرفض أبناؤها حتَّى استخدام الطابعات في طباعة القرآن الكريم، ظنًّا منهم أنَّه سيفقد قدسيَّته بالطباعة، على حدِّ قوله، نقلًا عن لويس، الذي يعلِّق بأنَّ وصف دي بوسبيك لقياس الزمن والمسافة في الدولة العثمانيَّة “بلا شك مبالغ فيه، ولكن ليس خاطئًا بالكليَّة” (ص118). ما أراد دي بوسبيك قوله بالتطرُّق إلى مسألة قياس الوقت والمسافة هو أنَّ عدم الدقَّة في هذا الصدد أفقد الدولة العثمانيَّة القدرة على اللحاق بركب الحضارة الحديثة، رغم أنَّ الحضارات الوثنيَّة القديمة كانت تستخدم ساعات شمسيَّة ومائيَّة لقياس الزمن، وكلاهما من ابتكار حضارات شرق أوسطيَّة؛ فالساعة الشمسيَّة من ابتكار البابليِّين، والمائيَّة طوَّرها المصريُّون القدماء. لم تقف الحضارة الإغريقيَّة، التي استخدم الساعتين، عاجزة أمام مشكلة تغيُّر مساحة الظلِّ واتجاهه بحسب الفصل، التي تعتري الساعة الشمسيَّة؛ فخرج علماء الرياضيَّات لديها بأساليب تلافت تلك المشكلة. وجد الإغريق كذلك لمشكلة العناية والصيانة التي عانت منها الساعة المائيَّة من خلال ابتكار أدوات ذاتيَّة التشغيل، تخبر عن الوقت، وتعمل حتَّى في الظلام، متجاوزةً مشكلة الساعات الشمسيَّة.

يعتبر لويس أنَّ الحساب الدقيق للزمن من أهم متطلَّبات التقنيات والعلوم الحديثة، وأحد أهم السمات الأساسيَّة للحياتين، العامَّة والخاصَّة، في العصر الحديث. ابتكرت الحضارة الغربيَّة أسرع وسائل النقل، التي استعان بها العالم الإسلامي واحدةً تلو الأخرى، بدءًا من القطارات؛ وكان للحضارة الغربيَّة كذلك الفضل في اختراع وسائل الاتصال الحديثة، من تلغراف وهاتف وحتَّى أسرع تقنيات التواصل المتاحة اليوم. أصبح الاعتماد على وسائل النقل والاتصال تلك من مقوِّمات مباشرَة المهام الحياتيَّة، لدرجة أنَّ الامتناع عن استخدام أيِّها، جبرًا أو طواعيةً، يهدِّد المشاركة المنتظمة في الحياة اليوميَّة، العمليَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يعني أنَّ تعميم استخدام منجزات التقنيات الغربيَّة في العالم الإسلامي بداية الالتحاق بمصافِّ الأمم المتقدِّمة.

ما أراد لويس قوله هو أنَّ الحضارة الغربيَّة أعادت تشكيل أسلوب الحياة في العالم، بما تمخَّضت عنه من منجزات آليَّة أصبحت تسيطر على سير الحياة اليوميَّة لشعوب الأرض. لا مبالغةَ إذا أيَّد المستشرق الهالك الرأي القائل أنَّ التاريخ الحديث للشرق الأوسط يُحسب منذ عام 1798 ميلاديًّا، وهو عام نهاية الثورة الفرنسيَّة، وتوجُّهها إلى مصر والشام، متجسِّدةً في شخص الجنرال بونابرت وحملته. بالنسبة إلى لويس، يبدأ تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة الحديث من وقوعها “تحت حُكم القوَّة الغربيَّة، والتأثير المباشر للمواقف والأفكار الغربيَّة” (ص130). يتعرَّض لويس لموقف السلطان العثماني من الحملة الفرنسيَّة، ساخرًا من خطابه للشعب المسلم في الدولة العثمانيَّة، مسلِّطًا تركيزه على وصْف السلطان جنود الحملة بـ “الكفَّار العصاة”، و “المرتدِّين الأشرار”، الذين لا يؤمنون بوحدانيَّة الله، ولا بالآخرة والبعث للحساب يوم القيامة؛ ومن ثمَّ تركوا لأنفسهم العنان في ارتكاب الآثام، متأثِّرًا بقول الله تعالى في وصْفه معتقَد هؤلاء “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” (سورة الجاثية: الآية 24). يقف لويس عن كلمة “الدَّهْر“، التي تعني الوقت، في إشارة إلى اختلاف مفهوم الوقت لدى الحضارة الغربيَّة عنه لدى العالم الإسلامي. والمفارقة أنَّ قول الله تعالى المُحكم يصف بدقَّة متناهية تسلُّط الوقت على غير المؤمنين بالآخرة، بما يجعلهم لا يضيعون مسافة زمنيَّة دون استغلالها في تحقيق منفعة ماديَّة. في حين يفترض لويس أنَّ “التحوُّل الحياتي بعد إدخال نظام اليوم المكوَّن من 24 ساعة، وكذلك الأجهزة التي تراقب مروره وتخطِّط له، تحوُّلٌ هائل”، مشيرًا إلى أنَّ الساعات والجداول الزمنيَّة هي التي تشكِّل مسار الحياة على مستوى العالم، ولم يعد أحدٌ يذكر أصلها الغربي، وأصبح الوقت في هذا العصر سيفًا يقطع رقاب المتخلِّفين (ص131).

التأثير الثقافي الغربي على العالم الإسلامي

يستعرض لويس في آخر فصول كتابه مظاهر التأثير الثقافي الغربي في العالم الإسلامي، والتي شملت كافَّة مناحي الحياة من الخارج، دون أن يتغلغل التأثير في العادات والممارسات. أُجبر سلاطين الدولة العثمانيَّة بفعل الهزائم المتكرِّرة في مختلف الجبهات على إعادة النظر في أساليب تجهيز الجيش. شملت جهود التحديث الملابس، والأسلحة، والبنية التحتيَّة اللازمة في تدريب الجيش ودعمه وتزويده بالعتاد. لم يستلزم التحديث العسكري أيَّ تغيير ثقافي يواكب الوضع الجديد، بل اقتصر التغيير على الميزانيَّة المخصَّصة للجيش، وإن شمل السياسة المتَّبعة في التعامل مع الغرب، الذي استعان به سلاطين آل عثمان في التزوُّد بالأسلحة الحديثة والخبرات اللازمة لإعادة تشكيل الجيش.

شمل التأثير الغربي في العالم الإسلامي الملابس، والأثاث، والفنون المرئيَّة، والمركبات؛ وكان لوصول المنشورات الغربيَّة إلى العالم الإسلامي دوره في إطلاع المسلمين على منتجات الغرب فيما سبقت الإشارة إليه. وبالحديث عن المنشورات، تجدر الإشارة إلى نشاط حركة الترجمة في القرن التاسع عشر، من اللغات الغربيَّة إلى التركيَّة في تركيا ومصر، ثمَّ إلى العربيَّة في مصر والشَّام، وأخيرًا إلى الفارسيَّة في فارس والهند. كان لمحمَّد علي باشا، الوالي العثماني على مصر ألباني الأصل الذي استقلَّ بحكمها وورثه في سلالته، الفضل في تأسيس أوَّل دار نشر في مصر، وقد نشرت في الفترة ما بين عامي 1822 و1843 ميلاديًّا 243 كتابًا، عبارة عن ترجمات لمؤلَّفات أوروبيَّة إلى التركيَّة والعربيَّة. يُذكر أنَّ الطباعة أُدخلت في تركيا منذ القرن الخامس عشر، على يد اليهود، ثمَّ اليونانيِّين والأرمن، مما يعكس دور الأقليَّات غير المسلمة في الدولة العثمانيَّة في نشر الثقافة غير الإسلاميَّة، وكان الكتاب المقدَّس من أهم المطبوعات.

مع انتشار معرفة العالم الإسلامي باللغات الغربيَّة، ومع ارتفاع مستوى المعرفة بالمنجزات الأدبيَّة الأوروبيَّة، أُدخلت إلى اللغات الشرقيَّة كلمات غربيَّة، استُخدمت بوصفها بدائل لكلمات من أصل اللغة الأم، أو للإشارة إلى أشياء لم تُنحت لها مسمَّيات في تلك اللغة، وهذا من أهمِّ مؤشِّرات التغيير الثقافي. نشطت حركة الترجمة في القرن التاسع عشر تحديدًا، كما سبقت الإشارة، بفضل البعثات العلميَّة إلى الأكاديميَّات التعليميَّة الغربيَّة التي بدأت في تلك الفترة. شملت الترجمة نقل أدب العالم الإسلامي إلى اللغات الأوروبيَّة، وبدأت الأدب الغربي يتأثَّر بأعمال أدبيَّة كلاسيكيَّة، مثل ألف ليلة وليلة؛ وفي المقابل، نتج عن ترجمة الأعمال الغربيَّة، من رواية ومسرح وقصَّة قصيرة، إعادة تشكيل صياغة الأنواع الأدبيَّة العربيَّة لمَّا يتَّفق مع النمط الغربي. بل إنَّ البنية اللغويَّة للغات الشرق الأوسط تأثَّرت بأنماط الكتابة الغربيَّة، وبدأت الكتابات الشرقيَّة تبدو وكأنَّها ترجمة حرفيَّة عن الإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة، على حدِّ وصْف لويس (ص147).

هل من حقِّ الحضارة السائدة أن تُفرض عنوةً على العالم؟

يعترف لويس بأنَّ “الابتكار الثقافي” لم يكن أبدًا حكرًا على إقليم أو أمَّة بعينها، وينطبق الأمر ذاته على مقاومة التأثُّر بذلك الابتكار، وإن كان الاقتراض هو السمة الغالبة على تعامُل الأمم مع مؤثِّرات الحضارة السائدة؛ فعلى سبيل المثال، أخذت أوروبا دينها في القرون الوسطى عن الشرق الأوسط، بينما أخذ الشرق الأوسط سياسته عن أوروبا في العصر الحديث (ص150). يشير مصطلح “الحداثة” في كلِّ عصر إلى طرق الحضارة السائدة وقواعدها ومعاييرها، وقد فرضت كلُّ حضارة في أوجها حداثتها وفق تلك الطرق والقواعد والمعايير. كما يفترض لويس، ربَّما يكون الإسلام صاحب أوَّل حضارة حقَّقت تقدُّمًا ملحوظًا في سبيل تنفيذ مهمَّته العالميَّة؛ مع ذلك، “فالحضارة الغربيَّة الحديثة هي أوَّل حضارة تشمل العالم بأسره. كما اعترف (كمال) أتاتورك، وكما أثنى علماء الحوسبة الهنود وكبرى الشركات التقنيَّة اليابانيَّة، فالحضارة السائدة غربيَّة، وبالتَّالي فالمعايير الغربيَّة هي التي تعرِّف الحداثة” (ص150). يختتم لويس حديثه، قائلًا “سادت حضارات في الماضي، وستسود حضارات أخرى، بلا شكٍّ، مستقبلًا. وتشمل الحضارة الغربيَّة الكثير من الحداثات السابقة؛ بمعنى آخر، فقد أثرتها إسهامات وتأثيرات الحضارات السابقة عليها في الريادة، وستترك بدورها للحضارات الآتية إرثًا ثقافيًّا غربيًّا” (ص150).

سبيل النهوض

يرى برنارد لوس أنَّ دُعاة العلمانيَّة من الحداثيِّين (Modernists or reformers)، المطالبين بإخراج الشَّريعة من نظام الحُكم يمثِّلون الأمل في النَّهوض، على عكس الأصوليِّين (Islamists or fundamentalists)، الذين يرفضون تطبيق المفاهيم الغربيَّة التي كانت سببًا في نهضة الغرب، بل ويرونها سبب تأخُّر العالم الإسلامي. لا سبيل للنُّهوض، في رأي لويس، سوى تطبيق العلمانيَّة، والانفتاح على الغرب، والتوقُّف عن التعلُّل بمكائد الأعداء وإلقاء اللوم عليها فيما يعاني منه المسلمون اليوم. ويعتقد لويس أنَّ مصير العالم الإسلامي كارثي، إن لم ينفتح على الغرب العلماني.

الحضارة الإسلاميَّة زمن الدَّولة العثمانيَّة: عنف في انتزاع الخلافة وتكالُب على الشَّهوات

يستهلُّ برنارد لويس تناوُله تاريخ مدينة إسطنبول، بوصفها بـ “المدينة العظيمة المطلَّة على مضيق البسفور”، باستعراض التسميات المختلفة التي حظيت بها المدينة؛ فقد سمَّاها السلافيُّون (Slavs) تسارجراد (Tsargrad)، أي مدينة الإمبراطور؛ وأطلق عليها الشماليُّون (Northmen) المدينة العظيمة؛ وعرفها الإغريق والرومان باسم بيزنطة؛ وقبل تلك الأسماء، يُعتبر “القسطنطينيَّة-Constantinople” هو أشهر اسم لتلك المدينة، والمشتق من اسم مؤسِّسها، الإمبراطور قسطنطين، وهو أوَّل من اعتنق المسيحيَّة من ملوك أوروبا، باعتبارها عاصمته الجديدة، عام 330 ميلاديًّا. وممَّا يدلَّ على أنَّ “القسطنطينيَّة” هو أكثر اسم ارتبط بتلك المدينة أنَّ النبيَّ (ﷺ) سمَّاها هكذا في حديثٍ رواه أحمد في المُسند والحاكم في المستدرك، بشَّر فيه بفتحها “لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”. سُمَّيت المدينة باليونانيَّة Constantinupolis، أو مدينة قسطنطين، وتحوَّر الاسم إلى Constantinople، ليشتقَّ منه بعد الفتح الإسلامي إسلامبول، وتحوَّر هذا الاسم بدوره إلى إستانبول.

يشير لويس إلى أنَّ اسم “إستانبول” لم يُعتمد في صكِّ العملات وكتابة الوثائق الرسميَّة، وإن كان الأشيع بين العامَّة، حيث كان “إسلامبول” هو الاسم الرسمي لعاصمة آخر دول للخلافة الإسلاميَّة، ويعني دار الإسلام، أو المدينة الغنيَّة بالإسلام. غير أنَّ سلاطين الدولة العثمانيَّة أنفسهم كانوا يفضِّلون التسمية النبويَّة للمدينة، القسطنطينيَّة، مع إضافة تسميات شعريَّة، مثل “دار السيادة” (Abode of Sovereignty) و “عتبة السرور” (Threshold of Bliss)، كما ينقل لويس، مضيفًا أنَّ اسم “إسطنبول-Istanbul” لم تُعرف به المدينة رسميًّا إلَّا عام 1930 ميلاديًّا (صx). غير أنَّ الأتراك اعتادوا الإشارة إلى المدينة التي كانت مركزًا لحضارتهم على مدار قرون باسم إسطنبول. ويسعى لويس من خلال هذا المؤلَّف، الذي يعود إلى فترة مبكِّرة نسبيًّا من حياته المهنيَّة، التي امتدَّت من أربعينات القرن الماضي وحتَّى عام 2018 ميلاديًّا، إلى تقديم صورة عن ملامح حضارة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، من وجهة نظر مراقبين أتراك وغربيِّين. تجدر الإشارة إلى أنَّ لويس أنجز هذا المؤلَّف عام 1962 ميلاديًّا، وقتما كان لم يزل مقيمًا في لندن، موطنه الأصلي، لتعيد دار نشر جامعة أوكلاهوما الأمريكيَّة نشر الكتاب عام 1972، بعد انتقال لويس إلى أمريكا في أعقاب حرب 5 يونيو/حزيران من عام 1967 ميلاديًّا، كما روى تلميذه، أستاذ التاريخ سوري الجنسيَّة سهيل زكَّار، في حلقة من برنامج “ساعة فلسطينيَّة” عنوانها “برنارد لويس…المستشرق الحاقد” عرضتها قناة تلاقي السوريَّة.

غزو/فتح القسطنطينيَّة

في يوم الثلاثاء، الموافق 26 مايو 1453 ميلاديًّا، وفي أولى ساعات الصباح، احتشدت جموع غفيرة خارج أسوار القسطنطينيَّة، لتشنَّ الهجوم العام الأخير، الذي جاء بعد مرور قرنين على عبور الأتراك لمضيق الدردنيل، واستيطانهم شبه جزيرة جاليبولي، الذي يعتبره لويس “أوَّل موطئ قدم لهم في أوروبا”. يُذكر كذلك أنَّ سيِّد البلقان، السُّلطان بايزيد الأوَّل، أو بايزيد يلدريم، أي الصاعقة، حاول قبل ذلك التاريخ بخمسين عامًا فتح المدينة المحصَّنة، لكنَّه فشل بسبب التدخُّل من جهة الغرب والإلهاء من جهة الشرق، ليموت عام 1403 ميلاديًّا، تاركًا الحُكم لابنه محمَّد الأوَّل، ليورث بدوره الحُكم لابنه مراد الثاني، ثمَّ يأتي الفتح على يد محمَّد الثاني، أول محمَّد الفاتح، ابن مراد الثاني، ابن محمَّد الأوَّل، ابن بايزيد الأوَّل. بدأ محمَّد الفاتح الحصار الأخير للمدينة الإمبراطوريَّة، التي بقيت في يد العالم المسيحي من أنقاض الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، إلى جانب مدن يونانيَّة صغيرة لم يكن في قدرتها منح الإمدادات في مواجهة الزحف العثماني. كان الجيش العثماني هائلًا، وقد انضمَّ إلى صفوفه 3 آلاف من المتطوِّعين الإيطاليِّين، وكان في عونهم أسطول صغير تموضع في القرن الذهبي، وهو شبه جزيرة في القسم الأوروبي من إسطنبول، وكان تحت حماية البحريَّة العثمانيَّة. يشير لويس إلى أنَّ تلك القوَّات كان يحمي ظهرها جيوش الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، التي امتدَّت وقتها من نهر الدانوب في شرق أوروبا، إلى أعالي نهر الفرات في آسيا الصغرى، ومن البحر الأدرياتيكي الذي يفصل شبه الجزيرة الإيطاليَّة عن شبه جزيرة البلقان، إلى البحر الأسود، الذي يقع بين الجزء الجنوبي الشرقي لأوروبا وآسيا الصغرى.

في 7 أبريل من عام 1453 ميلاديًّا، تمركز قوَّات السُّلطان محمَّد الثاني على طول أسوار القسطنطينيَّة على اليابسة، وفي يوم 11 من الشهر ذاته، اتَّخذت القوَّات وضع التصويب على الأسوار الحصينة، ليبدأ القصف في اليوم التالي، وعلى مدار 6 أسابيع متواصلة. في 21 أبريل، نقلت القوَّات أسطولها إلى القرن الذهبي، وبدأت مواجهات عنيفة بين جنود الجيش العثماني وحماة المدينة، حتَّى أنَّ الصدر الأعظم، خليل باشا، أعرب للسُّلطان الشاب في نقاش امتدَّ على مدار يومي 26 و27 مايو، عن ميله للإقلاع عن الحملة، التي كان يعارضها منذ البداية. بالطبع، عارَض السُّلطان الطَّموح التراجع، آمرًا بالمضي في القصف، وواعدًا جنوده بأنَّ المدينة ستكون لهم 3 أيَّام “للسلب والنهب، دون قيد أو عائق”، على حدِّ تعبير لويس، إذا ما نجحوا في إسقاطها (ص5).

تحمَّس الجنود، وخُصَّص يوم 28 مايو للاستعداد، ليبدأ الهجوم في أولى ساعات اليوم التالي، وكانت الهجمة الأولى لحشد من “الدهماء السهل التضحية بهم…كان أغلب من الأوروبيِّين”، ومنيت الهجمة بفشل محقَّق (ص5). تقدَّمت تلو ذلك قوَّات أناضوليَّة، أفضل تدريبًا واستعدادًا، ولكنَّها تراجعت في مواجهة الهجوم الدفاعي المضاد. حينها، اضطرَّ محمَّد الثاني إلى الهجوم بصفوة قوَّاته، من حرَّاسه، ورماته، ورامحيه، إلى جانب قوَّات انكشاريَّة تُقدَّر بـ 12 ألف مقاتل، وكان على رأس القوَّات الانكشاريَّة البطل التاريخي حسن الألوباطلي (Ulubatlı Hasan)، أو حسن طوبال. يسجِّل التاريخ موقف حسن طوبال البطولي، حينما تقدَّم إلى المدينة في زمرة من 30 مقاتلًا، وصعد إلى أعلى سور القسطنطينيَّة، مُسقطًا رايتها، ومستبدلها بعلم الدولة العثمانيَّة. ارتقى حسن شهيدًا بعد إصابته بـ 27 سهمًا، وكان لتضحيته الدور الأكبر في إحراز النصر؛ حيث تشجَّع الجنود، ودخلوا المدينة بعد سقوط سورها، ليبدؤوا “نهب المدينة الساقطة”، كمَّا يصف لويس الفتح الإسلامي للمدينة (ص6). في النهاية، سقط الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر باليولوج، آخر أباطرة الدولة البيزنطيَّة، ميتًا والسيف في يده، وهو يدافع عن مركز المذهب المسيحي الأرثوذكسي، ومعبر المسيحيَّة إلى أوروبا.

بعد ساعات من اختراق القوَّات العثمانيَّة حصون القسطنطينيَّة، دخل السُّلطان محمَّد “الفاتح” على ظهر حصانه، من بوَّابة عُرفت باسم “الباب العالي-توبكابي” (Topkapi)، وسار إلى أن وصل إلى آيا صوفيا، وهي كاتدرائيَّة أرثوذكسيَّة شرقيَّة عريقة، ويعني اسمها “الحكمة المقدَّسة“، وحينها أمر مؤذِّنًا بالصعود إلى منبر الكاتدرائيَّة ورفع أذان صلاة المسلمين. ويعلِّق لويس على ذلك بقوله “تحوَّلت الكاتدرائيَّة العظيمة إلى مسجد تركي، وفي مقرِّ الإمبراطور في القسطنطينيَّة، حَكَم السُّلطان من إسطنبول، التي ازدهرت وتألَّقت من جديد، بوصفها مركزًا لإمبراطوريَّة هائلة وحضارة عظيمة” (ص6). يستشهد لويس بتأريخ الخوجة سعد الدِّين، شيخ الإسلام، أو المفتي الأكبر للدولة العثمانيَّة، خلال عامي 1598 و1599 ميلاديًّا، لفتح القسطنطينيَّة، في بلورة الصبغة الإسلاميَّة المميِّزة للفتح العثماني للمدينة المسيحيَّة العريقة، في إشارة غير مباشرة إلى نظرة الإسلام السلبيَّة للمسيحيِّين ومعتقدهم. يقول شيخ الإسلام، الخوجة سعد الدِّين، “بفضل الجهود النبيلة للسُّلطان المحمَّدي، استُبدل القرع الخبيث لأجراس الكفَّار الوقحين إلى آذان الصلاة الإسلاميَّة، نداء الإيمان العذب المتكرِّر 5 مرَّات لأداء الشعائر المجيدة، لتتشنَّف آذان أصحاب الحرب المقدَّسة بلحن النداء إلى الصلاة. فُرِّغت الكنائس داخل المدينة من أوثانها الخبيثة، وطُهِّرت من النجاسات الدنسة والوثنيَّة. بطمس صورها، وتشييد محاريب الصلاة ومنابرها، أصبحت العديد من الأديرة والكنائس تنافس جنَّات عدنٍ. حوِّلت معابد الكفَّار إلى مساجد للأتقياء، وأجلَت أشعَّة نور الإسلام أشباح الظلام عن هذا المكان الذي آوى لدهر الكفَّار الحقراء…”. كما يقول لويس، سقط آخر حصن للعالم المسيحي جنوب شرق أوروبا، واحتلَّ موقعه قوَّة جديدة، هي “إمبراطوريَّة الأتراك المجيدة، المرهب الجديد للعالم”، على حدِّ قول كاهن بريطاني أواخر القرن السادس عشر الميلادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى