مقالات

أثر العلم في بناء الحضارات (3)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

القسم الثالث: المنهج المتكامل في دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية

سنكتب في هذا القسم، عن المنهج المتوازن المتكامل المطلوب، في توجيه (أو تأصيل، أو صياغة) العلوم الإنسانية والاجتماعية إسلاميا. مبتدئين باختلاف العلماء والمختصين المسلمين، حول نقطة الانطلاق في ذلك التوجيه. هل ينطلقون من العلوم الشرعية والمنهج الأصولي ( أي من النص). أم من العلوم الاجتماعية الحديثة والمنهج العلمي (أي من الواقع). وعليه فهناك اتجاهان: ا – الأول: أصحاب المنهج الأصولي. ب – أصحاب المنهج العلمي.

وما بين القطبين، هناك آراء تقترب من الأول، وأخرى تقترب من الثاني. على أن القطبين متفقان حول ضرورة توجيه الإسلام لتلك العلوم لتأخذ طابعه.

أ – الاتجاه الأول: أصحاب العلوم الشرعية، والمنهج الأصولي:

العالِم العربي المسلم، لا يُسلِّم بأن يكون مصدر المعارف كلها، هو الوجود المادي وحده، كما يفعل علماء الغرب، ويرى ضرورة ضم الوحي، ليكون مصدرا آخر للمعرفة. لذا لا يقيم وزنا كبيرا للعلوم الاجتماعية الحديثة لاعتبارين:

1 – ما يوجه الناس كأفراد وجماعات أو مجتمعات، في دنياهم وأخراهم، هو من اختصاص الوحي. وليس من اختصاص العلوم الاجتماعية الحديثة، بما تدعيه أنها تعتمد على حقائق، استخلصتها من دراسات على مجتمعات مختلفة. ذلك أن ما تصل إليه من تلك الحقائق والتصورات، إنما يعكس الانحرافات والاختلافات في تلك المجتمعات، كما يعكس ما تكون عليه من خلفيات وهدي.

والمجتمعات البشرية تختلف في قيمها ومعاييرها، فكيف يمكن ان يكون واقع تلك المجتمعات المدروسة معيارا عاما. والكلام نفسه في اختلاف الواقع ينطبق على الأفراد، أي لا يمكن اتخاذ سلوك الأفراد في مجتمع ما، معيارا عاما. وإذن لا بد من بوصلة تشير إلى نقطة معيارية ثابتة، يقاس إليها الواقع، وتلك النقطة المعيارية، لا يمكن إلا أن تكون ذات مصدر متعال على الناس وعلى المجتمعات. لأن المجتمعات الإنسانية ليست مصدرا للحقائق، وإن كانت مصدرا للمعلومات.

2 – العلوم الاجتماعية الحديثة، نشأت في ظروف الحضارة الأوربية الغربية، التي كان الصراع فيها على أشده، بين الكنيسة والعلم. مما انتهى بها الحال إلى نزعة مادية، تجسدت في المنهج الوضعي، المقتصر على الحس والتجربة، وإبعاد الوحي عن كل مناحي الحياة(1) واعتمادا على ما سبق، سجل أصحاب هذا الاتجاه، ملاحظات هامة على أصحاب المنهج

العلمي، كنا قد فصلناها في القسم الثاني، ولا بأس من التذكير بها هنا موجزة:

1 – اختلاف الظاهرة الطبيعية – التي يمكن عزلها عن سياقها الزماني والمكاني وقياسها – عن الظاهرة الاجتماعية، التي لا يمكن عزلها، ولا يمكن دراستها دون تأثير التصورات العامة للمجتمع.

2 – هناك ظواهر وحادثات اجتماعية  تقع تحت الحس والملاحظة والمشاهدة، وبالتالي يمكن دراستها وفق المنهج التجريبي. وظواهر أخرى ليست كذلك، ومجال دراستها فلسفة علم الاجتماع، وليس علم الاجتماع.

3 – لا يمكن تحييد القيم، وعلماء الغرب لم يستطيعوا تطبيق ذلك المبدأ.

4 – العلوم الاجتماعية الحديثة ليست محايدة، وإنما تحكمها خلفيات المجتمعات الغربية، كالرأسمالية والماركسية.

وأصحاب المنهج الأصولي، عندما يسجلون ملاحظاتهم على أتباع الاتجاه الثاني، لا يرون أن منهجهم الأصولي – كما هو ببنائه القديم، “علم أصول الفقه”- يصلح لدراسة العلوم الاجتماعية، دون تغيير وإضافات. ولذا قام البعض منهم، بمراجعات ونقد لذلك المنهج.

يقول الدكتور طه جابر العلواني: ” فإذا تقرر اتخاذ الوحي مصدرا للمعرفة، فلا بد أن يكون لدينا منهج نتعامل به مع هذا الوحي، الذي سيتناول ظواهر إنسانية واجتماعية (…) ونحن لدينا هذا المنهج [ علم أصول الفقه] يجب أن نفحصه وندرسه، وعلينا أن نُعمل عقولنا فيه، وأن نجتهد بأن لا ندع دليلا إلا ونبحث ماذا قيل فيه ومتى؟ وما هي ظروفه؟ وهل ينطبق أو لا ينطبق”.(2) وذلك يستدعي النظر، في شروط وأساليب الأصوليين. مثلا:

الاجماع: يصلح لأن يكون دليلا، يغطي مساحة من المساحات الخالية، في دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية، ولكن تعريف الأصوليين للإجماع، أفقد هذا الدليل معناه، حيث قالوا: الاجماع هو اتفاق جميع مجتهدي أمة محمد في عصر من العصور على أمر من الأمور. وهذا يستحيل تحقيقه.(3) ” إلا في الأساسيات التي جاءت بها النصوص، [كالصلاة والصيام]. وليس هناك حاجة لأي إجماع، أمام دليل النص، فالإجماع الأصولي هو مفهوم نظري أو أكاديمي بحت، لا يحتل في الحقيقة مصدرا يعتد به، ولا أسلوبا للعطاء الإسلامي والاجتماعي والسياسي والحركي “.(4) مثال آخر: الاجتهاد: عومل عند الأصوليين معاملة الإجماع، فشروط الاجتهاد وبالطريقة التي وصفها الأصوليون، يستحيل معها أن نجد مجتهدا. فلابد من إعادة النظر في الاجتهاد، ليكون مفهومه منسجما مع مقاصد الإسلام، ويمكن أن نتعامل به مع الظواهر المختلفة. أي يمكن أن ننشئ به فقها واقعيا، فالدراسات الاجتماعية المختلفة، تعد نوعا من

الواقع، والفقهاء أهملوا فقه الواقع، واقتصروا على الفهم اللغوي، فالحكم الشرعي: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وأركان الحكم: حاكم: هو الله سبحانه وتعالى، ومحكوم عليه، وهو المكلف أي الإنسان، ومحكوم به، أي الحكم. وقد دُرس الحكم، وعرف الحاكم في الفقه، ولكن المحكوم عليه، الذي هو الإنسان: طبيعته، قوته، ضعفه، أحواله عندما نتحدث عن رفع الحرج وعن التكاليف، وعن سد الذرائع، وعن المصلحة، أو عن الاستحسان، هذه كلها لا نستطيع أن نعرفها، دون أن نتعرف على هذا المحكوم عليه، أي الإنسان كفرد، أو أسرة، أو دولة، أو قيادة.

وهكذا جُمِّدَ الاجماع، كما جُمد العقل، وأُفقد أهميته كدليل، نتيجة كثرة القيود والضوابط، التي وضعت عليه بسبب ظروف استثنائية، مر بها العقل الإسلامي.(5)   فقد ” كان لبدء الصراعات السياسية في الدولة الإسلامية(…) وما ترتب عليه من العزلة، بين الزعامة السياسية، والزعامة الفكرية الإسلامية، أثره في تدهور عطاء الفكر الإسلامي، من الاجتهاد والمبادرة والابتكار، في مرحلة مبكرة من حياة الأمة “.(6) ” وانعكس ذلك على منهج الفكر الإسلامي وعلومه، التي انغمست في الدراسات الوصفية والنقلية والمنهج اللفظي، وما يتعلق به من علوم اللغة والأدب .” (7)   ” ولقد أدى هذا عمليا، إلى توزيع حياة الأمة إلى قسمين: أحدهما شخصي، وقد اهتم بهذا الجانب، الفكر الإسلامي ومنهجه، متمثلا في علمائه. والآخر عام، واستبد به الحكام والسلطات العامة، مع إهمال العلماء والمفكرين الإسلاميين وتجاهلهم، واتسمت نظرة هؤلاء إلى الحكام بالشك وعدم الثقة وانعدام الشرعية “.(8)  ” ونتيجة لهذا الانفصام والصراع، قامت معركة وهمية بين العقل والوحي، نجم عنها انفصام فكري خطير، بين علم العقيدة وعلم الفقه، وترك آثاره على العلاقة بين الدين والحياة الاجتماعية “.(9)

ومن مشاكل المنهجية في الفكر الإسلامي أيضا، قضية النسخ ” حيث يثبت الحكم للنص اللاحق، بغض النظر عن الحال والزمان، الذي يتعلق به البحث والدراسة. ومفهوم النسخ التقليدي بمعنى التعارض والإلغاء، إنما يعكس منهجا يصدم حس الدارس والمفكر الإسلامي، حيث يتعرض لمبادئ أساسية في الوحي والرسالة بالإلغاء، وفي هذا إلغاء لمعنى الرسالة وأبدية توجيهها، ودفعها إلى أضيق السبل “.(10)  على أن ” مجرد تعارض الأحكام والنصوص الظاهرة، لا يعني بالضرورة النسخ والإلغاء. وإنما يعني أن الحياة الإنسانية في أوضاعها المختلفة، تحتاج مواقف وأحكام مختلفة “.(11)  وتُعتبر آية السيف مثالا للنسخ التقليدي”  الذي أثر سلبيا على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، حيث نزلت آية السيف، لقتال المشركين لإصلاح حالهم وتهذيب نفوسهم، ويرى البعض: أنها نسخت ما قبلها من آيات التسامح مع المسالمين من غير المسلمين، (…) فيصبح تضييق مفهوم العقيدة هو القاعدة “.(12)

الاتجاه الثاني: اصحاب العلوم الحديثة، والمنهج العلمي:

هؤلاء ينطلقون من مناهج العلم التقليدي، في التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية. أي يعتمدون منهج الاستقراء، ( والاستقراء هو الانتقال من الجزئيات إلى الكليات، في بناء النظرية)،ويعتمدون أدواته، من ملاحظة، وإحصاء، واستبيان، وتجربة .. أي ينطلقون من الواقع الإنساني، وبذلك يختلفون عن أصحاب الاتجاه الأصولي، الذي يستنبط نظرياته انطلاقا من النصوص.

ويرى أصحاب هذا الاتجاه ( أي العلمي ): أن أصحاب المنهج الأصولي، يعتبرون أن التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، يقتضي إحلال مصادر ومناهج العلوم الشرعية، محل مصادرهم ومناهجهم العلمية. وهو أمر مردود علميا – بتقديرهم – لأنه يعني: ترك العلوم الاجتماعية ودراستها المدققة، ونتائجها المحققة، واستبدالها ب ” تأكيدات ” يزعم أصحابها، أنها تمثل وجهة نظر الإسلام، دون التحقق منها واقعيا. كما ويطلب من الباحثين أن يسلموا أنها دين.

كما يرى أصحاب الاتجاه الثاني (المنهج العلمي): أن تبني نموذج العلوم الشرعية، في التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، يعني تحويل تلك العلوم، إلى مواعظ وخطب، تدور حول الدعوة إلى فعل أشياء، والنهي عن فعل أشياء أخرى، على أساس معياري، دون دراسة علمية. ويذهبون إلى أن لديهم تراثا متراكما، من نتائج العلوم الاجتماعية، أنتجته أجيال من الباحثين. وثروة وافرة من مناهج البحث، وأدوات القياس، التي جُربت على مدى السنين حتى اشتد عودها، وثبتت قيمة الكثير منها. والباحث المسلم، لا يمكن أن يتجاهل وجود هذه النتائج والمناهج جملة واحدة، أو يتخذ منها موقفا رافضا من البداية، لأن ذلك يعني إهدارا لجهود وتراث، شارك المسلمون اصلا في نشأته الأولى. كما يعني أن نبدأ من فراغ، أو أن نبدأ من النقطة، التي توقف فيها إبداع العقل المسلم عن العطاء، منذ بضعة قرون.

ويؤكدون (أي أصحاب الاتجاه الثاني): أن العلوم الاجتماعية الحديثة، كانت تقوم بتصحيح ذاتي، خلال مسيرتها الطويلة، الأمر الذي أوجد لديها، نوع من النقد الداخلي، للمناهج التي اتبعتها، والنتائج التي أعطتها. ويمكن الاعتماد على تلك الفكرة، (أي التصحيح والنقد الذاتيين) عند من اكتسبها من علماء المسلمين، في متابعة ترقية تلك العلوم ومناهجها. (13)

يزعم أتباع الاتجاه الثاني: أن أهداف العلم عامة، ومنها الإنسانية والاجتماعية، هي معرفة مخلوقات الله، والكشف عن سننه، لاستثمارها في ترقية الحياة وتسهيلها،. ولا يتم ذلك إلا بالاعتماد على الأساليب الواقعية ومنها: أ – الوصف. ب- التفسير. كما يشير إلى ذلك الدكتور فؤاد أبو حطب في بحثه: معالم الوجهة الإسلامية لعلم النفس.

الوصف: يمكن استعمال الوصف، في التعرف على آيات الله في خلقه، في الآفاق والأنفس بأساليب قرآنية مختلفة، منها: الأمر المباشر (قل انظروا ماذا في السموات والأرض ..) يونس (101) ومنها الحض الجميل (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ..) الغاشية (17 – 20) ومنها التقرير القاطع ( (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ..) الأعراف (185)والتعرف على آيات الله في خلقه، على مستوى العلم المتخصص، لا يتحقق إلا بالوصف الجيد الدقيق، ولذا احتل الوصف مكانة أولى بين أهداف العلم في الإسلام. ومن الملاحظات الجزئية المباشرة وغير المباشرة، يمكن أن يترقى الوصف، إلى مستوى من التعميم، يشمل ما يسمى بناء المفاهيم. وهو منهج الاستقراء، أي الانتقال من الجزئيات إلى التعميم والكليات.

التفسير: يمكن استعماله في الكشف عن سنن الله في الكون والنفس والمجتمع، وقد أورد القرآن الكريم أمثلة منها، وحث على استخدام وسائل المعرفة المختلفة، في الكشف عن المزيد منها، فمثلا عن السنن المتصلة بالنفس (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ..) الروم (54). ( .. ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم .. ) النور(58). (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ٌقال ربي أوزعني ..) الأحقاف (15). ويمكن القول: أن تاريخ العلم، ما هو إلا محاولات تراكمية متتابعة، للكشف عن هذه السنن الإلهية، باستخدام أفضل الطرق في كل عصر. ولما كانت وسائل المعرفة والبحث عند الإنسان – عقله وحواسه – محدودة، ومناهجه قاصرة، وأدواته ناقصة، كان عجزه عن الكشف بيقين كامل، وبموضوعية مطلقة، عن سنن الله واضحا. وكل ما تعينه عليه هذه الوسائل والمناهج والأدوات، أنها توصله إلى ما نسميه قوانين العلم, وهذه القوانين ماهي – بلغة فلاسفة العلم – إلا مقاربات وإسقاطات غير كاملة لسنن الله، على المستوى المعرفي. وهي لا تتطابق تماما مع هذه السنن، بحكم التحسن التدريجي، الذي يطرأ على القوانين العلمية النسبية الاحتمالية – كعمليات بشرية -، في مقابل الثبات البديهي المطلق لسنن الله – كقوانين إلهية -. وعندما يحقق العلم هدف التفسير، فإن ذلك يمكِّن الإنسان من القدرة على التنبؤ والتحكم. والإنسان في تعرفه على آيات الله بالوصف، والكشف عن سننه بالتفسير، يستخدم ما زوده الله سبحانه به من نعم، وخاصة الحواس والعقل. (14)    

ضرورة التوجيه الإسلامي عند أصحاب العلوم الاجتماعية الحديثة: يرى أصحاب هذا الاتجاه: أنهم مقتنعون بأهمية التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ولكن بناء على منهجية واقعية، يرسمونها كما يلي: أ – تنطلق من النتائج المحققة، والمناهج الشائعة الاستخدام، في العلوم الاجتماعية في أرقى صورها. ب- وتضع أمام ناظريها اعتبارين: الأول: أن يكون النقد الموجه إليها، صادرا من داخل النموذج. الثاني: تقيم أهمية كبيرة للتحفظات عليها، والصادرة من التصور الإسلامي. ويشرحون تلك المنهجية، وفق النقاط التالية:

1 – اعتماد نتائج ونظريات العلوم الاجتماعية الحالية كما هي، مع إثبات أوجه النقد المثار حولها من الداخل. 2 – استبدال المصطلحات الحديثة، ببدائلها الإسلامية الواردة في القرآن والسنة. 3 – الاهتمام بالدراسات التراثية، التي تمثل إسهامات علماء المسلمين تاريخيا في كل التخصصات. 4 – إيضاح الرؤية الإسلامية لمشكلات العالم الإسلامي، واستخدام المعارف المتخصصة في إيجاد الحلول لها. 5 – تحديد الأنماط المعيارية للسلوك الفردي وللتنظيمات المجتمعية، وفق المصادر الإسلامية، لاتخاذها معيارا تقاس عليه ألوان السلوك الفردي والاجتماعي. (15)

 المنهج المتوازن المتكامل المطلوب في دراسة العلوم الاجتماعية:

تتم عملية بناء ذلك المنهج، بدلالة الشروط التي يقتضيها التوجيه الإسلامي للعلوم والمعارف، أو ما تسمى أيضا بعملية (التأصيل الإسلامي، أو الصياغة الإسلامية )للعلوم والمعارف والمتضمنة: 1 – تحديد أبعاد التصور الإسلامي الشامل للإنسان، والمجتمع، والوجود، مُستخلَصا من المنابع الرئيسية للمنهج الإسلامي، في الكتاب والسنة الصحيحة، مع الاستفادة من اجتهادات علماء المسلمين، من السلف والمعاصرين، المستمدة من نفس تلك المنابع. 2 – حصر البحوث العلمية المحققة في نطاق العلوم الاجتماعية الحديثة، وتحليلها وإخضاعها للتمحيص والنقد في ضوء مقتضيات ذلك التصور الإسلامي، من حيث الموضوع والمنهج. 3 – بناء نسق علمي متكامل من نتائج العلوم الحديثة، وما صمد أمام التمحيص والنقد من نظرياتها، ويُربط بينها وبين ما توصل إليه علماء المسلمين برباط تفسيري، مستمد من التصور الإسلامي، للإنسان والمجتمع والوجود. 4 – وهناك من يضيف بندا آخر هو: استنباط فروض مستمدة من ذلك النسق بعد تكوينه، وإخضاعها للاختبار على أرض الواقع، للتأكد من صدق الاجتهاد البشري. (16)

المنهج المتوازن:  “يقول الدكتور سيد أحمد عثمان: ” إن في تلك العلوم [الاجتماعية الحديثة] من القوة والنضج، بقدر ما فيها من الوهن والغرارة، فما الموقف منها ؟ هل نقيم بيننا وبينها – ابتداء – حجابا من العداء (…) أم نقبل عليها لنتعرف على ما فيها من نضج، فنفيد منها في إثراء نظرتنا العلمية الإسلامية، وفي تقويم منهجنا البحثي الإسلامي في العلوم الاجتماعية، ثم لنكون على بينة بما فيها من وهن (…)، فنحرص على تعويض ما يمكن تعويضه من وهنها من جانبنا، إن كنا نستطيع “. (17)  يلاحظ من قول الدكتور سيد: دعوة للتفاعل بين المنهجية الأصولية والعلمية، لإنشاء منهج متكامل بينهما – خاصة بعد ما عرضنا آنفا من نقد وتصحيح داخليين للمنهجين كليهما – يتعامل بكفاءة مع مصدري المعرفة: الوحي والوجود. 

يقوم ذلك المنهج المتوازن للعلوم الإنسانية والاجتماعية، على تكامل جناحين:

الأول: منهج العلوم الشرعية (المنهج الأصولي) في صورته الموسعة. الثاني: منهج العلوم الاجتماعية الحديثة (المنهج العلمي) في صورته المعدلة.

وذلك بتوسيع كل من المنهجين لحدود ولجوهر رسالته، بحيث يهتم علم أصول الفقه أكثر بأصوله الفرعية (كالاستحسان، والمصلحة المرسلة، الاستصحاب ..) بما يمكن من تخطي النظرة الجزئية، إلى النظرة الكلية في ضوء ما عليه روح الشريعة، وذلك ليساعد على تغطية المساحات الخالية، المتصلة في الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تهم الناس. أما المنهج العلمي للبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فعليه إعطاء مساحة أوسع لدراسة النواحي الروحية والاعتقادية، في تأثيرها على سلوك الأفراد وتنظيم المجتمعات، مع تخطي النظرة الحسية (الأمبريقية)، إلى الآفاق الأرحب للنظر للإنسان بكليته، والنظر للواقع الفردي والاجتماعي في إطار النظرة المعيارية، المنطلقة من التصور الموحد.

وبعبارة أخرى: فإن التعديلات الجوهرية، التي لابد من إحداثها، عند اعتماد منهجية العلوم الحديثة كجناح ثان، لعلم اجتماع متوازن، هي: إفساح المجال لدراسة عالم الغيب، المتضمن الجانب الروحي للإنسان، بالرجوع إلى مصدر المعرفة الأساسي وهو الوحي، دون الاقتصار على عالم الشهادة والحواس. من جهة أخرى: إن طبيعة الإنسان والمجتمع الإنساني، لا تجدي فيها دراسة ما هو كائن فقط. ولا بد لفهمها من بعد معياري متعال عن البشر، وأن يكون سند الوصول إليه سندا صحيحا موثوقا. (18)

في الختام: لما كانت العلوم الإنسانية والاجتماعية، تبحث في سلوك الفرد والجماعات، وتكشف أثر القوانين الناظمة للمجتمع، في كل شُعب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية.. وترصد الظواهر الشاذة فيها، لتوجد لها الحلول. فإن دراسة تلك العلوم والتخصص بها، لا يكون من باب الترف الفكري والثقافي، وإنما من صلب اهتمام المفكرين والعلماء والمسؤولين. لأن إهمال تلك الدراسة، يفسح المجال للآخر كي يتناولها وفق مناهجه هو، ويوظفها بما يخدم أهدافه.

ولقد لعبت الحداثة الغربية، بما لديها من مناهج وأبحاث، دورا كبيرا في تسيير دفة تلك العلوم. كما أصبح لتلك الحداثة الصوت الأعلى في العالم، ومنه وطن العروبة والإسلام ” فلقد أضحت [الحداثة] بعد قرن ونيف من المحاكاة والمعايشة، جزءا من واقع المجتمعات المسلمة، وأن لا طريق لتجاوز مأزق الحداثة، إلا من خلال النقد البناء، والحوار المنفتح، والعمل الدؤوب، لنتبين ما هو إنساني عام، مما هو تاريخي لصيق بالمجتمع الغربي “. (19)  فحل الأزمة كما يقول الدكتور فؤاد أبو حطب: ” بالتخلي عنها قد يكون سهلا، إلا أن الحلول السهلة، ليست بالضرورة صحيحة، لأن الحل الصحيح، يتطلب جهدا إيجابيا في التشخيص ثم العلاج “. (20)

ثم إن الحضارة العربية الإسلامية، ليست متطفلة على الحضارة الإنسانية، – ومنها الحداثة الغربية – بل مساهم فعال فيها، يشهد على ذلك جامعات الأندلس، وما أعطته لأوربا من علم، كان أساسا في بناء مناهجهم التجريبية وحضارتهم. وعليه فالفكر الإسلامي، يجب أن ” يتعامل

بثقة وهدوء مع النتاج الحضاري الحداثي، يأخذ منه ما يأخذ، ويرفض ما يرفض، عبر منهجيات علمية نقدية، وبعيدا عن الجنوح العاطفي، ومن هنا كان الرفض المبدئي لكل ما هو غربي أو حداثي، موقف متطرف غير مقبول “. (21) على أن يتم التعامل مع ذلك النتاج، وفق تصور بخطين عامين: الأول: ملاحظة ” القصور في المنهجيات المعرفية التراثية (…) بمعنى أن المنهجيات التراثية، لا تمتلك طرائق التحليل الاجتماعي المنضبط، وفق أسس علمية صارمة. فالمعرفة الاجتماعية المرتبطة بالخبرة الإنسانية، في الفكر التراثي، غالبا ما تعتمد الحواس لا البرهان أساسا لها، وبالتالي لا تأخذ شكل دراسات تحليلية ذات ضوابط محددة وإجراءات منهجية “. (22)  الثاني: ملاحظة ” القصور في المنهجيات المعرفية الغربية، وينبع هذا القصور أساسا، من النزعة الوضعية للفكر الغربي. فالفكر الوضعي يتنكر للبعد العلوي للمعرفة، وينكر العلاقة الوطيدة بين العلوي والوضعي “. مما أدى إلى التشرذم المعرفي ” فالمعرفة الحداثية قد قسمت الحياة الإنسانية إلى دوائر تخصصية مثل: الاقتصاد والسياسة والنفس والاجتماع..، ولكنها حرمت هذه الدوائر، من الناظم التركيبي القادر، على تحقيق ترابط معرفي بينها. وغياب الناظم التركيبي على مستوى الفعل، يوافقه غياب مشابه على مستوى الوعي والنظر .. ” (23)


   المراجع:

1 – ينظر للتفصيل د. إبراهيم عبد الرحمن رجب: بحث: منهجية التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، ندوة التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة 1997، ص 34 – 35

2 –  د. طه جابر العلواني: نحو منهجية معرفية قرآنية، دار الهادي، ص 345

3 – د. طه جابر العلواني: المصدر نفسه، ص 343

4 – د. عبد الحميد أبو سليمان: قضية المنهجية في الفكر الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص6

5 – د. العلواني: مصدر سابق، ص 343

6 – د. أبو سليمان: مصدر سابق، ص7

7 – د. أبو سليمان: مصدر سابق، ص8

8 – د. أبو سليمان: مصدر سابق، ص8

9 – د. أبو سليمان: مصدر سابق، ص8

10 – أبو سليمان: =   ص9

11 – أبو سليمان: =   ص9

12 – أبو سليمان: =  ص9

13 – د. إبراهيم عبد الرحمن رجب: مصدر سابق، ص37 – 38

14 – د. فؤاد أبو حطب: معالم الوجهة الإسلامية لعلم النفس، مجلة المسلم المعاصر، العدد64

15 – د. إ براهيم رجب: المصدر نفسه، ص38

 16– إبراهيم رجب: مصدر سابق، ص26     

 17– والنقل عن د. إبراهيم رجب: المصدر نفسه

18 – ينظر للتفصيل، د. إبراهيم رجب: المصدر نفسه، ص49- 51

19 – د. لؤي صافي: بحث: الفكر الإسلامي ومأزق الحداثة، موقع تأملات

20 – د. فؤاد أبو حطب: المصدر نفسه

21 – د. لؤي صافي: المصدر نفسه

22 – د. لؤي صافي: الصدر نفسه

23 – د. لؤي صافي: المصدر نفسه       

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى