غير مصنف

مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم وأنواعه

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

من خصائص القرآن الكريم: الإعجازُ، فهو المعجزةُ الكبرى لمحمّد صلى الله عليه وسلم؛ التي لم يتحدّ العربَ بغيرها، برغم ما ظهر على يديه من معجزات لا تحصى.

1 ـ تعريف المعجزة:

أمرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالتحدّي، سالمٌ من المعارضة، يظهِرُه اللهُ على يد رسله.

2ـ شروط المعجزة:

ومن خلال التعريف السابق للمعجزة نستطيعُ أن نتلمس شروطها:

أ ـ أن تكون من الأمور الخارقة للعادة: مثل عدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعدم إغراق الماء لموسى عليه السلام وقومه، وعدم سيلانه عليهم، ومثل القرآن الكريم.

ب ـ أن يكون الخارقُ من صنع الله وإنجازه، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ *} [غافر: 78].

ج ـ سلامتها من المعارضة.

د ـ أن تقع على مقتضى قول من يدّعيها.

هـ. التحدي بها.

و ـ أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله عز وجل.

زـ تأخر الأمر المعجز عن دعوى الرسالة.

وقد توافرت هذه الشروط في إعجاز القرآن.

3ـ القرآن الكريم هو المعجزة العظمى:

لمّا زعم المشركون أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي ألَّف القرآن، قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ *أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ *}

 [الطور: 33 ـ 35].

ثم تحداهم بعشر سور: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [هود: 13 ـ 14].

ثم تحدّاهم بسورة واحدة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *} البقرة: 23 ـ 24].

وقال تعالى أيضاً: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [يونس: 38].

فعجزَ جميعُ الخلق أن يعارضوا ما جاء به، ثم سجَّل على الخلق جميعاً العجزَ إلى يوم القيامة بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء: 88].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياءِ نبيٌّ إلا أُعطِيَ من الآيات ما مِثْلُه امنَ عليه البَشَرُ، وإنّما كان الذي أوتيتُه وحياً أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أَنْ أكونَ أكثرَهم تابعاً يوم القيامة».

إنَّ معجزاتِ الأنبياء تتماثلُ من حيث إنّها حسية ومخصوصة بزمنها، أو بمن حضرها، أو منقرضة بانقراض من شاهدها.

أمّا معجزةُ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي القرآن الكريمُ، الذي لم يعطَ أحدٌ مثله، وهو

أفيدُها وأدومُها، لاشتماله على الدعوة والحجة، واستمرار تحديه في أسلوبه وبلاغته ومعانيه وأخباره، وعجز الجنُّ والإنس عَنْ أن يأتوا بسورةٍ مثله مجتمعين أو متفرّقين في جميع الأعصار، مع اعتناء معارضيه بمعارضته فلم ولن يقدروا، فعمَّ نفعه مَنْ حضرَ ومَنْ غاب، ومن وُجِدَ ومن سيوجَدُ إلى اخر الدهر، ولذلك فإنَّ محمّداً صلى الله عليه وسلم أكثرُ الأنبياء أتباعاً.

هذا شرحٌ للحديث على وجه الإجمال، وأمّا أسباب اختصاص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء بهذه المعجزة الظاهرة، فيبيّنها محمود الألوسي فيقول: لثلاثة أسباب صار بها مِن أخصِّ إعجازه، وأظهر آياته:

أـ إنّ معجِزَ كل رسولٍ موافِقٌ للأغلب من أحوال عصره، والشائع المنتشر من ناس دهره، فلمّا بُعِثَ نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم في عصر الفصاحةِ والبلاغة خُصَّ بالقرآن في إيجازه وإعجازه، بما عَجَزَ عنه الفصحاءُ، وأذعن له البلغاءُ، وتبلّد فيه الشعراء، ليكونَ العجزُ عنه أقهر، والتقصيرُ فيه أظهر، فصارت معجزاته -وإن اختلفت- متشاكلةَ المعاني، مختلفةَ العلل.

ب. إنّ المعجزةَ في كلِّ قومٍ بحسب أفهامهم، وعلى قدر عقولهم وأذهانهم.. والعربُ أصحُّ الناس أفهاماً، وأحدّهم أذهاناً، فخُصّوا من معجزات القرآن بما تجول فيه أفهامهم، وتصل إليه أذهانهم.

ج. وهذه المعجزةُ جمعت بين الدليل لما فيه من الإعجاز وغيره من وجوه الدلالة، وبين المدلول بما فيه من بيان الإيمان وأدلته، وبيان الأحكام الشرعية والقصص والأمثال، والوعد والوعيد، وغير ذلك من علومه التي لا تَنْحَصِرُ، ثم جُعل مع حفظه وتلاوته من أفضل الأعمال التي يُتقرّب بها إلى الله تعالى، ولهذا توفّرت الدواعي على حفظه على مرّ الدهور والأعصار، ففي كل قرن ترى مِنْ حفظتِه ما يفوتُ العدَّ والإحصاء، ويستنفد نجوم السماء، ومثل ذلك لم يتفق لغيره من الكتب الإلهية المقدسة.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «فأرجو أنْ أكونَ أكثرَهم تابعاً» آيةٌ من آيات نبوته، كما قال النووي: فإنّه أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا في زمن قلة من المسلمين، ثم منَّ الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد، وبارك فيهم، حتى انتهى الأمر، واتسع الإسلام في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة، ولله الحمدُ على هذه النعمة وسائر نعمه التي لا تحصى.

4. توضيح هذا الإعجاز:

ـ بيان حال محمد صلى الله عليه وسلم:

إن وضعه صلى الله عليه وسلم من الناحية العلمية معروفٌ عند المشركين، فهو:

أ ـ بشر مثلهم، وليس من جنس اخر.

ب ـ أميٌّ، لا يقرأ ولا يكتب.

ج ـ تجاوزَ الأربعين، ولم يكن معروفاً قبلَ ذلك بالخطابة، ولا بالشعر، ولا بالرئاسة في مجالِ الكلام، بل كان يعملُ بمجالٍ بعيدٍ عن الكلمة، وهو التجارة، ولم يُحفظ عنه قبلَ البعثةِ أثرٌ يدل على إنشائه لقصيدة، أو حتى خطبة نثرية.

د ـ أنّه صلى الله عليه وسلم أتى بكتابٍ نسبه إلى الله، أجمعَ العربُ على فصاحته وبلاغته وحسن نظمه، واشتماله على علوم شتى، وآداب تتري.

5. وقوع التحدي بهذا الكتاب:

أ ـ إن هذا التحدي قائم في وجه كلِّ معارض للرسول صلى الله عليه وسلم.

ب ـ التحدي بأن يأتوا بسورةٍ من مثله.

ج ـ وللمعارض أن يستعينَ بمن شاء من أعوانٍ وشهداءَ سواء كانوا من الجن، أو من الإنس، أو من الجن والإنس مجتمعين معاً.

6. وجود دواعي التحدي:

أ ـ العرب أهل فصاحةٍ وبلاغةٍ وبيانٍ.

ب ـ إن معارضي الرسول صلى الله عليه وسلم أهلُ عداوةٍ عظيمةٍ له.

ج ـ وهم حريصون أشدَّ الحرص على إبطال دعوته بأيِّ وسيلة، ومن أيِّ طريق.

7. نتيجةُ التحدّي:

 صدقُ نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم: عجزوا غاية العجز عن الإتيانِ بسورة من مثله، ولو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن لفعلوا، ولكنّهم لم يقدروا، إذ كلامُ الفقير الناقص الجاهل لا يكون أبداً مثل كلام الذي له الكمالُ المطلق، والغنى المطلق، والقدرة المطلقة، والعلم المطلق، فكما أنَّ الله ليسَ كمثله شيءٌ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فبالضرورة ليس لكلامه مثيلٌ ولا شبيهٌ، ولا يشتبه كلامه بكلام المخلوقين إلا على من اختلّ عقله، وغابَ فؤاده، وهذا برهانٌ ساطعٌ ودليل قاطعٌ على صحة ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ويبقى على مَنْ عجزَ عن هذا التحدي قراران لا مفرَّ من اتخاذ أحدهما:

1ـ إمّا أن يؤمن بأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم رسولٌ من الله، وأنَّ القرآنَ -حقّاً – كلامُ اللهِ، وهذا هو مقتضى العقل، وسبيلُ الفطرة السليمة، وطريقُ الناجين في الدنيا والآخرة.

2ـ وإمّا أن يعانِدَ، وهو يعلمُ من نفسه أنَّ القرآن حقٌّ، وهذا سبيلُ الجاحدين، ومقتضى الجهل والعناد، وأصحاب النفوس المريضة، والقلوب السقيمة، وطريق الخاسرين في الدنيا والآخرة.

وقد كان هذا التحدي سبباً في إسلام الكثيرين؛ لأنَّ القرآن بهذه الاستثارة للعقول والألباب والقلوب يدعو للتفكر في القرآن بشكل أكبر، ويجعل الإنسان الشاك يتدبَّر أكثر وأكثر، حتى يصلَ إلى النهاية المحمودة إذا كان من يبحثُ عن الحق متجرّداً من الهوى.

8. وجوه إعجاز القرآن:

قد كتب العلماءُ البلغاءُ قديماً وحديثاً حول «إعجاز القرآن» ووجوهِ هذا الإعجاز، وأُلّفت في ذلك كتب

شتَّى، فمنهم من عُنِيَ بإخباره بالغيوب، ومنهم من عُنِيَ بالنظم والعبارة والأسلوب، أو ما يسمى

«الإعجاز البياني»، وقد كتب فيه القدماء مثل الباقلاّني، والرُّماني، والخطّابي، والجُرجاني، والفخر الرّازي، وغيرهم، وكتب فيه المحدَثون، مثل: مصطفى صادق الرافعي، وسيد قطب في كتابه «التصوير الفني في القرآن» ومثله «مشاهد القيامة في القرآن» وطبَّقه في تفسيره «في ظلال القرآن»، وكتاب الدكتور بدوي طبانة «بلاغة القرآن»، والدكتور محمد عبد الله دراز «النبأ العظيم»، ومنهم من عُنِيَ بالإعجاز التشريعي أو الإصلاحي الذي جاء به القرآن، كما فعل الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه «الوحي المحمَّدي» حيث جدّد التحدي بالقرآن، وبيّن المقاصدَ التي جاء القرآن ليحققها في الحياة، وأنّه يستحيلُ أن يأتيَ بها رجلٌ أمي في أمة أمية، وقد فاقت كل ما جاء به الفلاسفة والمصلحون، ومثل ذلك: المقالات التي كتبها العلامة محمد أبو زهرة في مجلة «المسلمون» الشهرية المصرية، تحت عنوان: «شريعةُ القرآن دليلٌ على أنّه من الله».

وفي عصرنا ظهر نوعٌ جديدٌ أُطلق عليه الإعجاز العلمي، ويقصد به: ما تضمنه القرآن من إشارات ودلالات على حقائق علمية كانت مجهولةً للناس في وقت نزول القرآن، وتعتبر سابقةَ لعصرها، ولا تتصوّر أن تصدرَ من رسول أمي في بيئة أمية، وفي عالَمٍ لا يعرف عن هذه الحقائق شيئاً، واشتهر في هذا الميدان كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور زغلول راغب محمد النجار.

وقد لخّص الدكتور زغلول النجار جوانبَ الإعجاز القرآني فقال: وتتعدّد جوانبُ الإعجاز القرآني: بمعنى عجز البشر عن الإتيان بشيء مثله بتعدد الزوايا؛ التي ينظر منها إنسانٌ محايد إلى كتاب الله، ومن هذه الجوانب:

.الإعجاز اللغوي، الأدبي، البياني، البلاغي، النظمي، اللفظي، والدلالي.

ـ الإعجاز العقدي «الاعتقادي».

ـ الإعجاز التعبدي «العبادي».

ـ الإعجاز الأخلاقي.

ـ الإعجاز التشريعي.

ـ الإعجاز التاريخي.

ـ الإعجاز التربوي.

ـ الإعجاز النفسي.

ـ الإعجاز الاقتصادي.

ـ الإعجاز الإداري.

ـ الإعجاز التنبؤي.

ـ الإعجاز العلمي.

ـ إعجاز التحدي للإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بشيء من مثله في أسلوبه، أو مضمونه أو محتواه، دون أن يتمكن أحد من ذلك.

المصادر والمراجع:

  • جلال الدين السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، (4/3).
  • د. علي محمد الصلابي، سلسة أركان الإيمان: الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، ص 41-48.
  • د. ثامر بن ناصر، رسالة خاتم النبيين محمد، ص 155.
  • مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، ص 18.
  • يوسف القرَضاوي كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص 32.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى