مقالات

رُخص شرعية للطقوم الطبية

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

في الوقت الذي لا يزال فيه وباء كورونا يحصد مئات الأرواح في العالم ، دون تفريق بين كبير ولا صغير ، ولا شيخ ولا شاب ، ولا مؤمن ولا كافر ، بقي جدل إغلاق المساجد وتعليق الجماعات والجمعات ، بين كثير من فقهاء وأساتذة الشريعة قائما بل ومحتدّا في بعض الأحيان ، بل ربما تحول هذا الجدل الذي لم يتوقف الى تبادل للشتائم وطعن في النيات ، وتقاذف بعبارات الثلب والسب ، فالذين يرون جواز إغلاق المساجد يقذفون المعارضين بالتشدد والغلو، والمعارضون يقذفون الآخرين بتمييع الدين ورقة التدين ، أو بأنهم انطوت عليهم حيل الساسة في هذا القرار ، إذ أنهم يعتبرونه ضربا من ضروب الصد عن سبيل الله ، و إعلانا للحرب على الإسلام !! نظرا لأزمة الثقة بين الشعوب والحكام من جهة ،و من جهة أخرى وجود احتمال المؤامرة !!
وقد شغل هؤلاء جميعا مع الأسف عمّا هو أهم و أعظم وأخطر ، فلا يُتباحث في ما يصاحب هذه الأزمة الخانقة من أحكام فقهية ضرورية ، كحالة قلة المعدات ، خاصة أجهزة التنفس الاصطناعي و كثرة المصابين ،هل يقدم الصغير على الكبير ، و صالح الحال ظاهرا على غيره ، أم ماذا ؟
ولا يُتباحث في مسألة إخراج الزكاة للمستشفيات الخاصة والعامة ، هل تدفع أم لا تدفع ؟
ولا يُتباحث في كيفية الخروج من الأزمة من الناحية الاقتصادية ، وما ذا يقول الاسلام في ذلك بعد المسائل الروحانية المعروفة من الدعاء والضراعة إلى الله ، و حسن الظن به .
وارتأيت في هذا المقال أن أتكلم عن رجال ونساء سخروا حياتهم لإنقاذ الناس ، والقيام على معالجتهم و مداواتهم ،إنهم الذين يقفون على خط النار كما يقال ، إنهم الطقوم الطبية ، سواء كانوا من الأطباء أم من الممرضين ، فهؤلاء يحتاجون إلى مجموعة من الأحكام الشرعية التي تتوافق مع ما هم فيه من هذه المحنة العظيمة وبالله التوفيق :

1 – أرى أن الحكومات يجب عليها أن تكفي هذه الطقوم ماديا ومعنويا ، برفع أجورهم لكفايتهم همّ الحياة بما يخول لهم القيام بهذه المهمة في أحسن الظروف .

2 – يجب على الحكومات توفير كل وسائل الوقاية من الكمّامات ، والجال المطهّر ، و الملابس الوقائية ، لأنهم أكثر الناس عرضة للعدوى .

3 – ينبغي على الجمعيات الخيرية ، و ذوي المال ، أن يقدموا المساعدات المالية والمعنوية لكل هذه الطقوم ، كما يجوز دفع الزكاة المفروضة للمستشفيات والمصحات في هذا الظرف ، ولو بتقديمها عن وقتها ، لأن إنقاذ حياة الإنسان من الضروريات التي اعتبرها الشرع ، وأولاها اهتماما أوّليا ، وإذا كانت الزكاة تعطى للفقير الذي لا يجد حاجياته من طعام و شراب وثياب فكيف بانقاذ الناس من الموت ؟؟
وتقديم الزكاة عن وقتها اذا اكتمل النصاب ، هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد تعجل زكاة عمه العباس بن عبد المطلب) والحديث في الصحيحين .

4 – ينبغي على جيران هؤلاء الأطباء والممرضين، أن يكونوا بجانب أهاليهم ، بالتفقد و مدّ يد المساعدة ، وكذلك مع أهالي المرضى ، فالمسلمون كالجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، و لذا لما مات جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم ) حديث صحيح .
وهذا يقاس عليه كل ما يشغل أهالي المصابين أو المنشغلين بهم .

5 – يجوز للطقوم الطبية والتمريضية الجمع بين الصلاتين ، بين الظهر والعصر ، في وقت إحديهما ، وبين المغرب والعشاء في وقت إحديهما بل الى طلوع الفجر كما هو قول جمهور العلماء ، و الجمع لا علاقة له بالقصر ، لأن قصر الصلاة شرع في السفر ، فمن كان منهم مسافرا جاز له الأمران .

6 – الأصل أن الإنسان يجب عليه أن يتوضأ باستعمال الماء ، فإذا شق على هذه الطقوم الأمر ، كما لو شق نزع تلك الثياب الواقية كل مرة ، وربما خطورة العدوى بسبب أو بآخر ، جاز لهم التيمم ، لأن الله تعالى أجاز التيمم للمريض ، في الأصل ، ويلحق به من يمرضه عند الضرورة ،
فلو قويت العدوى ، جاز التيمم بالإشارة إلى الصعيد ،( ترابا أم حجرا ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالاشارة الى الحجر الأسود بدلا عن استلامه ، في الطواف ، وقد أفتى الإمام أبو جمعة الوهراني رحمه الله أهل الأندلس لما كانوا تحت إكراه النصارى وعجزوا عن إظهار شعيرة الوضوء والتيمم أفتاهم بجواز الإشارة إلى الصعيد والصلاة بعدها !
وكل ذلك عند الضرورة .

7 – اذا قام أحد هؤلاء الطقوم على المريض و عجز عن مفارقته ، وحضر وقت الصلاة حتى ضاق ، و عجز عن استقبال القبلة، سقط عنه ذلك وصلى الى أي جهة كان ، لعموم قول الله تعالى ( ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثمّ وجه الله ) ولقوله سبحانه ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين * فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) ومعلوم أن ساحة القتال لا يمكن أن يلتزم الإنسان فيها بجهة القبلة ، خاصة إذا كان راكبا ودابته تتحرك ، ومن ذلك أيضا ما يسمى في الفقه الإسلامي بصلاة الطالب والمطلوب ، أي الهارب أو الذي يجري خلف العدو ، فإنهم يسقط عنهم استقبال القبلة .

وهذه الرخص الشرعية للطقوم الطبية في هذا الظرف الاستثنائي الحرج ، تدل عليها مجموعة من الأدلة العامة والخاصة ، وتؤكدها قواعد الشرع وأصوله ،من ذلك :

قوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم( إذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم )
وقوله سبحانه ( وما جعل عليكم في الدين من حرج )
وقوله( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم ( بعثت بالحنيفية السمحة )
أما القواعد الفقهية فمنها :

أ- المشقة تجلب التيسير .

ب- الواجب يسقط بالعجز .

ج – لا ضرر ولا ضرار .

د – إذا ضاق الأمر اتسع .

أما الأصول المقاصدية ،فمنها :

حفظ النفس مقدم على حفظ الدين .

ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .

اعتبار تفاوت الواجبات .

وأخيرا ، أقول لهؤلاء الجنود ، إنكم على ثغر عظيم ، حيث أنكم تنقذون أرواح الناس ، وتسهرون على علاجهم ، فهنيئا لكم قول ربكم ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى