دين ودنيا

أخلاق ذو القرنين القيادية (5)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

إنّ شخصيةَ ذي القرنين تميّزتْ بأخلاقٍ رفيعة ساعدته على تحقيقِ رسالته الدعوية والجهادية في الحياة، ومن أهمِّ هذه الأخلاق:
• الصبر: كان جلداً صابراً على مشاقّ الرحلات، فتلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرّك والتأمين، فالأعمالُ التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة، وإلى عقلية يقظة، وذكاء وقاد، وصبر عظيم، والات ضخمة، وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك.
• المهابـة: كانت له مهابةٌ ونجابةٌ يستشعرها مَنْ يراه لأول مرة، ولكنّها ليست مهابة الملوك الظلمة الجبارين، فعندما بلغ بين السدين، ووجد القومَ المستضعفين، استأنسوا به، ووجدوا فيه مخلصاً من الظلم والقهر الواقع عليهم، فبادروه بسؤال المعونة، فمن الذي أدراهم بأنّه لن يكونَ مفسِداً من المفسدين أو ظالماً من الظالمين، ومعه من القوة والعـدة ما ليس لمثلهم؟!.
• الشجاعـة: كان قـويَّ القلبِ، جسـوراً، غيرَ هيّـابٍ من التبعـات الضخمـة والمسؤوليات العظيمة إذا كـان في ذلك مرضاة الله سبحانـه، فإنّ ما طلب من إقـامـة السد كـان عملاً عظيمـاً في ذاتـه، حيث إنَّ القوم المفسدين كـان من الممكن أن يوجّهوا إفسادَهم إليه وإلى جنوده، ولكنّه أقدم وأقبل غيرَ متأخّر ولا مُدْبرٍ.
• التوازن في الشخصية: فلم تؤثر شجاعته على حكمته، ولم ينقص حزمه من رحمته، ولا حسمه من رفقه وعدالته، ولم تكن الدنيا كلها ـ وقد سخرت له ـ كافيةً لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
• كثرة الشكر: لأنه كان صاحبَ قلبٍ حيٍّ موصولٍ بالله تعالى، فلم تسكره نشوةُ النصر وحلاوةُ الغلبة بعدما أذلَّ كبرياء المفسدين، بل نسب الفضل إلى ربّه سبحانه وقال: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾[الكهف: 98].
• العفـة: كان مترفعاً عن مالٍ لا يحتاجه، ومتاعٍ لا ينفعه، فإنَّ القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين، عرضوا عليه الخراج، فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إنّ الذي أعطاني الله مِنَ الملك والتمكين خيرٌ لي من الذي تجمعونه، وما أنا فيه خيرٌ من الذي تبذلونه.
إنَّ التوازنَ المدهشَ والخلاّبَ في شخصية ذي القرنين سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الاخر، ولذلك لم تطغَ قوتُهُ على عدالته، ولا سلطانهُ على رحمته، ولا غناهُ على تواضعهِ، وأصبح مستحقّاً لتأييد الله وعونه، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة، وهو تفضُّلٌ من الله تعالى على عبده الصالح، فجعل له مكنة وقدرة على التصرّف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار.
وكذلك أكرمه الله بكثرة الأعوان والجنود، وقذف الرعبَ في قلوب الأعداء، وتسهيلِ السير عليه، وتعريفِهِ فجاجَ الأرض، واستيلائه على بَرّها وبحرها، وتمكنه بذلك من تملُّك المشارق والمغارب من الأرض، فكلُّ هذه الأمور لا تُعطى لشخصٍ عادي، ولا يمكن أن يحقّقها حاكمٌ بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ، إلا أن يكونَ مؤيّداً من الله، ذلك التأييدُ الذي ينصر الله به عباده المؤمنين، ويدلُّ على هذه العناية أيضاً ضميرُ العظمة في قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا*﴾[الكهف: 84]، أي: أمدّه بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه، فزوّده بعلم منازل الأرض وأعلامها، وعرّفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم، فكان لا يغزو قوماً إلا كلّمهم بلسانهم.
لقد أعطاه الله تعالى من كلِّ شيءٍ سبباً، وينصرفُ ذهنُ السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض، وأسبابه من العلوم والمعرفة، واستقراء سنن الأمم والشعوب صعوداً وهبوطاً، وفي سياسة النفوس أفراداً وجماعات تهذيباً وتربيةً وانتظاماً، وأعطاه من أسباب القوّة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر، وأسباب العمران وتخطيط المدن وشقّ القنوات وإنماء الزراعة، وقيل: مهما تصوّر من أسباب التمكين التي تليق يرجل رباني قد مُكّن له في هذه الأرض. يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا *﴾ [الكهف 84].
لقد كانت رعايةُ الله تعالى لذي القرنين عظيمةً، بسبب إيمانه بالله تعالى، واستعداده لليوم الآخر، ولذلك فُتِحَ له بابُ التوفيقِ وِفْقَ ما سعى إليه من أهدافٍ وغايةٍ سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوةِ الناس إلى عبادة الله، فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف، وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان، فكان إذا ظفر بأمةٍ أو شعبٍ دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب، وكان حريصاً على الأعمال الإصلاحية في كافة الأقاليم والبلدان التي فتحها، فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة في الأرض شرقاً وغرباً، وكان صاحبَ ولاءٍ ومحبةٍ لأهل الإيمان، مثلما كان معادياً لأهل الكفران.
المصادر والمراجع:
– علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(26:23)
– عبد العزيز مصطفى كامل، الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).
– مصطفى مسلم، مباحث في التفسير الموضوعي، ص (304).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى