بحوث ودراسات

الدَّولة العثمانيَّة: خلافة إسلاميَّة أم مُلكٌ عاضٌّ؟ 2 من 5

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الحملة الفرنسيَّة تبلور “عجز العالم الإسلامي”

يدَّعي لويس أنَّ الحملة الفرنسيَّة، بما حملته معها من معدَّات عسكريَّة متطوِّرة، أظهرت “عجز العالم الإسلامي في مواجهة أوروبا”، مضيفًا أنَّ الدرس كان شديد القسوة على العالم الإسلامي، الذي استيقظ على حقيقة مخزية، وهي أنَّ “قوَّة أوروبيَّة محدودة اجتياح قلب الإمبراطوريَّة الإسلاميَّة، ودون عقاب. وجاء الدرس الثاني بعد بضع سنين، حينما أُجبرت القوَّة الفرنسيَّة على الرحيل، ليس على يد المصريِّين أو أسيادهم التُّرك، إنَّما بفعل سريَّة من البحريَّة الملكيَّة البريطانيَّة يقوده أميرال شاب يُدعي هوراشيو نيلسون ” (ص31). تجدَّد التهديد الأوروبي للدولة العثمانيَّة خلال حربها مع روسيا في الفترة ما بين عامي 1806 و1812 ميلاديًّا، حينما انضمَّت بريطانيا إلى الحرب عام 1807، وتقدَّمت حينها سريَّة بحريَّة بريطانيَّة إلى مضيق الدردنيل، مما شكَّل تهديدًا لإسطنبول، عاصمة الخلافة. استعان السلطان سليم الثالث وقتها بالدبلوماسيَّة في دفع القوَّات البريطانيَّة إلى الانسحاب، ولجأ كذلك إلى الحليف الفرنسي السابق، وهو ذاته عدو الخصم البريطاني المشترك، في إعادة بناء تحصينات المدينة. غير أنَّ الحليف الفرنسي سرعان ما غدر بالحليف العثماني، بأن انسحب من الحرب في مواجهة بريطانيا من خلال إبرام صفقة مع قيصر روسيا في يوليو من عام 1807 ميلاديًّا، فيما عُرف بـ “معاهدات تيليست”. اتَّفق نابليون، إمبراطور فرنسا، مع ألكسندر الأوَّل، قيصر روسيا، على تقسيم تركيا الأوروبيَّة، لتأخذ روسيا أقاليم البلقان الشرقيَّة، وتكون الأقاليم الغربيَّة من نصيب فرنسا؛ أمَّا النَّمسا، فجرى الاتِّفاق على إسكاتها بضمِّ البوسنة والصرب إلى أراضيها. عبر الرُّوس نهر الدانوب، وبموجب معاهدة بوخارست (Bükreş Antlaşması) المبرَمة عام 1812 ميلاديًّا، ضمَّت روسيا القيصريَّة بيسارابيا، المعروفة اليوم بجمهوريَّة مالدوفا، كما حصلت على حقوق موسَّعة في الولايات الواقعة على نهر الدانوب. تعلَّمت السياسة التركيَّة من تلك الطعنة “ما يكفي لتأخير انهيار الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، وإن لم يكن لمنعه”، كما يعلِّق لويس، الذي يعزي تأخُّر الانهيار المدوي لقرن كامل إلى ظهور قوَّة جديدة، هي “انتفاضة شعوب الدولة العثمانيَّة” (ص33).

الثورة الفرنسيَّة وتصدير مفاهيم التحرُّر والعدالة والاشتراكيَّة إلى الشرق الأوسط

تأثَّرت الصرب بشعارات الثورة الفرنسيَّة؛ فهبَّت عام 1804 ميلاديًّا في وجه الدولة العثمانيَّة، أسوةً بثورة الشعب الفرنسي على جشع الطبقة الحاكمة، وتعامَل العثمانيُّون معها بالقمع، على حدِّ وصف لويس. تجدَّدت الثورة عام 1815 ميلاديًّا، واستطاع الثائرون وقتها إحراز تقدُّم كبير، وهو الحكم الذاتي، وإن كان تحت سيادة الدولة العثمانيَّة. نالت انتفاضة اليونانيِّين في السنوات التالية تأييدًا أوروبيًّا واسعًا، واستطاع الشعب اليوناني تأسيس مملكة مستقلَّة ذات سيادة. بوجه عام، شهد القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هبَّات شعبيَّة للأقليَّات المسيحيَّة في البلقان، نالت التأييد الغربي، واستطاع المسيحيُّون “تحرير أنفسهم شيئًا فشيئًا من الحُكم العثماني” (ص34). لم تسلم فارس القاجاريَّة من أيادي العبث الغربيَّة، خاصَّة وأنَّها كانت أقل قدرة من الدولة العثمانيَّة على مسايرة الغرب بما أوتي من مواطن قوَّة، استمدَّها ممَّا طوَّر من علوم. وبموجب معاهدة كلستان (عهدنامه گلستان)، المبرَمة مع روسيا عام 1813 ميلاديًّا، خسرت الإمبراطوريَّة الفارسيَّة ولايات ديربينت وباكو وشيرفان وشاكي وكاراباخ لصالح روسيا، كما تنازلت عن كلِّ أحقيَّة في جورجيا وداغستان ومينغريليا. تنازل الإمبراطوريَّة الفارسيَّة القاجاريَّة كذلك عن إقليمي نخجوان وإيروان، إلى جانب ما بقي لها من أرمينيا، بموجب معاهدة تركمانجاي المبرَمة عام 1828 ميلاديًّا. وكان التقدُّم الروسي المسيحي ضدَّ الإسلام على حساب الدول المسلمة، سواءً تركيا أو فارس أو دول أواسط آسيا، “ويتواصل هذا التقدُّم إلى يومنا هذا”، كما يعلِّق لويس، مضيفًا أنَّ ميدان القتال أثبت ضعف العالم الإسلامي في مواجهة الزحف الأوروبي المسيحي، وتبيَّن أن الحلول المطبَّقة لمواجهة الفشل العسكري لم تكن كافية (ص34).

“عوائق اجتماعيَّة وثقافيَّة” فاقمت عزلة العالم الإسلامي

انتبه المراقبون في العالم الإسلامي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين للميلاد، إلى التفاوت في القوَّة العسكريَّة بين الشرق الأوسط والغرب؛ فوجَّهوا اهتمامهم مباشرةً إلى تطوير الأسلحة، ثمَّ إلى التنمية الاقتصاديَّة، وإلى إعادة هيكلة الجهاز الحاكم، ظنًّا منهم أنَّ تلك كانت مقوَّمات نهضة الغرب وتفوُّقه. يرى لويس أنَّ حُكام العالم الإسلامي بدأوا بالمصادر الجليَّة للقوَّة والازدهار، وهي المجال العسكري والاقتصادي والسياسي، محرزين نتائج محدودة، إن لم تكن سلبيَّة (ص64). يفرد المستشرق المعروف بموقفه العدائي تجاه الإسلام، ثالث فصول كتابه لتناوُل ما أسماه “عوائق اجتماعيَّة وثقافيَّة” حالت دون تقدُّم المسلمين إلى مصافِّ الدول المتقدِّمة، مشيرًا إلى تجارب بعض مواطني الدولة العثمانيَّة في أوروبا، التي عبَّروا عنها في كتابات لهم. تقدِّم تلك التجارب صورة مغرية عن التحرُّر الاجتماعي، وبخاصَّة للنساء، والاختلاط في الأماكن العامَّة، وإقامة الحفلات الموسيقيَّة الراقصة، تُظهر العالم الإسلامي رجعيًّا، مقارنةً بالعالم المسيحي المتحرِّر ذهنيًّا والمنصف للمرأة.

يقول لويس أنًّ الفرق الواضح بين وضع المرأة في العالمين الإسلامي والمسيحي من أهمِّ التناقضات الصريحة بين العالمين، خاصَّة وأنَّ الإسلام يبيح تعدُّد الزوجات واتِّخاذ الجواري، بينما تحظر المسيحيَّة ذلك. أصيب المرتحلون المسلمون إلى أوروبا في بداية عهد التنوير بحالة من الصدمة من مساحة التحرُّر التي تتمتَّع بها المرأة الأوروبيَّة منذ ذلك الأمد، ويستشهد لويس في ذلك بما روي في كتاب نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد (1941) لأحمد بن المهدي الغزالي، عن تجربة وزير مغربي في إسبانيا عام 1766 ميلاديًّا، أصيب بذهول من تغاضي الرجال عن السلوك شديد التحرُّر لنسائهم، وغياب مفهوم الشرف كما عهده المسلمون حينها. يعتبر لويس أنَّ المرأة في العالم الإسلامي هي الأقلُّ حظًّا بين الفئات الثلاثة التي لم تنل ما يكفله الدين والقانون من حقوق، بعد الملحدين والعبيد؛ فالملحد يمكن أن يعتنق ديانة، والعبد يمكن أن يحرِّره سيِّده؛ أمَّا المرأة، “فمقدَّر لها أن تبقى دائمًا على ما هي عليه”، على حدِّ وصف لويس، الذي يعتبر أنَّ العالم المسيحي المتحضِّر كافح من أجل إنصاف تلك الفئات المستضعفة، وإن اعترف أنَّ مسألة إخضاع النساء نالت القدر الأقل من الاهتمام من دعاة الإصلاح، سواءً في الشرق أو الغرب (ص69). يعتبر لويس أنَّ المفكِّر المصري المناصر للمرأة، قاسم أمين، بكتابه تحرير المرأة (1899) من أوائل الحداثيِّين المسلمين الذين حاربوا المفاهيم البالية المؤيِّدة لقهر المرأة، بما أثاره في كتابه عن أهميَّة تعليم المرأة ومنحها فرصة خوض مجال العمل الاحترافي.

التحديث الاقتصادي يفتح المجال أمام عمل المرأة

دفعت الحاجة الاقتصاديَّة في الفترة ما بين عامي 1911 و1922 ميلاديًّا، والتي انشغل فيها رجال الدولة العثمانيَّة في ميادين القتال، إلى مشاركة المرأة في العمل، وشهدت الفترة ذاتها تنامي عدد الملتحقات بالمدارس والجامعات. غير أنَّ الحريَّة التي نالتها المرأة في التعلُّم واحتراف مهن تدرُّ النفع المادِّي لم تسلم من انتقادات المتشدِّدين من المسلمين. يدلِّل لويس على ذلك الرأي بتنديد آية الله الخميني، قبل الثورة الإسلاميَّة عام 1979 ميلاديًّا وبعدها، بعمل المرأة في التعليم؛ نظرًا لاختلاطها بمراهقين. ويختلف كمال أتاتورك، الشخصيَّة التي تثير إعجاب لويس وطالما أشار إليها على نحو إيجابي، عن ذلك بما أبداه من تأييد لتحرُّر المرأة، سعيًا منه إلى اللحاق بالعالم المتحضِّر. أصبحت حقوق المرأة من أهم مكوِّنات الأيديولوجيَّة الكماليَّة، وازدادت محوريَّة دور النساء بمرور الوقت في تركيا الحديثة.

مساعي مسايرة التقدُّم العلمي الغربي  

بدايةً من القرن التاسع عشر، بدأ عددٌ متزايد من شباب المسلمين، معظمهم من الضبَّاط والموظَّفين الحكوميِّين ومن العثمانيِّين، يعرب عن دهشته من قدرة أوروبا، أصغر قارَّات العالم، على تحقيق الأسبقيَّة والتميُّز في شتَّى المجالات العلميَّة. من بين الأمور المثارة في هذا السياق تعلُّم الرجال والنساء على حدٍ سواء القراءة والكتابة، إلى جانب وجود مدارس متخصِّصة في تعليم الصمِّ والبكم، وكذلك إسهام التقدُّم في العلوم الطبيَّة في مكافحة الأمراض القاتلة، وبخاصَّة الطاعون، وتضاعُف الإنتاج الصناعي بفضل التقدُّم في العلوم التقنيَّة، ويُضاف إلى ذلك إشارة البعض تنوُّع مجالات المعرفة التي برع فيها الغرب، ومن تلك المجالات الفَلَك، والطب، والموسيقى، والسياسة الدوليَّة، والعلوم العسكريَّة، وعلوم الحيوان والنبات والتشريح. وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر إيلاء العلوم مزيدًا من الأهميَّة، لدرجة أنَّ بعض المفكِّرين عبَّروا صراحةً عن وجود صراع بين العلوم و “التشدًّد”، أو لتقل العلوم والدين، في خطوة مهدَّت لتطبيق العلمانيَّة في الجمهوريَّة التركيَّة، بعد سقوط دولة الخلافة، في العقد الثالث من القرن العشرين (ص78). ظهرت نزعة إلى الماديَّة، وتُرجمت مؤلَّفات في هذا المجال إلى التركيَّة، كما أُسست كليَّات لتدريس العلوم في الجامعات التركيَّة؛ ومع ذلك، فكان هناك إحجام عن تدريس العلوم الأوروبيَّة الحديثة، ما يثير دهشة لويس.

يرصد لويس تحوُّلًا جذريًّا في تعامُل العالم الإسلامي مع العلوم في عصر النهضة، بدءً من أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، حيث اكتفى علماء المسلمين بما أحرزه العلماء القدامى من منجزات علميَّة، في الوقت الذي كانت الحقل العلمي في الغرب يشهد طفرة غير مسبوقة، أثمرت عن منجزات غير مسبوقة في العلوم التطبيقيَّة، وكان للعلوم التقنيَّة نصيب الأسد في الاهتمام والإنجاز. ما يثير الانتباه في ذلك أنَّ أوروبا كانت تستمدُّ العلوم من المسلمين، الذين أسَّسوا مراكز علميَّة في الأندلس وصقلية، في الفترة ما بين القرنين العاشر والرابع عشر للميلاد، حتَّى الكتب العلميَّة كانت تُترجَم من العربيَّة إلى اللاتينيَّة. يشير لويس إلى تجربة عالم الفلك تقي الدين في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، في تأسيس مرصد فلكي في إسطنبول، بإذن من السلطان مراد الثالث، مزوِّدًا المرصد بمعدَّات تضاهي ما استعان به العالم الفلك الدانماركي الشهير تيخو براهي، المعاصر لتقي الدين. غير أنَّ زمرة من الانكشاريِّين سوَّت المرصد بالأرض، بأمر من السلطان الذي سمح بتأسيسه، بناءً على توصية من المفتي الأكبر. ويعتبر لويس أنَّ علاقة العالم الإسلامي بالغرب المسيحي في مجال العلوم معقَّدة؛ حيث أقبل المسلمون على تلقِّي المنتجات العلميَّة الغربيَّة، خاصَّة في مجالي الطب والعلوم العسكريَّة. في حين وجد المسلمون صعوبة في “قبول الفلسفة والسياق الاجتماعي التاريخي الذي تنطوي عليه تلك المنجزات العلميَّة، أو مجرَّد الاعتراف بها” (ص81).

عقبة جديدة في طريق التحديث: انعدام المساواة الاجتماعيَّة

يعتبر لويس أنَّ غياب العدالة الاجتماعيَّة والمساواة في العالم الإسلامي من أسباب تعذُّر ولوجه إلى العالم المتحضِّر. لا ينكر المستشرق الشهير أنَّ المصدرين الأساسيِّين للعلوم الإسلاميَّة-القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة-ينصَّان على أهميَّة مساواة الأفراد أمام السُّلطة الحاكمة، وانعدام المحاباة على أساس الأصل، أو الميلاد، أو الوضع الاجتماعي، أو الثروة، أو العرق، مضيفًا أنَّ الإسلام أرسى قواعد العدالة الاجتماعيَّة وقت ظهوره، مقارنةً بما كان مستشريًا في المجتمعات المجاورة، ومنها النظام الإقطاعي الظالم للفقراء في فارس، والنظام الطبقي في الهند، والنظام الأرستقراطي المفضِّل لفئة على حساب الفئات الأخرى في أوروبا اللاتينيَّة والدولة البيزنطيَّة. لم يقر الإسلام وقت ظهوره تلك الأنظمة القائمة على التمييز الاجتماعي، بل ورفضها بالكليَّة. غير أنَّ الحال تبدَّل بعد الفتوحات والمغانم الماديَّة، التي خلقت طبقة من الصفوة أرادت أن تديم لنسلها ما اكتسبته من ميزات. وبرغم ما تفرضه النصوص الشرعيَّة من قيود على الطبقيَّة والمحسوبيَّة والمحاباة على أسس اجتماعيَّة مختلفة، “يفتقر الإسلام التقليدي إلى المساواة بمفهومها الكامل” (ص82). يزعم لويس أنَّ الحالات الثلاث الأساسيَّة لعدم المساواة-السيِّد والعبد، والرجل والمرأة، والمؤمن والملحد-لم يُطبَّق عليها ما تنصُّ عليه الأحكام الشرعيَّة من حقوق؛ بل بقيت وترسَّخت. وبرغم ظهور العديد من الحركات المطالِبة بإزالة الفوارق الاجتماعيَّة بين النبلاء والعوام، والأغنياء والفقراء، والبيض والسود، لم تعبأ أيُّ من تلك الحركات بالمطالَبة بحقوق الحالات الثلاث آنفة الذِّكر.

“العلمانيَّة”: أهم شرط لتطبيق الحداثة

يحدِّد برنارد لويس شرطًا لتطبيق مفاهيم الحداثة في العالم الإسلامي، ربَّما أظهره بوصفه الأهم على الإطلاق، وهو تطبيق العلمانيَّة، بفصل الدِّين عن الدولة المدنيَّة الحديثة، المستندة في تسيير أمورها إلى الدساتير الوضعيَّة. يزعم لويس أنَّ العلمانيَّة قد نُصَّ عليها في قول يُنسب إلى يسوع الناصري، كما ورد في قوله إنجيل متَّى “أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ” (إنجيل متَّى: إصحاح 22، آية 21)، وقد جاء بصيغة أخرى وفي إنجيل مرقس “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ” (إنجيل مرقس: إصحاح 12 آية 17)، ويمكن تتبُّعها في تعاملات المسيحيِّين الأوائل؛ حيث أُجبرت الكنائس الأولى على ذلك بسبب ما وقع عليها من اضطهاد. يعترف لويس بأنَّ “المفسِّرين اختلفوا حول القصد وراء تلك العبارة ومعناها الدقيق، لكنَّها فُهمت طوال معظم سنوات التاريخ المسيحي على أنَّها إجازة للتعايش المنفصل للسلطتين، السلطة المعنيَّة بالشؤون الدينيَّة، والأخرى المعنيَّة بما نسمِّيه اليوم السياسة” (ص97). تتميَّز المسيحيَّة بذلك عن سائر الديانات، التي تستمدُّ تشريعاتها الدينيَّة من الربِّ، بما فيها الإسلام، الذي يعتبر الله تعالى وفق شريعته “المتسلِّط الأسمى”، والخليفة هو نائبه (ص97). ينطبق الأمر ذاته على كافَّة الديانات القديمة، في مصر وبابل وروما، كما ينطبق على الهند، التي خرج فيها بوذا بديانة عالميَّة، وجابت رسله العالم لنشر رسالته.

ربَّما عانى معتنقو مختلف الديانات من اضطهاد السلطة الحاكمة، لكنَّ معاناة المسيحيِّين الأوائل لا يمكن مقارنتها على الإطلاق بمعاناة أصحاب الديانات الأخرى، سواءً في مدى المعاناة أو مدَّتها، التي وصلت إلى ثلاثة قرون. وخلال ذلك الصراع الطويل، كوَّن المسيحيُّون مؤسَّسة متفرِّدة، لها محاكمها وقوانينها وتسلسُلها السلطوي. أدَّى اعتناق الإمبراطور البيزنطي قسطنطين المسيحيَّة مطلع القرن الرابع الميلادي، إلى تغيير مزدوج، وهو دخول روما المسيحيَّة (Christianization of Rome)، ورومنة المسيح (Romanization of Christ)؛ وتجدر الإشارة إلى أنَّ دخول قسطنطين الديانة المسيحيَّة كان بعد إقرار مجمع نيقيَّة المسكوني عام 325 ميلاديًّا بألوهيَّة المسيح، وبنوَّته للربِّ، وتساويه معه في نفس الطبيعة، ما لا يختلف مع مفهوم الألوهيَّة في الوثنيَّة، التي آمنت بتعدًّد الآلهة، وبألوهيَّة البشر وجمعهم بين الطبيعة البشريَّة والإلهيَّة، بأن يولد نصف إله، نتيجة اقتران الربِّ الإله بأنثى من بني البشر، ينطبق ذلك على الإله الروماني هرقل، والفارسي ميثرا، والهنديَّين كريشنا وبوذا. بعد أن أصبحت المسيحيَّة الدِّين الرسمي للدولة، وصل المسيحيُّون لأوَّل مرَّة إلى سُلطة الدولة وقوَّتها القسريَّة.

يتطرَّق لويس إلى تأسيس نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ) دولة الإسلام في المدينة المنوَّرة، منتقدًا جمعه بين السُّلطتين السياسيَّة والدِّينيَّة، وكذلك اتِّباع خلفاؤه الأربعة الأوائل النهج ذاته، دون تكوين مؤسَّسة دينيَّة مماثلة للكنيسة، في أيِّ وقت من تاريخ دولة الخلافة. نشب الصراع بين الأمور الدينيَّة والاحتياجات السياسيَّة بعد التوسُّع الكبير الذي شهدته دولة الإسلام في عهد الخليفة الثاني، عمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه وأرضاه)، لتتعاقب الفتن على الأمَّة الإسلاميَّة الناشئة، ولعلَّ أشهر الفتن الأولى فتنة مقتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفَّان (رضي الله عنه وأرضاه). أثبتت التجربة أنَّ فرض القيود الدينيَّة على السُّلطة السياسيَّة فكرة فاشلة، أثارت السُّلطة الحاكمة على علماء الدِّين، الذين آثروا الانسحاب وعدم المشاركة في الحياة السياسيَّة، كما يشير لويس.

تعنُّت المسلمين أمام تطبيق “العلمانيَّة المستوردة”

يرجع غياب العلمانيَّة عن النظام الإسلامي ورفض المسلمين الشائع لأيِّ نظام علماني مستمدٍّ من العالم المسيحي إلى اختلاف العقائد والثقافات التي ينتمي إليها كلٌّ من الإسلام والمسيحيَّة. أمَّا عن الاختلاف الأوَّل، فهو أنَّ دولة الإسلام تأسَّست على يد نبيِّ الإسلام، مُحمَّد (ﷺ)، الذي حمل راية الكفاح وأحرز انتصارًا بعد انتصار، حتَّى دخل مكَّة، أحبِّ بلاد الله إلى قلبه، منتصرًا قبيل وفاته. أمَّا موسي (عليه السلام)، فلم يدخل الأرض المقدَّسة الموعودة، ولم يدخلها قومه إلَّا بعد 40 سنةً من التيه من شؤم ذنوبهم. في حين نُكِّل بعيسى (عليه السلام)، وصُلب-وفق المعتقَد المسيحي-وعانى أتباعه الاضطهاد لقرون، حتَّى استطاعوا الوصول إلى السُّلطة في الدولة الرُّومانيَّة، وحينما لزم عليهم التكيُّف مع المؤسَّسات القائمة في تلك الدولة، بل ومع لغتها. المفارقة أنَّ العرب لمَّا غزوا إمارات رومانيَّة في الشام وشمال إفريقيا وأوروبا، نشروا دينهم، وفرضوا لغتهم. بما أنَّ الدولة كانت في الأصل إسلاميَّة، وأُسَّست لتكون أداة تخدم الإسلام، فلم تكن هناك حاجة إلى مؤسَّسة دينيَّة منفصلة، وفي هذا يقول لويس “الدَّولة كانت الكنيسة، والكنيسة هي الدَّولة، والله هو رأس كليهما، والنبيُّ هو ممثِّله على الأرض” (ص101). صحيح أنَّ المهمَّة “الروحانيَّة” للنبيِّ (ﷺ) انتهت بوفاته، بعد أن أتمَّ الله تعالى نعمته على المؤمنين واكتمل الدِّين، مصداقًا لقوله تعالى “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” (سورة المائدة: الآية 3)؛ لكنَّ المهامَّ الدينيَّة والسياسيَّة والعسكريَّة للنبيِّ (ﷺ) لم تنتهِ، بل عُهدت من بعده إلى خلفائه (ص101). التشريع في الإسلام مستمدٌّ من القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة، ولا مجال للاجتهاد البشري.

يشير لويس إلى اختلاف آخر بين الإسلام والمسيحيَّة أدَّى إلى تعذُّر تطبيق العلمانيَّة، وهو تغليب الهويَّة الإسلاميَّة الجامعة، المستمدَّة من انتماء كافَّة مسلمي العالم إلى دولة الخلافة على مرِّ العصور. لم يعرف المسلمون القوميَّات إلَّا في القرنين التاسع عشر والعشرين، لمَّا فقدت الدولة العثمانيَّة سيطرتها على معظم أراضيها، إلى أن سقطت بالكامل عام 1923 ميلاديًّا، بتأسيس الجمهوريَّة التركيَّة بفعل تأجيج مشاعر القوميَّة التركيَّة، لتسقط الخلافة في العام التالي، وتتَّبع الدولة المسلمة نهج الجمهوريَّة التركيَّة في إحياء الفكر القومي؛ فظهر في العالم العربي، على سبيل المثال، مصطلح “العروبة”، الذب ما لبث أن اندثر. سبب جديد لعدم تطبيق العلمانيَّة في العالم الإسلامي هو عدم نشوب صراعات مذهبيَّة دامية، مثل التي عرفها العالم المسيحي، الذي عانى من الانشقاقات والاتهامات بالهرطقة، ومن صراع الكنيستين الأرثوذكسيَّة في القسطنطينيَّة والكاثوليكيَّة في روما، ومن انتقادات البروتستانت لممارسات الفاتيكان مما أدَّى إلى نشأة مذهب جديد.

لم يتعرَّف المسلمون على العلمانيَّة، كما يذكر لويس، إلَّا بعد الثورة الفرنسيَّة (1789-1798 ميلاديًّا)، والتسرُّب المدروس والعمدي لأفكارها إلى العالم الإسلامي؛ لإحداث تغيير في هيكل الدول المسلمة يحرِّرها من القيود الدِّينيَّة، بعد أن صار نظام الحُكم فيها أشبه بالممالك الأوروبيَّة في القرون الوسطى، التي استمدَّت شرعيَّة الحُكم من الكنيسة، برغم تفشِّي الظلم الاجتماعي. تسارعت وتيرة اختراق الأفكار الغربيَّة إلى المجتمع الإسلامي بدايةً من القرن التاسع عشر، مع ازدياد عدد الطلَّاب المسلمين المبتعَثين إلى الأكاديميَّات العلميَّة الغربيَّة، وعودتهم إلى ديارهم محمَّلين بأفكار تحرُّريَّة جديدة. حتَّى مارست تلك الأفكار تأثيراتها، “كان مفهوم مجتمع غير متديِّن، بوصفه مرغوبًا به أو حتَّى مسموحًا، غريبًا تمام الغرابة على المجتمع الإسلامي” (ص113). يعتبر لويس أنَّ نظام الحكم الإسلامي يرسِّخ مفهوم “الثيوقراطيَّة”، أو الدولة الدينيَّة، مضيفًا أنَّ مقارنة “تسامُح” الإسلام قولًا وفعلًا بالديموقراطيَّات الغربيَّة ليس في صالح الإسلام، وإن اعترف بأنَّه أكثر إنصافًا من ممارسات الأنظمة الدينيَّة المسيحيَّة (ص114). يدلِّل لويس على ذلك بقوله أنَّ المجتمع الإسلامي لم يعهد اندماجًا تامًّا بين المؤمنين والملحدين كالذي عرفته الديموقراطيَّات الحديثة، ولكن لم يعرف الإسلام كذلك محاكم تفتيش، مثل التي أنشأتها إسبانيا أواخر القرن الخامس عشر الميلادي لملاحقة غير المسيحيِّين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى