مقالات

قراءة في مستقبل فيروس SARS-CoV-2

د. معاوية أنور العليوي

طبيب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

أكتب هذه القراءة في مستقبل الكورونا وأنا في عزلتي الاجتماعية كواحد من ٣ مليار نسمة على وجه الأرض يعاني من الوضع نفسه ، فقبل ٤ أشهر لم يكن احد يعرف عن فيروس SARS-CoV-2 شيئًا، والآن انتشر الفيروس في كل بلدان العالم تقريبًا ، واصاب أكثر من شخص وتسبب بوفاة أكثر من شخص، بعضهم نعرفهم والعديد منهم لا نعرفهم ، لقد انهارت اقتصادات وكشفت حقيقة ما يسمى بالدول المتطورة وحقوق الإنسان وانهارت أنظمة الرعاية الصحية، وملأت المستشفيات وأفرغت الأماكن العامة وفصل الناس عن بعضهم، وعن أماكن عملهم، وأصدقائهم وأهلهم، وحتى عن دور عبادتهم بمشهد مهول، وقريبًا سيعرف الكثير منا شخصًا مصابًا بمرض COVID-19 فوباء بهذا الحجم وعلى هذا النطاق العالمي من الانتشار لم يشهده معظم الأحياء من أجدادنا ولن ننساه نحن في المستقبل ،وستظل آثاره النفسية تلاحق الكثيرين منا لسنوات وسنوات قادمة، فهذا الوباء سيكون القشة التي ستكسر ظهر الماضي والحاضر ومفتاح الدخول إلى المستقبل لعالم سيسمى بكل تواضع ( عالم ما بعد الكورونا ).
نعم فهذا المخلوق الذي لا يرى بالعين المجردة أوقف العالم أجمع على قدم واحدة، وذكرنا بجهلنا وكنّا نحسب أن العالم تطوّر حتى ملك الإنسان ناصية العلم لنعود ونكرر قوله تعالى : ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا )[الإسراء:٨٥].
بعد انتشار وباء السارس في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام ٢٠٠٢ في الصين والذي سببه فيروس SARS-CoV وهو الأخ الشقيق لفيروس SARS-CoV-2 والأكثر قربًا له من ناحية التسلسل الجيني قدّم الكثير من خبراء الصحة كتبًا وأبحاثًا ومقالات وافتراضات تحذر من احتمال حدوث وباء جديد يضرب العالم ، وتنبه من عدم جاهزية النظام الصحي العالمي لمثل هذا الخطر كان آخرها تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية قبل شهرين فقط من اكتشاف فيروس SARS-CoV-2 تناول الأمن الصحي العالمي ،وحذرت فيه صراحة من أن الأمن الصحي الوطني ضعيف بشكل أساس حول العالم ولا يوجد بلد مستعد بشكل كامل للأوبئة، وكل دولة فيها فجوات مهمة يجب التعامل معها، وللأسف الشديد أصبحت جميع هذه الافتراضات حقيقة بين ليلة وضحاها ، وجعلت العالم يقف مفجوعًا من هول الصدمة، ولكن ما الخطوات التي على دول العالم القيام بها الآن وهذا الفيروس ينتشر بسرعة عابرة للحدود ؟ ولم تنفع أمامه محاولات إيقاف انتشاره الأولية والثانوية والعاشرية التي قامت بها هذه الدول منذ بداية تفشيه من مدينة ووهان الصينية في شهر كانون الثاني/يناير لهذا العام؟ كيف يمكن مواجهة هذا الفيروس الذي هزّ أكبر وأكثر الدول استعدادًا ضمن مؤشر الأمن الصحي العالمي ( مؤشر يصنف كل دولة على مستوى استعدادها للوباء )، ماذا نحن فاعلون أمام هذا العملاق الذي لا يرحم؟
لفهم النهايات دعونا نعود إلى البدايات وإلى الصين تحديدًا مكان تفشي الفيروس الأول ففي ٣١ كانون الأول/ديسمبر لعام ٢٠١٩ تم إبلاغ المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في الصين بحالات التهاب رئوي المسبب لمرض غير معروف تم اكتشافه في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي الصينية مع ظهور الأعراض الأولى قبل ثلاثة أسابيع بقليل في ٨ كانون الأول/ديسمبر، وقد بينت التحقيقات الأولية أن معظم حالات هذا الالتهاب الرئوي كانت مرتبطة بالزوار والعاملين في سوق جملة يبيع لحوم الحيوانات ( المستأنسة والبرية ) والمأكولات البحرية يقع في مدينة ووهان، وبالرغم مما يؤخذ على السلطات الصينية بعدم تعاملها مع الموضوع على محمل الجد بشكل كاف في الأسابيع الأولى لانتشار الفيروس، إذ وقعت أخطاء متعددة بما في ذلك الفشل في فهم سرعة انتشار الفيروس، وزاد الأمر سوءًا التأخير في إبلاغ الناس بتفشي الفيروس، وفي واقع الأمر تعرض بعض أوائل الأشخاص الذين حذروا من المرض وأهمهم طبيب العيون الصيني لي وينليانغ، والذي توفي لاحقًا بسبب المرض، للتوبيخ من السلطات المحلية، وبقاء الوضع على حاله تقريبًا حتى ٢٠ كانون الثاني/يناير لهذا العام تحركت السلطات الصينية بقوة، فتم عزل مدينة ووهان والمدن المجاورة لها في إقليم هوبي الذي يصل إجمالي عدد سكانه إلى أكثر من ٥٨ مليون نسمة بشكل كامل بايقاف جميع وسائل النقل العام والسفر الجوي ( داخل وخارج الإقليم ) وحشدت أكثر من ٣٠٠ فريق طبي من مختلف أنحاء البلاد للانتشار في الخطوط الأمامية من أجل احتواء المرض، كما أمّنت الإمدادات الطبية اللازمة واجهزة الفحص لتشخيص المصابين وبنت ٣ مستشفيات جديدة، و١٠ مستشفيات مؤقتة بسرعة غير مسبوقة كان أشهرها مستشفى هوشنشان في مدينة ووهان، والذي بني في أقل من ١٠ أيام على مساحة ٢٦٩ ألف قدم مربع ويتسع إلى ١٠٠٠ سرير ، وعلى طول الصين وعرضها تم عزل نحو ٧٠٠ مليون شخص تقريبا في منازلهم بشكل كامل وبقوة صارمة فالشوارع كانت تبدو شبه خالية، ومعظم المراكز التجارية مغلقة، والأماكن الترفيهية موصدة، مع إصدار توصيات بضرورة أن يلتزم الناس منازلهم والموظفين بأن يعملوا من بيوتهم فالناس لم يكونوا يخرجون إلا لشراء المستلزمات الضرورية التي وفرتها السلطات الصينية طوال الوقت ،كما أن الفرق الطبية كانت تقف على أبواب المجمعات السكنية تقيس درجة حرارة القاطنين عند الخروج والعودة، وأخرى شعبية من المتطوعين تفحص هوية الغرباء وتقدم التوصيات، إضافة إلى فرق تطوف على الشقق وتقدم تعليمات وتعطي أرقام الطوارئ في حال شعر أحد بشيء غير عادي، وأخرى تؤكد على الالتزام بإجراءات الوقاية من المرض بالإضافة إلى نشر الكاميرات الحرارية في كل مكان لرصد أي شخص ترتفع حرارته،ولا ننسى دور التكنولوجيا الحديثة التي استخدمتها الصين ببراعة للحد من انتشار الفيروس ،وطائرات الدرون المزودة بكاميرات لمسح الشوارع ،ونقل الصور الحية إلى غرف المراقبة، وتنبيه الناس الذين نسوا ارتداء الكمامات والطلب من عدم الملتزمين بالتعليمات بالعودة إلى منازلهم ،كل هذا وذاك وأكثر ساعد الصين خلال أقل من ٣ أشهر على الحد من انتشار الفيروس بطريقة أثارت إعجاب العدو قبل الصديق، رغم تشكيك الكثيرين وأولهم-أنا- بلجوء الصين إلى القوة لتحقيق ذلك، كونها دولة سلطوية بالدرجة الأولى، ولكن يبدو أن مقولة “الأوقات العصيبة تحتاج إلى تدبيرات صعبة” قد تشفع لها في هذا الموضوع مع العلم بأن الصين لن تقضي على الفيروس نهائيا حتى الآن، فمازالت المدارس والجامعات مغلقة أمام طلابها الذين يطبقون تعليمات الحكومة بالدراسة عن بعد، وما زال الناس لا يخرجون من منازلهم إلا للضرورة (طوعًا ام أمرًا) واليوم أعلنت الصين صراحة إغلاق جميع حدودها مع جميع دول العالم بانتظار المعجزة التي ستقضي على هذا الفيروس ، نعم نجحت الصين في الاحتواء مثلها مثل بعض الدول كسنغافورة وهونج كونج وتايوان إلا أن هذه الدول تساهلت فيما بعد باجراءات العزل ،لتعود وترتفع نسبة انتشار الفيروس بين سكانها ،لتضطر للرجوع إلى تطبيق إجراءات العزل والمراقبة والتقصي من جديد ! نعم نجحت الصين في الحد من انتشار الفيروس داخل أراضيها ،لكنها لم تنجح في منع انتشاره إلى كافة دول العالم تقريبا،ليضطر على أثر ذلك أكثر من ٣ مليار شخص من البقاء في منازلهم تطبيقًا لاجراءات العزل الاجتماعي التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية، وتقوم بتطبيقها دول العالم على أمل الحد من انتشار الفيروس، وتسطيح المنحنى الذي يبدو إلى الآن أمرًا صعب المنال بأسباب عديدة سنقوم بشرحها لاحقًا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى