دين ودنيا

الأخذ بالأسباب في القرآن الكريم: نماذج من آيات بينات (2)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

القرآن الكريم حافل بالآيات التي توجِبُ على المسلمين الأخذَ بالأسباب في شتى مناحي الحياة، والعمل على استقصاء تلك الأسباب للوصول إلى المراد، خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه الأمم والأفراد.
ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد:
1 ـ قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ *﴾[الأنفال 60].
إنّ أمرَ التمكين لهذا الدين يحتاجُ إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتمَّ القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بإرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة، وأوجبَ الله تعالى على الأمةِ الأخذَ بأسبابها، لأنَّ التمكينَ لهذا الدين طريقةُ الوصول إلى القوة بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
وفي قوله: قال ابن كثير: أي مهما ﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾، وهذا التعبير القرآني يشيرُ إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا يقعد المسلمون عن سببٍ من أسباب القوّة يدخل في طاقاتها، والمراد بالقوة هنا:
ما يكون سبباً لحصول القوة، ولهذا قال أصحاب المعاني: الأَوْلى أن يقال: هذا عامٌّ في كلِّ ما تتقوّى به على حرب العدو، وكل ما ههو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وورد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ الآية الكريمة على المنبر، وقال: «ألا إنّ القوةَ الرميُ» قالها ثلاثاً.
وهذا لا ينفي كونَ غير الرمي معتبراً كما قوله صلى الله عليه وسلم: «الحجُّ عرفة». وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدّينُ النصيحةُ». لا ينفي اعتبار غيره، بل يدلُّ على أنّ هذا المذكورَ جزءٌ شريف من المقصود، وكذا هنا. كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرةً لا معرفةً، فهي تشمل كلَّ سلاحٍ معروفٍ أو سيعرف مع الزمن المتجدّد، فهي تتّسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات… وكل الأسلحة التي لها التأثيرُ الحاسمُ في المعركة، وتدخل القوة الاقتصادية والسياسية، والأمنية والإعلامية.. إلخ ومعنى : ﴿رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى، ومعنى ﴿وءاخرين من دونهم﴾ قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين، وذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال جل شأنه: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ ذلك أن الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد، مستعدون له، ومستكملون لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وذلك يفيد أمورا كثيرة منها: أنهم لا يتجرؤون على دخول دار الإسلام، وأنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم باحترام المسلمين، والاستجابة لطلباتهم، وأنّه ربما صار ذلك داعياً إلى الإيمان، لما يرون من قوة أهله وعزتهم، وأنّهم لا يعينون سائر الكفار.
ومـا أحـوجَ المسـلمين اليوم إلى أن يحصّلـوا كلَّ أسبـاب القوة، فهم يـواجهون نظامـاً عـالمياً وقوًى دوليةً لا تعرِفُ إلا لغة القوة، فعليهم أن يقرعوا الحديدَ بالحديدِ، ويقابلوا الريحَ بالإعصارِ، ويقابلوا الكفرَ وأهله بكلِّ ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يـدهم، وبكلّ مـا اكتشف الإنسـان، ووصل إليه العـلمُ في هـذا العصر من سلاحٍ وعتـادٍ واستعدادٍ حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجَزون.
إنّ الواجبَ على الأمة الإسلامية اليومَ لتنهضَ وتتقدّمَ وتترقّى في مصاعد المجد، أن تجاهدَ بمالها ونفسِها الجهادَ الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مراراً عديدة، فالجهادُ بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمتْ هذا العلم وعملت به دانتْ لها سائر العلوم والمعارف.
إنّ إعدادَ القوة يستدعي إنفاقاً، وقد تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلافِ ما أنفقوه والإثابة عليه، قال تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ *﴾[الأنفال: 60]، وقد جاء التحذيرُ من عدم الإنفاق في سبيل الله، مع بيان أنّ ذلك سببٌ للإهلاك والمذلّة، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة: 195]، أي: إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كلَّ ما تستطيعون من مالٍ واستعدادٍ فقد أهلكتم أنفسكم، ففي الآية: النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنّه سبب الهلاك، وقد بيّن أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه سببَ نزول هذه الآية، فعن أسلم بن عمران قال: كنا بمدينةِ الروم (القسطنطينية) فأخرجوا إلينا صفّاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، فحمل رجلٌ من المسلمين على صفّ للروم حتى دخل فيه، فصاح الناسُ وقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس؛ إنّكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنّما أنزلت فينا معاشرَ الأنصار، لما أعزَّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أموالنا قد ضاعتْ، وإنَّ الله قد أعزَّ الإسلامَ وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنـا ما ضاعَ منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يردُّ علينا ما قلنا: ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة: 195]، فكانت التهلكةُ الإقامةَ على الأموال وإصلاحَها وتركنا الغزو، وعمومُ الآية يقتضي الإنفاقَ في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصّةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يَقْوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنّه هلاكٌ ودمارٌ لمن لزمه واعتاده.
إنَّ من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقةٍ مباشرةٍ مع سُنن التمكين، سنّةَ الأخذِ بالأسباب، ولذلك يجبُ على أفرادِ الأمة وقادتها العاملين للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها، وإنزالها على أرض الواقع.
إنّ الله عزّ وجلّ أمرنا بالإعداد الشامل في قوله: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ 60] وإعداد القوة في حقيقته الأخذُ بالأسباب الشاملة، كقوة العقيدة والإيمان، وقوة الصف والتلاحم، وقوة السلاح والساعد، إنّ الآية الكريمة تحثُّ المسلمين على الإعداد الشامل المعنوي والمادي، والعلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، ويدخل في طياتها الإعدادُ التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي والسياسي والأمني والعسكري.
2 ـ قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا *إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا *فَأَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً *﴾ ﴿خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً *قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا *قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا *فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا *قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *﴾[الكهف: 83 ـ 98].
فقد وازنَ ذو القرنين بين الأسباب التي أتاحها الله له واتبعها واستقصاها، حتى إنّ القرآن يلحُّ على ذلك، ويبينه، ويكرّر التزامه في العمل بالأسباب، وذلك في مواضع ثلاثة من الآيات التي أشرنا إليها حيث يقول: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا *﴾ [الكهف: 85] وبعدها يكـرر: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *﴾[الكهف: 89 ـ 92]، وقرن ذو القرنين بما انطوى عليه من أسباب معنويـة، وما كان عليه من إيمـانٍ وتقوى وعملٍ صالحٍ في قوله: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *﴾، فاجتمعت له الأسبابُ الظاهرة والباطنة، فكان له التمكينُ والغلبةُ ونفع الناس وإعانتهم.
وذو القرنين عَلَمٌ قرآني بارز، خلّد الله ذكره في كتابه الخالد، إنَّه الرجل الطوّاف في الأرض، الصالح العادل الخاشع لربه والمنفذ لأمره، والقائم بين الناس بالإصلاح، والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها، فلم يغرّه مالٌ ولا منصبٌ، ولا جاه ولا قوة ولا سلطان، بل إنّه بقي ذاكراً لفضل ربه ورحمته، متأهباً لليوم الاخر ليلقى جزاءه العادل عند ربه، ويكفي أن يبقى ذو القرنين تلك الشخصية العظيمة في التاريخ، وذلك العلمَ البارزَ في العدل والإصلاح والقيادة، ومثالَ الحاكم الصالح على مرّ التاريخ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بشهادة الكتاب الخالد.
إنّ القرآن الكريم اهتمّ بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخّرَ لتنفيذِ شرع الله في الأرض، وإقامة العدل بين العباد، وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين، وتضييق الخناقِ على الظالمين المعتدين، ومنع الفساد والظلم، وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين، وكذلك خضوع الأقاليم له فتحَ الخزائن أمامه، وتقديم خراج الشعوب له طواعية، كلُّ ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر، والطيش والغواية، بل بقي مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا. الإهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها، حيث اتاه الله من كلّ شيء سبباً فأتبع سببا.

المصادر والمراجع:
– علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(13:9)
– محمد خير رمضان ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح ، ص (247:ـ 249).
– مجدي عاشور، السنن الإلهية، ص (164).
– شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ ص (164).
– محمد السيد يوسف، التمكين للأمة الإسلامية ، ص (89).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى