مقالات

عسكر السيسي والجريمة المنظمة

محمد عماد صابر

برلماني مصري سابق
عرض مقالات الكاتب

منذ اللحظة المفصلية ما بين خروج الفرنسيين من مصر، ثم إختيارهم الجندي الألبانى محمد علي التابع للجيش العثمانى ليتولى شؤون البلاد بدلًا من الوالي العثماني (1801- 1805م). كان الامتداد الطبيعى أن تتولى القيادات الشعبية شؤون البلاد وإنشاء جيش مصرى قوى إستناداً على خبرات مقاومة الفرنسيين وهيمنة كل الفئات الشعبية على المشهد. لكن الذي حدث فى هذه اللحظة المفصلية أن قامت هذه الفئات الشعبية بتسليم مقاليد الحكم لمحمد علي بمباركة شعبية وبسلوك غير مبررة فانحرف المنطق عن طريقه الطبيعي.
ومنذ هذه اللحظة ترسخت فكرة الهيمنة العسكرية التى بدأت بمؤامرات للقضاء على أى بواقى للروح والقوى الشعبية المقاومة وتعظيم سلطة الحاكم العسكرى ورجاله من الجند، وتوهمت قيادات الحركات السياسية بكل أطيافها أن مؤسسة الجيش تخضع لكافة القواعد التي تخضع لها كل مؤسسات الدولة؛
ولم يدرك هؤلاء أن كل المنتمين للمؤسسة العسكرية تم إقتناعهم تماما أن مكانهم الطبيعى هو قيادة المجتمع وليس مجرد الإنتماء له أو الانخراط ضمن مؤسساته.
و بدأت مرحلة الحكم العسكرى تعلن نفسها كمرحلة إنتقاليه بين الملكية والجمهورية، وبمجرد الاستلقاء على الحكم بدأت إجراءات التمهيد لإستمرار الحكم العسكرى وإستبعاد الحكم المدني تحت مظلة دعايات ومؤامرات هدفها ترويع الشعب وإدخاله في دائرة الإحتياج للعسكر لمواجهة مؤامرات ومخاطر دبرها العسكر ذاتهم بطريقة أو بأخرى، وانتهى الأمر بسيطرة الحكم العسكري على مصر نهائيًا.
ومع ظهور النظام العالمي الجديد، توافقت النظم العسكرية مع النظام العالمي من خلال إلتقاء المصالح التي تتجاوز المبادئ المعلنة حول الحرية والديمقراطية!!
وطبعاً الحكم الفاشي العسكري يحمل مواصفات واحدة سواء كان أجنبيا أم محليا، فطبيعة التكوين العسكري المقتحم للحياة السياسية تتميز بأنها ذات مواصفات قياسية عالمية موحدة لا فرق فيها بين فاشي أجنبي وفاشي محلي.
فاستراتيجية العسكر في السيطرة على الحكم واحدة وتعتمد على خلق الضرورة لوجودهم في السلطة من خلال صناعة أحداث تهدد إستقرار البلاد وأمن الناس، ربما جزء منها حقيقي ولكن غالبيتها مصنوع، وهذا يفسر عدم مرور مصر بفترة استقرار أمني واقتصادي طوال حكم العسكر، فلو حدث هذا الاستقرار زال المبرر لوجود حكم العسكر، ولهذا إن لم يكن هناك مخاطر طبيعية لتبرير وجود العسكر واستمرارهم في الحكم فمن الطبيعي أن يلجأ أصحاب المصلحة من الجنرالات إلى تخليق مخاطر صناعية حتى لو راح ضحيتها الآلاف من المصريين. فحكم العسكر لا يعترف بأدوات الديمقراطية وويكره الوعي السيسي والمشاركة الجماهيرية، و يعتمد على قيادة البلاد بمنطق القائد والتابع وتقديس الأوامر واعتبار الحاكم إله ومعارضته دربا من دروب الكفر.!
وبعد ثورة 25 يناير في 2011، استطاع النظام العسكري من خلال اللعب بطريقته التقليدية ذاتها -طوال السنوات الماضية- أن يستوعب الحركات المدنية وتطويعها والتآمر عليها، ثم القضاء عليها مستندًا في الأساس على العقدة القديمة الراسخة في جذور المجتمع والتي تدور حول اليقين بأن القوى الوحيدة القادرة على التغيير والادارة وتوفير الأمن والآمان هم العسكر حتى لو انتقصوا من مساحة الحرية والعدالة الاجتماعية..!
لتصبح الأزمة في مصر ليست أزمة الضعف أو الانهيار أمام الفاشية والطغيان وقوى البطش، بقدر ما هي أزمة وعي شعبي ومفاهيم فاسدة خاطئة متقيحة ضاربة في جذور المجتمع يجب علاجه منها والقضاء عليها من خلال خطوة أولية وهى مواجهة الأوهام الأسطورية المؤسسة للنظرية العسكرية، ووضعها في مكانها الطبيعي ضمن مؤسسات الدولة وليس في مقدمتها.
بل إن تعامل النظام العسكرى فى مصر لم يكن أبداً ذو طبيعه تصالحيه مع المجتمع بل أصر على المنهج القمعي وأستهدف جميع التوجهات حتى بات الأعتياد على إنتهاكات حقوق الإنسان أمراً طبيعياً وحتى أصبح لدى عسكر السيسي قناعة بأن إرتخاء قبضة نظام مبارك وسماحه في آخر سنوات حكمه بهامش من الحرية، هو ما أدى إلى ثورة يناير/ 2011 وتجرؤ الشارع عليه.وتجربة مبارك في التوريث، جعلت الجيش يقرر أن يحكم منفرداً. وكل ذلك جعل عسكر السيسي يختار الاستمرار في طريق القمع والتنكيل، باعتباره الخيار الأسلم، بل إعتبروا كل من يخالف هذا الاتجاه، من الخوارج البغاه أو من الخونه عديمي الوطنية ولم يكتفي عسكر السيسي بعسكرة الدولة في كافة مناحي الحياة، بل يطمحون لإحلال العقيدة العسكرية الوظيفية لخدمة المصالح الأجنبية والصهيونية، مكان العقيدة الإسلامية.
ومن ثم فعسكر السيسي يتعاملون مع الشعب كما يعاملون المجندين في مراكز التدريب! فيرون عدم الانصياع لأمرهم تمردا مرفوضا يقابل بأقسى أنواع العقوبات 🙁 اعتقالات وخطف وقتل و حرق وتمثيل بالجثث، وتهجير قرى بأكملها كما يحدث في سيناء).
وهنا يجب أن نفرق بين ضرورة وأهمية وجود جيش وطني قوي كدرع حام للبلاد باعتباره مؤسسة من مؤسسات الدولة، وبين حكم العسكر و اقتحام قيادات المؤسسة العسكرية للحياة السياسية واستيلائها على الحكم وإخضاع الدولة للمؤسسة العسكرية، بدلا من الوضع الطبيعي الذي تكون فيه المؤسسة العسكرية مؤسسة من مؤسسات الدولة في خدمة الشعب لا أن يكون الشعب في خدمة العسكر ولا يمكن أن نحصي جرائم النظام العسكري في مصر، لأن تلك الجرائم من ناحية الكم تملأ كتباً، ومن ناحية الكيف تصل إلى عمق العمق.
إن من أكبر جرائم العسكر المنظمة هي “إفساد الإنسان”، فبكل إمكانياتهم الناعمة والخشنة.. يفسدون القيم الأساسية للمجتمع، فأصبح الصدق مهلكة، والكذب منجاة، وأصبح النفاق والتملق والخيانة والغش هو السبيل القويم لتحقيق أي إنجاز في الحياة، لذلك تم إفساد جميع المؤسسات التي يمكن أن تحافظ على الإنسان حراً، مستقيماً، محترماً. إن جريمة تدمير الإنسان أكبر من أي خسارة اقتصادية، أو هزيمة عسكرية، أو نكسة سياسية.. أكبر من أي تدهور من أي نوع في أي مجال من المجالات.
إن القارئ لتاريخ العسكر في مصر يعرف أن تاريخه حافل بالمذابح ضد الشعب المصري منذ حكم الطاغية جمال عبد الناصر وحتى الآن. بداء من حادثة المنشية 26 أكتوبر 1954، و
مذبحة ليمان طرةفي أول يونيو 1957،
مذبحة كرداسةفي 21 سبتمبر 1965،
مأساة قرية كمشيش بالمنوفيةفي مايو 1966، ومرورا بتفجير كنيسة القديسين في يناير 2011،وموقعة الجمل في 2 فبراير 2011، وأحداث محمد محمود في 19 نوفمبر 2011،أحداث مجلس الوزراء
 16 ديسمبر 2011، ومذبحة الحرس الجمهوري فجر 7 يوليو  2013، مذبحة المنصة 26 يوليو 2013، ومذبحة رابعة العدوية14 أغسطس 2013، وصولا إلى الجرائم التي تحدث في حق المعتقلين،
ومايحدث لأهالي سيناء من مجازر وقتل ودمار وتهجير تماما كما
يفعل بشار في سوريا.
وفى مطلع ديسمبر 1999م، نشر الخبير العسكري الأمريكي “نورفيل دي أتكين
ورقة بحثية في غاية الأهمية بعنوان “لماذا يخسر العرب الحروب”، وضع فيها خلاصة تجربته، تقول الخلاصة بأن جيوش العرب لم تظهر كفاءة في العصر الحديث؛ فالجيش المصري أخفق أمام مقاتلي عصابات في حرب اليمن، والجيش السوري لم يستطع السيطرة على لبنان إلا باستعمال الأسلحة والأعداد الساحقة، والجيش العراقي لم يحقق نجاحا أمام الجيش الإيراني وقتما كانت تمزقه اضطرابات الثورة الإيرانية، ولا أمام مقاتلي الأكراد لثلاثين سنة، فضلا عن أن كل مواجهات الجيوش العربية مع إسرائيل كان أداؤهم فيها رديئا”.

إنّ الجيوش العربية لم تحقق نصرا واحدا على عدو للأمة؟!! حتى حرب أكتوبر 1973 انتهت في الحقيقة بهزيمة واستسلام مصري بعد استعادة إسرائيل لزمام الأمور واستيعابها للمفاجأة العسكرية التي جرت في الأيام الأولى للحرب.
المعارك الوحيدة التي انتصروا فيها كانت على بعضهم، أو على شعوبهم، فهنا تنطق الأسلحة وتصهل المدافع وتزمجر الدبابات وتهدر الطائرات، تحصد العرب والمسلمين وتسكب دماءهم غزيرة فياضة، تملأ وديان أرض العرب المنكوبة!
وعلى عكس ما ظنَّ الجميع من أن العسكر إذا حكموا عاد ذلك على الوطن بالحزم والفتوة وقوة الجيوش، فإن حكم العسكر مرتبط بالهزائم والمرارات والاستبداد على الشعب في الداخل والذلة والضعف والعمالة أمام العدو في الخارج. وتلك هي سيرتهم وطبعهم منذ حكموا وليس شيئا طارئا عليهم.
وأنظر معى إلى عجائب الجيوش العربية وأجهزتها الأمنية:
منذ فترة صرَّح ماجد فرج، رئيس مخابرات السلطة الفلسطينية، ضمن فضائح كثيرة، بأن أجهزة الأمن أحبطت 200 عملية ضد الإسرائليين..!!

  1. اللواء محمد العصار، عضو المجلس العسكري المصري، افتخر بأن الجيش المصري عنصر مهم للأمن القومي الأمريكي!
  2. إيهود باراك –رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق حث الأمريكان على دعم السيسي، لأن إظهار الدعم الإسرائيلي له يُحرجه!
  3. رعنان جيسين –مستشار شارون، والمتحدث الأسبق باسم الحكومة الإسرائيلية- وهو مندهش، يبدي ندمه على أنه حين كان يفاوض على الانسحاب من سيناء أصرَّ ألا يكون فيها قوات للجيش المصري، بل يبقى البدو والجِمال فقط.. هو الآن يقول: يا إلهي، لو عادت بي الأيام لقلت: خذوا البدو والجمال واتركوا لنا الجيش المصري!
  4. الجيش المصري احتفل بذكرى مشاركته في الحرب العالمية الأولى لحساب الإنجليز ضد السودانيين والليبيين والدولة العثمانية! وهي الحرب التي سقطت فيها القدس بمشاركة الجيش المصري لتظل تحت الاحتلال الإنجليزي حتى خرجت إنجلترا وسلَّمت القدس لإسرائيل!
  5. عميدا في الجيش المصري وبعد يومين من الانقلاب العسكري يقول بوضوح أن السبب في الانقلاب هو سياسات مرسي تجاه إسرائيل ورفضه هدم الأنفاق مع غزة؟ حتى لقد اندهش المذيع الإنجليزي صاحب الحوار وقال له: هل معنى هذا أن الجيش الذي يزعم أنه تحرك رغبة لإرادة شعبية إنما تحرك حماية لإسرائيل؟! إنه الرئيس من حقه أن يحدد سياسته تجاه حماس أو غزة.
    6.   أضف إلى ذلك الغزل الإسرائيلي في السيسي على صفحات يديعوت أحرونوت!
    7.  الأركان الأمريكي ديمبسي وهو يقرر نجاح “الاستثمار الأمريكي في الجيش المصري” وأن العسكر المصري “مُمَكِّن للسياسة الأمريكية” ولا خوف أبدا على المصالح الأمريكية من قِبَله، بل إنه “شريك قوي” للأمريكان وللإسرائيليين، ولذلك فهم “يستحقون الاستثمار فيهم”!
    8. يقول القائد العسكري الإسرائيلي: إن 30 سنة من العمل (الاستثمار في الجيش المصري) لم تضع هباءً!!
  6. هانتر فاريل، مدير البعثات التنصيرية العالمية للمشيخة البروتستانتية كان فرحا بتشجيع العسكر المصري لمنظمتهم لنشر التنصير في مصر، وكيف أعطتهم السلطة المصرية أرضا ليبنوا عليها كنائس ومدارس لأول مرة منذ افتتحوا هذه المشيخة في مصر قبل مائة وخمسين عاما!   

 وختاما:  في عهد المجرم حافظ الأسد سكت شعب سوريا عن مجزرة حماه وقالوا هي ضد الإخوان، فذبحهم المجرم ابن المجرم (بشار) والنصيرية ذبحا.
وسكت شعب مصر عن مذبحة رابعة وغيرها من المذابح وقالوا هي ضد إخوان وها هو السيسي وعصابته العسكرية تقتل أهل سيناء وتحرقهم وتقطع أجسادهم، قرية بعد أخرى حتى يسلّم مصر لأخواله الصهاينة قريبا.!
من لا يعرف ماذا فعل عسكر الجزائر في التسعينات بقيادة المجرمين نزار وتوفيق من ذبح وقتل وتقطيع لأكثر من ربع مليون مدني، فلن يفهم كيف يذبح جيش سوريا شعبه وكيف يقطع عسكر السيسي أجساد الأبرياء، وكيف ينبش جيش حفتر القبور ! جيوش لم تصنع إلا لذبح الشعوب، ولم تنتصر في حرب واحدة أبدا أبدا.
ما يفعله عسكر السيسي اليوم هو لا شيء مقارنة بما سيفعله في المستقبل القريب، حدث ستشهد مصر مذابح لا يعلم حجمها إلا الله وحده بعد أن يحصد كورونا ما سيحصده من أرواح، لذلك لم يترك النظام العسكري في مصر للشعب من خيار إلا المقاومة، فالشعب المصري بكل مكوناته، ربما لأول مرة في تاريخه، مفروضٌ عليه معركة لا يملك إزاءها إلا إعلان الاستسلام والفشل أو اختيار المواجهة في بيئة شديدة الصعوبة محليا وإقليميا ودوليا.
لكن هذه البيئة تحفل كذلك بالفرص، فالساحة الإقليمية مشتعلة ومتأزمة في أكثر من منطقة: فلسطين وليبيا وسوريا والعراق واليمن ولبنان وأفغانستان،و الجزائر..، ومثل هذه البيئة السائلة المتعددة الأطراف والاتجاهات والمتضاربة المصالح والمتشابكة الأهداف هي بيئة مثالية للطرف المغلوب المقهور ليكون فيها رقما في المعادلة.. فالاستسلام هو حكم على النفس بالفناء، بينما المقاومة هي ثمن الوجود بل وهي الضمانة الوحيدة للبقاء، فكيف والطرف المقهور يعاني أصلا لمجرد البقاء؟! إنه لا طريق آخر ولا خيار على الحقيقة.
وإن لحركات المقاومة والتحرر رصيد كبير من الكتابات والتجارب التي تحتاج النظر فيها ودراستها بعناية للتأسيس لمقاومة حقيقية ضد أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية وضدالهيمنة الغربية، فلسنا نبدأ من الصفر، ولنا في تاريخنا من دروس الثورات ما يثبت لنا أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة لإفشالهم، وواهمٌ من يحسب أن التحرر يكون سهلا ميسورا.
ينبغي أن يُعلم أن الاستسلام لن يُخرج المعتقلين ولن يمنع الإعدامات، ولن يوقف المجازر والانتهاكات،ولن يغير من الحرب على شعوب المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى