بحوث ودراسات

أثر العلم في بناء الحضارات (2)

محمد الحاج

باحث وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

القسم الثاني: العلوم الإنسانية والاجتماعية

في القسم الأول، كتبنا عن العلوم الطبيعية أو ما تُسمى أيضا بالتجريبية. وفي هذا القسم سنكتب عن العلوم الإنسانية والاجتماعية.

مقدمة:

لم يترك العلم زاوية في حياة الفرد والمجتمع، إلا دخلها، مفتشا ثناياها، وسابرا أغوارها، مقدما عنها معلومات مهمة، صُنفت فيما يُسمى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية.

هذا إلى جانب ما اكتشفه العلم سابقا من قوانين في مجال علوم الطبيعة، أو ما يسمى بالعلوم المادية التجريبية.

وكانت لأمم أوربا – في مجال العلوم – منذ عصر النهضة، البصمة الظاهرة على الحضارة العالمية حتى يومنا هذا.

وأصبح مقياس التقدم لأمة من الأمم، هو بمقدار ما تضيفه أو تطوره من علوم في المجالين: الطبيعي، والإنساني الاجتماعي. وما يعكسه توظيفها للعلم من تسهيل وتيسير في حياة شعبها.

وصار حصر التخلف في العلوم التجريبية لوحدها – رغم أهميتها – فكرة خاطئة، لأن التوقف عن العطاء في العلوم الإنسانية والاجتماعية، هو الأخطر ” فالتخلف فيها عصي عن الإدراك، إذا ما قورن بالعلوم والمخترعات التجريبية “. (1)

ما الحاجة للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ 

مروحة الحاجة للعلوم الإنسانية والاجتماعية واسعة، وتمتد لتستغرق كل الظواهر الناشئة عن أسباب نفسية وبيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية وإدارية، وحتى ما ينشأ منها بسبب الثورة التكنولوجية. فامتلاكنا لتلك العلوم مثلا، يُطلعنا على مصداقية دراسة الآخرين، لمجتمعاتنا العربية والإسلامية. فتلك الدراسة التي تتم بعقلية وفكر وقلم الآخرين، قد لا تكون صادقة تماما، ولكنها تستخدم أساليبا اجتماعية وإنسانية (أنتربولوجية)، ذات تأثير كبير في إقناع الناس ” ولقد أثّرت العديد من الدراسات الاجتماعية عن العالم العربي والإسلامي كثيرا في تقديم الصورة المتداولة لمجتمعاتنا، ومن ثمّ كان من الضروري (…) أن نعرف عن كثب هذه الدراسات، أولا لنفيد منها، فهي قائمة على ما يقع في المجتمع، وكذلك أن نتفهم ونتفاعل قبولا ونقدا بالكيفية المدروسة بها، وربما [ اكتشفنا ] أن أمثال الحالات المدروسة، إنما تمثل حالات نادرة أو شاذة أو محدودة، ومن ثمّ تقديمها على أنها تمثل المجتمع برمته، تزييفا للواقع وتضليلا للقارئ”(2)

كما أن حاجتنا وامتلاكنا لتلك العلوم، يعرفنا على الأساليب التي تشكل عقول الناشئة. إذ أن الدراسات الاجتماعية، لا تقتصر على الرصد الميداني للمشاكل والصور الاجتماعية في المجتمع ” وإنما هي أيضا تفرض أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية التي يعيشها أبناء مجتمعاتنا، وبالذات كيفية استقبال [ عالمنا العربي والإسلامي ] لأشكال الحداثة والعولمة ووسائل الاتصال الحديثة، وبالأخص الفضائيات والأنترنت، أي أنها تدرس ما يشكل عقول الناشئة “.  (3)  والحاجة لتلك العلوم ” ملحة نتيجة لما أفرزته الثورة التكنولوجية والعولمة من انعكاسات سلبية على الواقع الاجتماعي برمته، مما استدعى توافر طاقم من المتخصصين المشتغلين بعلم الاجتماع، والمزودين بالخبرات العلمية والفكرية، والمطلعين على حالة المجتمع، حتى يكونوا قادرين على وضع السيناريوهات وتبيين الخطط المستقبلية التي من شأنها ريادة المجتمع وتقدمه “.  (4) وهي ملحة كذلك للإجابة عن أسئلة إشكالية ومصيرية ” فإذا كانت العلوم الحقة [ التجريبية ]، قادرة على التصدي للعديد من الإشكاليات التقنية، والتماس الحلول الكفيلة بتوفير كل شروط العيش الكريم (…)، فإنه لا يكون بمقدورها وضع إجابات لأسئلة إشكالية ومصيرية من قبيل  تحديات العولمة، ومشاكل العنف الأسري، والإرهاب، والتطرف في شتى صوره، والهجرة، وتصاعد الخطابات والتيارات الشعبوية،  ومعاداة الأجانب، وأزمة القيم  وغيرها”. (5)    وتأتي ضرورتها بحسب أحدهم ” لتنتج لنا إنسانا له القدرة على التمييز والتشكيك ومساءلة اليقينيات  والوثوقيات، التي نتلقاها، والتي تنتجها لنا فرضيات العلم، وتجعلنا نؤمن بها كحقائق لا يرتقي إليها الشك، فهي [ أي العلوم الإنسانية والاجتماعية ] تحاول سحب بساط القدسية من كل المعارف، فليس هناك معرفة تعلو عن النقد والفحص والتمحيص ” (6)

 إننا أخيرا أولى في البحث عن حل مشاكلنا بأنفسنا، بعد رصدها وتحديدها ميدانيا ” فدراسة مجتمعاتنا بصراحة علمية، وفعالية ابتكارية، تجعل الآخر يتعرف علينا من خلال أقلامنا وعيوننا، [ لذا يتوجب علينا] إبراز خطاب جديد ينطلق من مسلماتنا وأصالتنا، ولكنه خطاب يتحدث للعالم، وليس خطاب موجها للذات عن الذات لمجرد التفاخر، دونما تقديم حقائق ووقائع، يمكن للجميع أن يطالعها (…) إن كمية الظواهر والقضايا التي يمكن تقديمها كثيرة جدا، ولعل تقديمنا لها في إطار علمي جذاب، سيمكننا من الخروج من العزلة الفكرية التي تعيشها مجتمعاتنا في تواصلها مع بقية العالم، بحيث يحتاج إلى خبراء منصفين يقدمونها “. (7)

رغم ما ذكرناه آنفا عن ضرورة العلوم الاجتماعية والإنسانية، والحاجة إليها. إلا أن هناك وجهة نظر مخالفة تماما، أي ترفض كون تلك العلوم حاجة فضلا عن كونها ضرورة، ولما كانت وجهة النظر تلك صادرة من دارسين مختصين في علم الاجتماع. رأينا أن نوردها مع ما ترفقه من دلائل لتكتمل صورة البحث.

يقول الدكتور أحمد خضر: ” لقد ضاعت سنو حياتنا في شعوذة أُطلق عليها (علما)، ليس في حقيقته إلا صياغة دينية لمعتوه فرنسي، وملحد يهودي، وشرذمة من الماركسيين  واللادينيين

… أرادو له أن يكون  دينا جديدا، وأرادوا لأنفسهم أن يكونوا أنبياء ورسل هذا الدين الجديد (…) أما النزعة العلمية التي يتمسك بها فقد كانت نزعة مزيفة باعتراف كبار المؤرخين الألمان “.( 8)  ويزودنا الدكتور أحمد بمجموعة – قال عنها – حقائق أقر بها رجال الاجتماع في بلادنا، وفي بلاد الغرب: أ – الحقيقة الأولى: هي أن علم الاجتماع هو شعوذة الأزمنة الحديثة. ويقول أقر بهذه الحقيقة الطاهر لبيب، أُستاذ بالجامعة التونسية، ودعا غيره من رجال الاجتماع إلى الحد من الانبهار الساذج، والتوكل الكلي، على علم الاجتماع كموقف يجعل منه عصا سحرية علمية. ب – الحقيقة الثانية: إن تدريس علم الاجتماع في بلادنا لا يعد ضرورة من ضرورات المعرفة والواقع، وأنه لو أُلغي هذا الاختصاص من حاجاتنا، فإن غيابه لن يكون نقصا ولا تخلفا معرفيا. يقول: وأقر بهذه الحقيقة الطاهر لبيب أيضا، وسعد الدين إبراهيم الأستاذ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وقد اعترف الأخير بأنه لو افتُرِض أن اختفى كل علماء الاجتماع العرب، فإنه لا شيء يمكن أن يحدث للمجتمع سلبا أو إيجابا. ج – الحقيقة الثالثة: النزعة العلمية في علم الاجتماع، نزعة مزيفة، والشروط التي حددها العلماء في أي معرفة، لكي تكون علما، لا تتوافر في علم الاجتماع. فهذا العلم مرتبط بأسماء أشخاص معينين، هم الذين اخترعوا نظرياته ومدارسه، ويُرجع  إليهم دائما وليس إلى علم محدد. د – الحقيقة الرابعة: هي أن علم الاجتماع، علم عقائدي ليس بالمحايد، وأنه استعماري بطبيعته. ويقول: أقر جاك بيرك: – عالم الاجتماع المشهور – بأن علم الاجتماع، علم استعماري. وعلماء الاجتماع في بلادنا، اقروا بأنه علم، أُعد بحثا وتدريسا، ليكون عقل رجال الاجتماع العرب، تابعا للعقل السوسيولوجي (الاجتماعي) الغربي، في منهجية التفكير، أو مهام رجال علم الاجتماع. (9)

وفي موقع آخر ينفي الدكتور أحمد العلمية عن نشأة علم الاجتماع ” والذي لا جدال فيه، أن نشأة علم الاجتماع، لم تكن نشأة علمية (…) فلم تكن الأفكار والمفاهيم التي صاغها كبار علماء الاجتماع الأوائل، نتيجة تحليل علمي كما نفهمه هذه الأيام. كان هؤلاء الكبار، يعتمدون على الحدس والتخمين العميقين. (…) إن الكثير من الأفكار التي كتبوا عنها، كانت تدور في وجدانهم وعقولهم، قبل أن يكتبوا عنها. وربما استمدوها من مفكرين آخرين، او كانت محصلة خبرة شخصية، أو مشاعر تمتلكهم ..” (10)

ماهي العلوم الاجتماعية؟ وما هو منهجها؟

ذكرنا في القسم الأول أصناف العلوم الاجتماعية والإنسانية، ولا حاجة لإعادة تكرارها. وسنقوم بالتركيز على منهج هذه العلوم، (المنهج الوضعي أو ما يسمى أيضا العلمي التقليدي)، الذي أثار كثيرا من الجدل، في كونه صالحا لدراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية، عند علماء الغرب والمسلمين على حد سواء. وذلك بعرض الفقرات الممهدة التالية، وصولا لبسط المنهج ونقده.

الاعتراض على تسمية المعارف الإنسانية والاجتماعية علوما

هناك من العلماء والمفكرين من يعترض على تسمية المعارف الاجتماعية والإنسانية علوما.

لأن القول بوجود علوم طبيعية تجريبية، وأخرى إنسانية اجتماعية  تقابلها،  يوقع ” في وهم الاعتقاد بوجود معارف إنسانية واحدة. أو معارف تُنسخ منها نسخة واحدة لجميع الأمم، كما هي الحال في العلم [ التجريبي ] الذي تتفق قوانينه وسننه في المادة والطبيعة “. (11)  أما سبب الوهم، فيعود إلى أن المعارف الإنسانية والاجتماعية ليست علوما، بقدر ماهي ثقافة. ” والثقافة نظرية في السلوك، أكثر من كونها نظرية  في المعرفة، كما يقول مالك بن بي (…) [ ثم إن الثقافة ] إذا كان موضوعها الإنسان، فإن أثرها لا يظهر في سلوكه فحسب، بل هي سلوكه في حقيقة الأمر، أي إن السلوك هو مرآة الثقافة “. (12)  وبما أن لكل امة ثقافتها، فإن لكل أمة معارفها الإنسانية والاجتماعية. ومما يؤكد أن المعارف الإنسانية والاجتماعية ليست علوما، – إلا بالمعنى المجازي –  كونها ليست واحدة  دائما، وإنما متعددة بتعدد الثقافات، يدل على ذلك ” الخارطة الثقافية التي يتوازعها عالم اليوم [ حيث تتميز ] الأمم والشعوب بعضها عن بعض في العقيدة والعبادة والاجتماع والتربية والفن والأخلاق والقانون، أو في جميع عناصر الثقافة أو مكوناتها، او كل ما اعتدنا على تسميته بالعلوم الإنسانية والاجتماعية “. (13)  وكذلك ليست ثابتة، كحال العلم الطبيعي التجريبي – حيث يستطيع الباحث أن يكون محايدا وموضوعيا – بل متبدلة تبعا للخصوصية الثقافية، والباحث فيها لا يستطيع أن يكون موضوعيا، إلا إذا ” تحرر من الوسط الثقافي الذي يدرسه ويحكم عليه، وغني عن البيان أن مثل هذا التحرر، بعيد المنال، لأن الإنسان (…) لا يمكن أن ينفصل عن مجتمعه وبيئته، أو عن الثقافة التي يعكسها هذا المجتمع الذي نشأ فيه ” (14)

لكن لماذا قبلنا – في مجتمعاتنا العربية والإسلامية – فكرة كون المعارف الإنسانية والاجتماعية علوما؟ يعود هذا إلى ” أننا فكرنا بروح عصر الانحطاط، وبعقل الركود الذي نعيشه عشية الغزو الأوربي، بالإضافة إلى ما أصابنا من الانبهار والجزر النفسي أمام التفوق التقني الغربي، وصورة نظام الحياة الأوربية، وربما كان لفرض هذا النموذج الغربي من خلال الاستعمار، وما صاحبه وتقدم بين يديه من إرساليات التبشير ودراسات الاستشراق دور حاسم ” . (15) على أنه يمكن القبول بتسمية المعارف الإنسانية والاجتماعية علوما، إذا قُصد أن موضوعها الإنسان. وتكون مرفوضة، حين يُقصد أن هناك نسخة واحدة من هذه العلوم لجميع الأمم والشعوب. (16)

نشأة المنهج الوضعي: اتُخذ المنهج الوضعي أو – ما يسمى أيضا العلمي – المُتَّبع أساسا في العلوم الطبيعية، اتخذ منهجا للبحث في العلوم الاجتماعية، في ظروف التحول الثقافي الأوربي، منذ عصر النهضة وما قبل، وقد كانت البوصلة التي أرشدت لهذا التوجه، هي رفض كل تفكير ديني وغيبي يقع فوق الحس والإدراك البشري. وهي نفس البوصلة التي وجهت البحث نحو هذا المنهج في الوطن العربي والإسلامي . (17) ظل الصراع بين العلم والدين هو البصمة الواضحة على صفحة التاريخ الغربي ” حتى اعتقد بعض المفكرين هناك أنها سمة طبعت علاقة الدين بالعلم إطلاقا، وليست خاصة بالمنهج الغربي “. (18) يقول العلامة الفرنسي إميل بوترو: ” إن أمر العلاقات بين الدين والعلم (…) في ثنايا التاريخ يثير أشد العجب (…) فإنه على الرغم من جهود أعاظم المفكرين التي بذلوها ملحين في حل هذا المشكل [ أي الصراع ] حلا عقليا، لم يبرح العلم والدين قائمين على قدم الكفاح، ولم ينقطع بينهما صراع يريد كل منهما أن يدمر صاحبه، لا أن يغلبه فحسب. على أن هذين النظامين لازالا قائمين “. (19)  انتهى الصراع بين النسقين العلم والدين إلى ” إقصاء النسق الديني عن مجال الحياة وحصره داخل جدران المعابد، وطرده من مجال النظر العقلي إلى مجال الإحساس والشعور “.

مصدر عنف الصراع بين النسقين: تولد الصراع عنيفا بين النسقين، بسبب طبيعة التفكير الكهنوتي المتمثل بما يلي: أ – أسلوب التفكير اللاهوتي الذي انتهجته الكنيسة: فقد كان تفكير البابوات، متمركزا حول تأليه المسيح وعقيدة التثليث، واعتبار آراء الموحدين هرطقة. الأمر الذي دفع رجال الفكر الغربي الكبار للوقوف في وجههم وتعنيفهم، فقد وقف سان سيمون في وجه البابا وكنيسته، كما ينقل  الدكتور محمد امزيان في كتابه المعنون منهج البحث الاجتماعي ” إنني أتهم البابا وكنيسته بممارسة البدع والهرطقات.. والتعليم الذي  كان يعطيه رجل الدين الكاثوليكي للعلمانيين الذين يشاركونه في الرأي هو تعليم فاسد، فهو لا يوجه إطلاقا تصرفاتهم في طريق المسيحية، وأتهم رجال الدين الكاثوليكي بعدم اكتساب أية معلومات من شأنها أن تجعلهم قادرين على قيادة الأتباع المؤمنين في طريق خلاصهم “. (21)

ب – اضطهاد الكنيسة للأسلوب العلمي في التفكير: ” احتكرت الكنيسة مجال التفكير، وحرَّمت كل تفكير يخالف تقاليد البابوية، فسادت النزعة النصية وتحكيم الكتاب المقدس في كل مجالات الحياة “مما أدى إلى جمود الفكر الغربي طوال فترة حكم البابوات، أي طوال العصور الوسطى. ومما زاد حدة هذا الجمود، سيطرة التفكير الأرسطي الصوري. فوقفت النزعة النصية والمنطق الأرسطي في طريق التجربة العلمية … ” فاستقر في ذهن الأوربي وجود علاقة عكسية بين الدين والحضارة، بمعنى أنه كلما سيطر الدين ماتت الحضارة، وكلما تنحى الدين استردت الحضارة روحها “. (22)

ج – التدخل القسري لسلطان الكنيسة في كل مجالات الحياة: اشترطت الكنيسة – خلال القرون الوسطى – لكي يتمتع الإنسان ” بحقوقه في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، أن يكون كاثوليكيا ويتبع للكنيسة الرسمية، وأن يقبل كل الأحكام والتعاليم والأوامر غير الدينية التي تصدر عن هذا الجهاز “. (23)  وقد نشأت قبالة هذا التفكير الكنسي، الحركة العلمانية، التي جعلت من الانتماء الإنساني، شرطا بديلا عن الانتماء للكاثوليكية وكنيستها، في الحياة الاجتماعية، فأصبح المفكر المحب للإنسانية، لا يسعه إلا أن يكون علمانيا. كما يقول علي شريعتي. (24)

د – التحالف بين النظامين الإقطاعي واللاهوتي: تجسدت صورة هذا التحالف، بتقديم النظام الكنسي، القوالب الفكرية التي الذي تصوغ حياة الناس، وتجبرهم على اتباعها، وكان النظام الإقطاعي يقدم التغطية الأمنية اللازمة، لتنفيذ أوامر الكنيسة. يقول سان سيمون عن تلك الصورة:” النظام الذي تدعونا المسيرة الحضارية إلى تقويضه، كان يتمثل في التداخل الموجود بين السلطة الروحية البابوية اللاهوتية، وبين السلطة الزمنية  الإقطاعية العسكرية ” . (25) وكانت محاكم التفتيش ، هي الجهاز التنفيذي لهذا التحالف، وكانت أحداث محاكم التفتيش، كافية لتبرير الثورة ضد الكنيسة، وضد هذا التحالف. يقول سان سيمون: ” إنني أتهم رجال الدين على موافقتهم على تكوين مؤسستين متعارضتين تماما مع روح الكنيسة: مؤسسة محاكم التفتيش، ومؤسسة اليسوعيين [ وبحمايتهما ] “. (26)  أمام ذلك الوضع المأساوي الناشئ عن سيطرة تحالف اللاهوت والإقطاع، كان لا بد من التغيير الجذري، كان لا بد من الثورة.  

ولقد كان ” لدخول البحث التجريبي من العالم الإسلامي إلى العالم الأوربي، أكبر حدث غيَّر مجرى أساليب التفكير النظري والتجريد الميتافيزيقي، وكانت هذه المرحلة التاريخية، مرحلة تحول حاسمة، امتد أثرها إلى كل أجزاء أوربا، وشكل نواة الثورة العلمية الغربية، ووجه العقول في اتجاه المعرفة العلمية الحقة “. (27)  ويوضح سان سيمون هذا الحدث، فيذكر ” أنه انطلاقا من القرن الثالث عشر، كان روجر بيكون يدرِّس العلوم الفيزيائية بشكل رائع، وان تفوق ” الوضعي ” على ” الحدسي ” ” والفيزيقي” (الطبيعي) على ” الميتافيزيقي” (ما وراء الطبيعة) كان جد محسوس منذ البداية، حتى من السلطة الروحية نفسها، إلى درجة أن كثيرا من الأكليروس ومن بينهم اثنان من البابوات توجهوا في الفترة نفسها تقريبا إلى قرطبة، ليتموا تعليمهم في دراسة العلوم القائمة على الملاحظة على الأساتذة العرب “. (28) وقد كان العرب المسلمون، قد ساهموا بشكل أساسي، في تغيير معارف ومذاهب الأوربيين، التي كانت سائدة خلال العصور الوسطى. يقول سان سيمون: ” وفيما يتعلق بنقد معارفنا الخاصة، ومذاهبنا العامة، فما كان العرب يبدؤون إقامتهم في أجزاء من أوربا، حتى أنشؤوا مدارس لتلقين العلوم، التي تقوم على الملاحظة، وظهرت حماسة عامة، وجهت كل العقول المتباينة في اتجاه النور الجديد، وأقيمت مدارس مشابهة في كل أوربا الغربية، فأنشأت مراصد وقاعات للتاريخ الطبيعي، في كل من إيطاليا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا “. (29) 

ونتيجة الانقلاب على النظام القديم في أوربا، ” تمثلت حصيلة التطورات المادية والفكرية والسياسية في أوربا، في القرن التاسع عشر، في انهيار تام لأركان المجتمع التقليدي، بكل نظمه وأفكاره ومقدساته، ونمو متزايد للفردية، وانهيار للانتماءات الاجتماعية، وإيمان بأسبقية الفرد على المجتمع، والقيم والقوانين، واهتزاز لنظم كانت شبه مقدسة، كالأسرة، والطبقة، والطائفة، والملكية، والدين، وغير ذلك. إضافة إلى الاضطرابات الأخرى، التي شملت المجتمع الجديد، بوصفها جزء لا يتجزأ من طبيعته، ومن أهمها الصراعات الطبقية، التي ولَّدتها ظروف العمل الصناعي، ونظام المصنع ..” (30)

ولو أردنا أن نرسم إطارا فلسفيا عاما للنشأة الجديدة للمجتمع الأوربي، ولمنهج البحث فيه، لأبصرنا أن ” الوجود كله منحصر في الإنسان والطبيعة، وهو جزء منها، ونوع من أنواعها. والطبيعة وُجدت هكذا بنفسها، وكذلك سننها أو قوانينها، فهي مقدِّرة بنفسها من غير مقدِّر لها. والعقل وحده طريق معرفة الحقائق، وليس ثمة طريق آخر، وليست المثل الأخلاقية، والقيم، والمفاهيم الحقوقية، إلا وقائع أو أحداث، كالحوادث الطبيعية، نشأت وتطورت، فهي ليست ثابتة، والإنسان نفسه، إنما هو حيوان اجتماعي مفكر فحسب، وليست النفس الإنسانية، إلا مجموعة من الغرائز “. (31) بالنتيجة تم في تلك النشأة، إبعاد الوحي تماما أن يكون مصدرا للمعرفة، واعتماد العقل فقط. وفسرت الظاهرة الدينية وفقا لذلك بقول دور كايم: ” الأشياء التي يذكرها المنتمون إلى دين ما، يجب ألا تؤخذ على أنها أخبار عن الله، لأنه من حيث المبدأ، لا يمكن أن يكون أن يكون هناك إخبار كهذا “. (32)

شرع النظام الأوربي، يسير في اتجاهين اعتبارا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر:

أ – اتجاه التغيير الثوري، الذي يقوم على الصراع بين العمل ورأس المال، ويرى أن النظام الرأسمالي، يجب أن يُنسف، ولا مجال لإصلاحه. ويجب أن يوجد نظام جديد، يقضي على التمايزات الطبقية. والفكرة الماركسية، هي النموذج لهذا الاتجاه.

ب – واتجاه يريد المحافظة على النظام [ الرأسمالي ]، وإصلاح المجتمع الذي هزته الفلسفات النقدية، والحركات الثورية، وإكمال المؤسسات اللازمة لاستقرار العلاقات بين العمل ورأس المال، وليس من أهداف هذا الاتجاه إنهاء التمايز الطبقي، بل التخفيف من حدة الصراع، بالتعليم والتوجيه والإرشاد، وقد مثلت وضعية كونت هذا الاتجاه. (33)

المنهج الوضعي أو منهج كونت  

نجح العلم الطبيعي باتباعه منهج الحس والملاحظة والتجربة، في كشف الكثير من سنن الكون واستثمارها، وذلك بعد أن نحَّى جانبا مبدأ الكهنوت الكنسي، الذي كان يرى أن الضلال، هو في البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدس، وفي التفكير والتمحيص في أمور الدنيا. كما عبر عنه الأب لاكتانتيوس، حيث يقول: ” لو كان هناك احتمال للوصول إلى الحقيقة، عن طريق البحث والدراسة، لكنا وصلنا إليها من زمن بعيد، وبما أنه لم يُتوصل إليها، برغم ما ضاع في سبيل ذلك من وقت وجهد، فمن الواضح الجلي إذا أن الحكمة  والحقيقة لا وجود لهما “. (34)

وكانت النتيجة العملية لهذا التفكير الغريب ” أعمدة الدخان، وألسنة اللهب، التي اندلعت فوق الاسكندرية، كنز المعرفة الإغريقية على مر العصور، والتي أصبحت حينذاك مركزا للكنيسة المسيحية، إلى جانب روما (…) وحُرقت نفائس ثمينة لا تعوض من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلم والثقافة الإغريقية. حرقتها وأبادتها جموع المسيحيين المتعصبين “. (35) فالكنيسة لم تكتف بتوضيح رؤيتها من غاية البحث، بل سعت بفرضها باستعمال العنف، الأمر الذي ولَّد ردة فعل ضدها من قبل العلماء، فقاوموا مبدأها، حتى ابعدوه تماما، ونادوا بالمعارف فقط عن طريق الحس والملاحظة والتجربة. وأصبحت الروح المميزة للقرن الثامن عشر، هي روح التجربة والمشاهدة والمراقبة، واستنباط القوانين العامة الواضحة الدقيقة. (36)

إن نجاح المنهج العلمي في دراسة الظواهر الطبيعية، وكشف القوانين الحاكمة لها. فرض الاعتقاد أنه يمكن دراسة الظواهر الاجتماعية، بنفس المنهج، لاعتبارها أيضا ظواهر طبيعية.

” وسيطرت الفكرة القائلة: بأن نجاح علم الاجتماع خاصة، والعلوم الاجتماعية على وجه العموم، وتقدمه، رهن بقدرته على استخدام القياس، والإحصائيات والاستبيانات والجداول وغيرها “. 37)  وفي أجواء المطالبة بدراسة العلوم الاجتماعية، باتباع منهج العلوم الطبيعية، القائم على الحس والملاحظة والتجربة، ولد منهج كونت، المسمى بالوضعية.

” صرح كونت: بأن الدين قد استنفذ موضوعه، ولم يعد هناك ما يبرر وجوده، وقد أفسح المجال الآن للعلم الوضعي، الذي حل محله، بل إنه رأى: أن الفوضى وعدم الانتظام، يعودان بدرجة كبيرة إلى أن الفكر الديني والميتافيزيقي، لا يزالان يعيشان جنبا إلى جنب مع الفكر الوضعي، في حين أنه من المفروض أن يفسحا المجال له “. (38) يمكن اعتبار هذه الرؤية لكونت، مقدمة لقانونه المسمى: قانون الحالات الثلاث ، أو ما يسمى ايضا: قانون التقدم الإنساني. والذي نوجزه بما يلي: هناك قانون عام تخضع له المجتمعات الإنسانية، في تطورها وتقدمها، وهو قانون الحالات الثلاث:

أ – الحالة اللاهوتية: يبحث العقل الإنساني خلالها، عن كنه الأشياء، وحقيقة الظواهر، محاولا إرجاعها إلى علة مفارقة، ( الإله ). ويرى كونت أن الدين في هذه الحالة، ضرورة للمجتمعات الإنسانية، في العلاقات الاجتماعية والسياسية،  لكنه يعتبر منهج العقل هنا وهم وخيال.

ب – الحالة الميتافيزيقية ( الماورائية ): يحاول العقل هنا، أن يرجع حقائق الأشياء وأصولها ومصائرها، إلى علل في ذات الأشياء، وبواطن الظواهر، مثل القوة الميكانيكية، والقوة الحيوية، والفيزيائية.. لا إلى علل مفارقة، كما في اللاهوتية. ثم انتهى به الأمر ان يجمع تلك القوى في واحدة، هي قوة الطبيعة. وهذه الحالة  في رأيه ضرب من الوهم والخيال أيضا.

ج – الحالة الوضعية: وفيها يتخلص العقل الإنساني من الوهم والخيال، اللذان اتصفتا بهما الحالة اللاهوتية والماورائية، ويدرك الأشياء على حقيقتها. يدرك أنه في الحالتين السابقتين، كان يبحث عن حقائق الأشياء وعللها المطلقة، وهو أمر مستحيل، لاستحالة الحصول على حقائق مطلقة يقينية، فراح يهتم بواقع الأشياء، ويكتشف قوانين الظواهر، من خلال واقعها المادي الوضعي القائم على الملاحظة والتجربة.

قواعد المنهج الوضعي: (39)

أقيمت الوضعية على أسس، اعتبرها أصحابها مسلمات، وجعلوها مقياسا لكل تفكير علمي.

وقد انبثق فجر النزعة الوضعية، على يد سان سيمون، أستاذ أوغست كونت، إذ يقول: ” إن أكبر وأشرف وسيلة لدفع العلم نحو التقدم، هو جعل العالم، في إطار التجربة، ولا نقصد العالم الكبير، وإنما العالم الصغير، يعني الإنسان، الذي نستطيع إخضاعه للتجربة “.

وجاءت هذه النزعة اصلا، للوقوف بوجه كل تفكير خارج نطاق الحس، سواء أكان تفكيرا دينيا أو ماورائيا أو عقليا.

ابتنت الوضعية على الأسس التالية:

أ – اعتبار الإحساس وحده مصدرا للمعرفة الاجتماعية:

يقول دور كايم: ” إن العالم لا يستطيع أن ينهج منهجا آخر، غير اعتبار الإحساس نقطة بدء لدراسته. ولن يستطيع أن يتحرر من الأفكار الشائبة (…) إلا إذا جعل الإحساس، هو المادة الأولية، التي لا بد منها، في نشأة كل معنى كلي “. وجعل الإحساس أساسا لقيام المنهج العلمي، حق لا مراء فيه، ولكن الباطل، أن تنفي الوضعية كل مصدر خارج هذا الإطار.

ب – اعتبار النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية:

يقول كونت: ” إننا ما دمنا نفكر بشكل وضعي، في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر، بطريقة مغايرة، في مادة السياسة والدين. فالمنهج الذي نجح في العلوم الطبيعية، (…) يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير “. وعندما تؤكد الوضعية، على وحدة المنهج في التفكير، بغض النظر عن الظاهرة المدروسة، سواء أكانت طبيعية، أو إنسانية، أو اجتماعية، إنما لتسد الذرائع، أمام الانفصام، الذي عاناه جيل ما قبل الوضعية، عندما كان يستخدم المنهج الوضعي، في معالجة العلوم الطبيعية، والمنهج اللاهوتي في العلوم الإنسانية. ولهدف آخر أيضا، هو لتحقيق نفس القدر، من الموضوعية والعلمية في هذه العلوم.

ج – إخضاع الظواهر الاجتماعية للتجريب:

والمقصود بالتجريب هنا، ليس التجربة المعملية، وإنما التجربة الاجتماعية، التي تقوم على مقارنة الظواهر، في حالة تشابهها واختلافها، ودراسة العادات والتقاليد، ومقارنة اللغات، والوقوف على الوثائق والسجلات التاريخية، ودراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية، وغير ذلك من المصادر، التي تقدم معلومات غنية، تساعد في الكشف العلمي.

واستخدام الوضعية للتجربة هنا، ليس لأنها أداة معرفية وصالحة، وإنما للوقوف في وجه التفكير الديني، لأن المعرفة الاجتماعية الصحيحة، هي التي تستند إلى الملاحظة والمشاهدة الواقعية للظواهر الاجتماعية. ومن العبث اعتبار الوحي، مصدرا لهذه المعرفة، في تجريبية الوضعية.

د – شيئية الظواهر الاجتماعية:

يعتبر دور كايم الظواهر الاجتماعية، أنها “أشياء” خارجة عن ذواتنا. حيث يقول: ” إن الظواهر الاجتماعية” أشياء “، ويجب أن تدرس على أنها أشياء “.

لكن” شيئية ” دور كايم، أثارت نقدا كثيرا، يستند إلى أن الظواهر الاجتماعية، ليست أشياء جامدة، بقدر ماهي أفعال صادرة عن إرادة حرة واعية، فردية كانت أم اجتماعية. الأمر الذي اضطر دور كايم، لتوضيح معنى الشيئية، بقوله: الظواهر الاجتماعية، ليست أشياء مادية، ولكن جديرة بأن توصف، بأنها كالظواهر الطبيعية. ووصفها بأنها أشياء، هو دراستها بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية، أي يجب أن نتحرر عندما ندرسها، من كل فكرة سابقة حولها، وأن تأتي معرفتنا بها من الخارج، عن طريق الملاحظة والمشاهدة، وليس من الداخل عن طريق التأمل والاستبطان.

مما سبق، يمكن إيجاز الملامح الرئيسية للمنهج الوضعي، كما رسمه كونت بما يلي:

1 – الحقيقة، لا تعتبر حقيقة، إلا عندما تثبت بالتجربة والحواس.

2 – العلوم الطبيعية والاجتماعية، تشترك في أساس منطقي ومنهجي واحد.

3 – هناك فرق جوهري بين الواقع والقيمة، فالعلم يتعامل  مع الواقع فقط، وأما القيمة، فإنها تعكس نظاما للظواهر، يتميز باختلافه التام، وخروجه عن نطاق العلم. (40)

مذهب كونت هذا، اصبح فيما بعد، عقيدة أساسية للمناهج الاجتماعية المعاصرة. وهو كما يلاحظ يؤكد على أن يكتف الباحث باستنباط افتراضاته عن التجربة فحسب، دون إبداء وجهة نظره الخاصة، أي دون إدخال المعيارية في البحث. وبالنتيجة: فما لا يتحقق تجريبيا، فإنه تأملي لا علمي.

نقد المنهج الوضعي:

” صرفت المجتمعات المعاصرة، زمنا طويلا تنتظر الهداية [ من أعمال أصحاب المنهج الوضعي فيما يتعلق ] في فهم النفس الإنسانية، على أيدي سيجموند فرويد، وفي تربية أبنائها، في ضوء حكمة أمثال دكتور سنوك [ طبيب الأطفال الأمريكي المهتم برعاية الطفولة ]  وفي بناء حياتها الاقتصادية والاجتماعية، على أيدي آدم سميث وكارل ماركس، غير أنها لم تؤب، على أيدي هؤلاء وقرنائهم، إلا بالخسران المبين الذي تصرخ به أحوال المجتمعات المعاصرة، وما تفيض به حياة الناس فيها، من اختلالات ومظالم”. (41)  ومع ذلك لا يمكن التنكر للنجاحات التي حققتها العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، باتباع المنهج الوضعي. لذا من المفيد رصد تلك النجاحات للاعتماد على مناهجها، ضمن إطار منهج متوازن للعلوم الاجتماعية، كما لا بد من النظر في جوانب الضعف والقصور فيها لتلافيها. ويمكن نقد المنهج من عدة نقاط :

أ – خطأ التسوية بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الاجتماعية.

ب – عدم الواقعية في حيادية القيم.

ج – ارتباط المنهج الوضعي بالفلسفات والعقائد المختلفة.

أ – التسوية بين الظاهرتين: الظاهرة الطبيعية، يمكن الوصول إلى كنهها، حين تنفصل عن سياقها الزماني والمكاني، أما الاجتماعية، فإنه يستحيل فصلها عن بعديها الزماني والمكاني، أي لا يمكن انتزاعها من محيطها الديني والخلقي والاجتماعي، الذي يتحكم في حركتها. (42) فالظاهرة الاجتماعية  للفرد والمجتمع، لا تتكون من عناصر مادية خالصة، يمكن ملاحظتها بالحواس، ومعرفة كمها بالقياس، بل هناك عناصر مهمة تتدخل في تكوينها، وهي العناصر المعنوية والروحية، التي لا يكتمل وصف الظاهرة الإنسانية، دون الرجوع إليها، ولا يمكن ردها إلى المحسوس، ولا عزلها عن محيطها، ولا إخضاعها للقياس الكمي، ولا تخضع لقانون ثابت أبدا. مثال: تأثير الفقر والحرمان على شخصين مختلفين، فقد يؤدي الفقر والحرمان، عند أحدهما إلى اليأس من الحياة فينتحر، هربا من المشكلة. وقد يدفع بالآخر إلى الجد والاجتهاد والثبات والأمل، وبالتالي إلى قهر المشكلة والتغلب عليها. ويعود ذلك إلى اختلاف الشخصين في مدى حظهما من الإيمان العميق، وسلامة الشخصية، ونوع التربية، وسداد الفكر. (43)

كما أن من الأخطاء المنهجية، كما يرى الدكتور محمد المبارك، ما هو ناشئ من عدم التفريق، في الظواهر الاجتماعية، بين نوعين من الموضوعات والحقائق في البحث العلمي، مع اختلافهما الواضح:  1 – الحوادث الاجتماعية التي هي تحت سمعنا وبصرنا، مما يمكن مشاهدته وجمعه ودراسته ووصفه وتصنيفه، مثال: دراسة الفرق الإسلامية، ودراسة تطور اللغات، ومعاني مفرداتها، ومبادئ التنظيم والإدارة، والكفاية الإنتاجية، والتدريب المهني…

2 – الأمور التي لا يمكن إخضاعها لطرق البحث العلمي الدقيق، وهذا القسم كثرت فيه النظريات، ولا سبيل للالتزام بإحداها، لأنها ليست من الحقائق العلمية، التي لا يختلف فيها اثنان، ويمكن اعتبارها من قبيل ميتافيزيقا علم الاجتماع، القائم على الظن والتخمين.  ومواضيع هذا القسم، تشابه مواضيع أصل المادة ونشوئها وخلقها في علوم الطبيعة، فالنظريات هنا ليست من اختصاص عالم الفيزياء والكيمياء، وإنما من اختصاص فلسفة العلوم. ومثيلاتها في علم الاجتماع، تدخل في فلسفة علم الاجتماع، لا علم الاجتماع. مثل نشأة الأديان، وأصول اللغات، وطبيعة الأخلاق، ونشأة مختلف النظم الاجتماعية، كالأسرة والزواج ..(44)

ب – عدم واقعية تحييد القيم: تحييد القيم، لا يعني أن عالم الاجتماع شخص بلا قيم، ولكن عليه أن يبذل جهدا، لكي يعلق قيمه كما يعلق معطفه، فإن تصوراته ومقاييسه الخاصة عن الحقيقة، سوف تتسلل إلى بحوثه وتحليلاته الاجتماعية. وهذا ما يخالف مهمته، التي هي الملاحظة والوصف والتحليل والتفسير فقط. ولا يجوز أن يعدوها إلى غيرها، كأن يقف موقفا نقديا، أو أن يبدي وجهة نظر معينة، أو أن يصدر حكما تقويميا. لأن الحقيقة خارج الذات والرغبة والمعتقد، ولا علاقة لها بما يشعر به الباحث. (45)

هل طبق العلماء الغربيون هذا المبدأ؟ يؤكد المختصون من العلماء: أن عالم الاجتماع بالنظر إلى الموضوعات التي يبحثها، من أنظمة الحكم، والأسرة، والاقتصاد، والاجتماع، لا يمكن إلا أن يتأثر، بأطر مجتمعه الدينية والاقتصادية والأسرية المحيطة بتلك الأبحاث.

فقد أكد الفيلسوف المربي الأمريكي، جون ديوي: ” أن الإدراك، وهو أول ثمرة للملاحظة الحسية، لا يمكن أن يكون محايدا، وإنما يتأثر دائما بخلفيات الملاحظ السابقة، وحظه من المعرفة، وبذكائه “. (46) فأحكام الباحثين تتأثر بالخلفية المعرفية لهم. ” وهذا هو السبب الذي دعا عالم الاجتماع الأمريكي: روبرت مرتون لأن يعترف بأن في الولايات المتحدة، خمسة آلاف عالم لكل واحد منهم علم الاجتماع الذي يخصه وحده، وذلك بنتيجة تعدد العقائد الخاصة بكل عالم، رغم انتماء  غالبيتهم إلى عقيدة المجتمع الرأسمالي “. (47)

وينتقد الدكتور المختص في علم النفس، فؤاد أبو حطب، الاتجاه الذي يتصور أن العلم سواء أكان علما طبيعيا، او اجتماعيا أو إنسانيا، ذو طبيعة محايدة ثقافيا، ويقول: إن هذا الاتجاه ” يتجاهل ما في العلم من تحيز ثقافي، لا يتفق مع الصورة التي تقدمها الدراسات والعلوم، التي أجراها علماء النفس في الغرب أنفسهم، حول مسيرة هذا العلم “. (48)

إن تحييد القيم، تحت شعار الاستقلالية والعلمية، تسبب في التشرذم المعرفي في الحداثة الغربية، ” فالأزمات الاجتماعية المحيقة بحياتنا المعاصرة [ تعود ] إلى عملية العقلنة الغربية نفسها، التي حولت الدين والأخلاق إلى دوائر معرفية، مستقلة، عن الدوائر المعرفية والاجتماعية الأخرى، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس. إن التفسخ الاجتماعي، والتحلل الأخلاقي، الذي يطبع الحياة في المجتمعات الحديثة، ناجم عن فصل الأخلاق والقيم والتصورات العلوية، وفي مقدمتها الشعور بالمسؤولية أمام الله، عن التفكير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي. فالاقتصادي الحداثي اليوم، يحكم على الفعل الاقتصادي بأنه ناجح، طالما أدى إلى تحقيق ربح مادي، غير آبه بآثار هذا الفعل، على المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، وغير مكترث فيما إذا نجم الربح عن ظلم أو استغلال “.(49)

ج – الارتباط الوثيق بالفلسفات والعقائد المختلفة: العلوم الاجتماعية والإنسانية، لها خلفيات إيديولوجية، ولا تقدم أبحاثا تخدم المعرفة، وإنما تقدم أبحاثا تخدم أوضاع العلماء المنشئين لها وعقائدهم ” والدليل على ذلك انقسام علم الاجتماع إي قسمين، هما: علم الاجتماع الماركسي، وعلم الاجتماع الغربي الليبرالي. وطبيعة هذا الانقسام تعود بالدرجة الأولى، إلى التصورات العقدية ، والأطر الفكرية للباحثين،  حول الإنسان والمجتمع والتاريخ “.(50)  ويستشهد الدكتور فؤاد أبو حطب بكتابات أحد علماء النفس في الغرب” جلجن ” حول ” التنبيه إلى الطابع الثقافي ثم الإيديولوجي للعلم وبخاصة العلوم ذات الطبيعة الاجتماعية والإنسانية “. (51)  ويقول الدكتور أحمد إبراهيم خضر ” العلوم الاجتماعية ليست علوما محايدة، إنها علوم عقائدية (…) أقر بذلك ( عزت حجازي)، وأقر به (غالي شكري)، ونقله (حيدر إبراهيم) عن (إدوارد سعيد) الذي سلم، بأنه ما من أحد ابتكر أبدا طريقة لفصل الباحث عن ظروف الحياة وعن حقيقة انشباكه، واعيا أو لا واعيا، في طبقة ومعتقدات ومنزلة اجتماعية “. (52)  كما ينقل عن جلال أمين ” صُورت لنا النظريات الغربية، على أساس أنها تتجاوز حدود الزمان والمكان، وواقع الأمر، إنها كانت تنقل لنا تحت ستار العلم، قيم العالم الغربي وأفكاره (…) تخلينا عن ديننا وعقيدتنا وعن تصوراتنا عن الكون والإنسان والحياة، واستبدلناها بقيم الغرب وأفكاره “. (53) 

ويرى الدكتور أحمد زايد: أن نظريات علماء الاجتماع الغربيين، والذين ننقلها عنهم على أنها علوم محايدة، هي نظريات متحيزة لمجتمعهم ونظامهم ” أعمال علماء الاجتماع الغربيين ونشاطهم الفكري، لم تنفصل عن التيارات الفكرية والأخلاقية السائدة حولهم، فالتطورات الكبرى في علم الاجتماع، قد نمت أثناء أزمات سياسية واقتصادية، كانت المجتمعات الغربية تمر بها (…) وكان على علماء الاجتماع، أن يقدموا لمجتمعاتهم صياغة نظرية، تمكنهم من تخطي هذه الأزمات “.(54)     

انتهى القسم الثاني، من بحث أثر العلم في بناء الحضارات، ويلي بمشيئة الله ،القسم الثالث، المتعلق بالمنهج المتوازن المطلوب، في دراسة الظواهر الاجتماعية


المراجع:

1 – منصور زويد المطيري: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع، سلسلة كتاب الأمة، العدد 33، ص13

2 – د.أبو بكر أحمد باقادر: حاجة طالب العلم الشرعي للعلوم الاجتماعية، ص11

3 – د . أبو بكر أحمد باقادر: =             =        =                     ص14

4 – د . معاذ عليوي: لماذا نحن بحاجة لعلم الاجتماع، شبكة الألوكة، 29/ 12/2016

5 – مصطفى علوش، مقال: في الحاجة إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، موقع هيسبرس، يونيو 2019

6 – هشام الشامي: مدون مغربي، مدونات الجزيرة

7 –  د . أبو بكر أحمد باقادر: المصدر نفسه، ص12

8 – د . أحمد إبراهيم خضر: اعترافات علماء الاجتماع، كتاب المنتدى، ص8

9 – د . أحمد إبراهيم خضر،               المصدر نفسه ص13- 15

10 –   =                                       =                  ص128

11 – د . عدنان محمد زرزور: التوجيه الإسلامي للعلوم والمعارف، مؤسسة الرسالة، ص9

12 –           =                         المصدر نفسه                ص8

13 –           =                         المصدر نفسه                ص15

14 –       =                     المصدر نفسه                    ص23

15 –     =                      المصدر نفسه                 ص13-14

16 –     =            المصدر نفسه               ص10

14

17– د . محمد محمد  امزيان: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص31

18 –    =                                            المصدر نفسه                                   ص32

19 – مصطفى عبد الرازق،:الدين والوحي والإسلام، مؤسسة هنداوي، ص19

20 – د . محمد محمد امزيان:      المصدر نفسه ص33

21 –            =                  المصدر نفسه  ص34

22 – علي شريعتي: العودة إلى الذات، والنقل عن محمد امزيان، المصدر نفسه، ص35

23 –  محمد محمد امزيان: المصدر نفسه، ص35

24 – شريعتي: العودة إلى الذات، والنقل عن امزيان، المصدر نفسه، ص36

25 – سان سيمون: والنقل عن امزيان، المصدر نفسه، ص36

26 –   =               والنقل عن امزيان، المصدر نفسه، ص36

27 – د ز محمد امزيان: المصدر نفسه، ص37

28 – سان سيمون: النقل عن امزيان، المصدر نفسه، ص37

29 –   =               والنقل عن امزيان، المصدر نفسه، ص38

30 – د . محمود عودة: نشأة علم الاجتماع، وانقل عن منصور زويد المطيري، المصدر نفسه، ص45

31 – منصور زويد المطيري: المصدر نفسه، ص43

32 –          =                      =      ص43

33 –         =                      =          ص46

34 – زيغريد هونكة: شمس العرب تسع على الغرب، ترجمة: فاروق بيضون- كمال دسوقي، ص361

35 –         =                              =                                                       ص362

36 – المطيري: المصدر نفسه،      ص24

37 –      =              =                ص55

38 –      =               =              ص76

39 – ينظر للتفصيل، د . محمد محمد امزيان:  المصدر نفسه، ص51 حتى ص56

40 –د . سامية محمد جابر: منهجية البحث في العلوم الاجتماعية، والنقل عن المطيري، المصدر نفسه، ص57

41 – د . إبراهيم عبد الرحمن رجب: بحث حول منهج التوجيه الإسلامي للعلوم، مركز خطوة للتوثيق والدراس

15

  42– د . أحمد عبد الحليم: نحو صيغة إسلامية للبحث الاجتماعي والتربوي، والنقل عن منصور زويد المطيري، المصدر نفسه، ص60

43 – د . توفيق الطويل: إشكالية العلوم الاجتماعية – أنها ليست علوما – والنقل عن المطيري، المصدر نفسه، ص60

44 – د. محمد المبارك: نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع، مجلة المسلم المعاصر، العدد 12، والنقل عن امزيان، المصدر نفسه، ص78-79

45 – منصور زويد المطيري: المصدر نفسه،ص65-66

46 –       =                           =       ض70

47 – د . سمير نعيم أحمد: النظرية في علم الاجتماع، والنقل عن المطيري، ص71

48 – د . إبراهيم عبد الرحمن رجب: التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، دار عالم الكتب الرياض،ص55-56

49 – لؤي صافي: بحث الفكر الإسلامي وأزق الحداثة، موقع تأملات

50 – منصور زويد المطيري: المصدر نفسه، ص72

51 – د . إبراهيم رجب: المصدر نفسه، ص52

52 – د . أحمد خضر: المصدر نفسه، ص 19

53 –        =          = ص20

54 – د . أحمد زايد: علم الاجتماع، النظريات الكلاسيكية والنقدية، ص52

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى