دين ودنيا

سيرة الزبير بن العوام رضي الله عنه واستشهاده

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، ويجتمع مع النبي ﷺ في قصي، وهو حواري رسول الله وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد أصحاب الشورى، أسلم وهو حدث وله ست عشرة سنة، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله ﷺ، وقد تعرّض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روي أن عمّ الزبير كان يعلق الزبير في حصير، ويدخن عليه بالنار وهو يقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.

1 – أول من سل سيفه في سبيل الله:

عن سعيد بن المسيب، قال: أول من سلّ سيفه في ذات الله الزبير بن العوام، وبينما الزبير بن العوام قائل في شعب المطابخ، إذ سمع نغمة: أن رسول الله ﷺ قُتِل، فخرج من البيت متجرداً السيف صَلْتاً، فلقيه رسول الله ﷺ كَفَّةَ كَفَّةَ، فقال: «ما شأنك يا زبير؟» قال: سمعت أنك قُتِلْت، قال: «فما كنت صانعاً؟» قال: أردت والله أن أستعرض أهل مكة، قال: فدعا له النبي ﷺ بخير. قال سعيد: أرجو أن لا تضيع له عند الله عز وجل دعوة النبي ﷺ.

2 – هجرته للحبشة:

ولما اشتد إيذاء قريش لرسول الله ﷺ ولأصحاب الحبيب ﷺ، وأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة ليكونوا في جوار النجاشي ذلك الملك العادل، فكانوا عنده بخير دار مع خير جار، وظلوا على تلك الحال من الأمن والاستقرار إلى أن نزل رجل من الحبشة لينازع النجاشي في الملك، فحزن المسلمون لذلك حزناً شديداً، وخافوا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي وهو لا يعرف حق الصحابة الأطهار ولا يعرف قدرهم، وهنا أراد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن يعرفوا أخبار الصراع الدائر بين النجاشي وبين هذا الرجل ـ على الجانب الآخر من النيل.

قالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ: فقال أصحاب رسول الله ﷺ: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا؛ قالوا: فأنت، وكان من أحدث القوم سناً. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدْره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: فَدَعَوْنَا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، قالت: فو الله إنّا لَعلَى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشِرُوا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه ومكن له في البلاد.

بعد رجوع الزبير من الحبشة إلى مكة قام في كنف الحبيب المصطفى رسول الله ﷺ، يتلقى منه مبادئ الإسلام وأوامره ونواهيه، وعندما هاجر رسول الله ﷺ للمدينة كان الزبير من ضمن المهاجرين إليها.

3 – في غزوة بدر:

كان الزبير رضي الله عنه فارساً مقداماً، وبطلاً مغواراً، لم يتخلَّف عن مشهد واحد من المشاهد، تراه في كل غزوة وفي كل معركة، فقد اتصف بالشجاعة الخارقة، والبطولة النادرة، والإخلاص الكامل، والتفاني لإعلاء كلمة الحق، ولقد بذل الزبير رضي الله عنه الكثير في سبيل الله، وجعل نفسه وماله وقفاً لله ـ عز وجل ـ، فأكرمه الله ورفعه في الدنيا والآخرة، فقد كانت عليه عمامة صفراء معتجراً بها يوم بدر، فعن عروة أنه قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيماء الزبير. فيالها من منقبة لا توازيها الدنيا بما فيها، وفيه يقول عامر بن صالح بن عبد الله بن الزبير:

جدّي ابنُ عمّةِ أَحْمَدَ وَوَزِيرُهُ           عِنْدَ البلاءِ وَفَارِسُ الشَّقْراءِ

وَغَدَاةَ بَدْرٍ كَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ            شَهِدَ الوَغَى في اللأَّمَةِ الصَّفْراءِ

نَزَلَتْ بِسِيمَاهُ المَلائِكُ نُصْرَةً           بِالحَوْضِ يومَ تَـآلَبَ الأعْدَاءُ

وعن الزبير قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يُرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه فطعنته في عينه فمات، قال الزبير: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت، فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها. فسأله إياها رسول الله فأعطاه، فلما قبض رسول الله ﷺ أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قُتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل.

هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع، فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جداً لكونه قد حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف.

وقد كان يوم بدر مع رسول الله ﷺ فارسان: الزبير على فرس على الميمنة، والمقداد بن الأسود على فرس على الميسرة.

4 – في غزوة أحد:

قال الزبير رضي الله عنه: جمع لي النبي ﷺ أبويه يوم أحد. وهذا دليل على قتاله وبأسه في تلك المعركة، فقد اتَّصف رضي الله عنه بالثبات والعزيمة وحب الشهادة في سبيل الله تعالى، وقد وصف لنا رضي الله عنه ما فعله أبو دجانة الأنصاري في تلك الغزوة، فعندما التحم الجيشان واشتد القتال، وشرع رسول الله ﷺ يشحذ في همم أصحابه، ويعمل على رفع معنوياتهم، وأخذ سيفاً وقال: «من يأخذ مني هذا؟» فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أناـ وكان من ضمنهم الزبير ـ، قال: «فمن يأخذه بحقه؟» فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به العدو حتى ينحني» قال: أنا آخذه بحقه. فدفعه إليه، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب ـ أي: يمشي مشية المتكبر ـ وحين رآه رسول الله ﷺ يتبختر بين الصفين. قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن». ووصف الزبير بن العوام ما فعله أبو دجانة يوم أحد فقال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله ﷺ السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع! فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب، فخرج وهو يقول:

أَنَا الّذِي عَاهَدَني خَلِيلِي                       وَنَحْنُ بالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلَ

أَنْ لا أقومَ الدَّهْرَ في الكُيُولِ                  أَضْرِبُ بِسَيْفِ اللهِ والرَّسُولِ

فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان من المشركين رجل لا يدع جريحاً إلا ذفف عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم، قال أبو إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنساناً يحمس الناس حماساً شديداً، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.

وعن هشام، عن أبيه، قالت عائشة: يا بن أختي كان أبواك ـ يعني الزبير وأبا بكر ـ من  ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: 172].

لمّا انصرف المشركون من أحد، وأصاب النبي ﷺ وأصحابه ما أصابهم، خاف أن يرجعوا، فقال: من ينتدب لهؤلاء في آثارهم، حتى يعلموا أنّ بنا قوة، فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين، فخرجوا في آثار المشركين، فسمعوا بهم فانصرفوا، قال تعالى:  ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران: 174] لم يلقوا عدواً.

ولما استشهد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في أحُد جاءت أم الزبير صفية بنت بعد المطلب لتنظر إلى أخيها وقد مثل به المشركون، فجدعوا أنفه، وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله ﷺ لابنها الزبير بن العوام: «القَها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها»، فقال لها: يا أمه إن رسول الله ﷺ يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه إلى رسول الله، فأخبره بذلك، قال: خلِّ سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت، واستغفرت له.

وجاء في رواية عن عروة قال: أخبرني أبي؛ الزبير: أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي ﷺ أن تراهم، فقال: «المرأة المرأة». قال الزبير: فتوسمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فَلَدمَتْ في صدري، وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك، لا أرضَ لك. قال: فقلت: إن رسول الله ﷺ عزم عليك. قال: فوقفت، وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فإذا إلى جانبه رجل من الأنصار قتيل، قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياءً أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفَّنَّا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له.

5 – في غزوة الخندق: «لكل نبي حواري وحواري الزبير»:

قال رسول الله ﷺ يوم الخندق: «من يأتينا بخبر بني قريظة؟» فقال الزبير: أنا، فذهب على فرس، فجاء بخبرهم. ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبي ﷺ: «لكُلِّ نبيٍّ حواريّ، وحواريَّ الزبير». ومعنى قوله ﷺ: «وحواري الزبير»: أي: خاصتي من أصحابي، وناصري، ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام؛ أي خلصاؤه وأنصاره؛ فالحواري: هو الناصر المخلص، فالحديث اشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا.

وجاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: فإن قلت: الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء؛ فما وجه التخصيص به؟ قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: «من يأتيني بخبر القوم؟» قال الزبير: أنا، قال: «من يأتيني بخبر القوم؟» فقال: أنا، وهكذا مرة ثالثة، ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره.

وقد فداه رسول الله ﷺ يوم الأحزاب بأبيه وأمه؛ فعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب، جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء، فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف، قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله ﷺ قال: «من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟» فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله ﷺ أبويه فقال: «فداك أبي وأمي».

وهذا الحديث فيه منقبة ظاهرة للزبير رضي الله عنه؛ حيث فداه رسول الله ﷺ بأبويه، وفي هذه التفدية تعظيم لقدره، واعتداد بعمله، واعتبار بأمره، وذلك لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه، فيبذل نفسه أو أعز أهله له.

لقد نال الزبير في غزوة الخندق وساماً خالداً باقياً على مر السنين: «لكل نبي حواري، وحواري الزبير». لقد وصف النبي ﷺ الزبير بالحواري، وهو وصف عميق الدلالة واسع المفاهيم، والدارس لهذه المعاني يدرك أبعاد كلمة الحواري، ويتبين معالمها ويعرف أسرارها وأغوارها، وأكثر من يحتاج إلى العناية بهذه المفاهيم هم العلماء والدعاة والمربون، لأن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى إعداد الحواريين ليقدموا نماذج حية في الأسوة والقدوة؛ لأن القدوة العملية أقوى وأشد تأثيراً في نشر المبادئ والأفكار؛ لأنها تجسيد وتطبيق عملي لها، يسهل مشاهدتها والتأثر والاقتداء بها، ولأن الحواريين يأخذون بسنة الرسول ﷺ ويقتدون بأمره، كما جاء في الحديث: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره».

ومن سنن الدعوات: أن مسيرتها تمرُّ بالفتن والمحن، وتبتلى من أصدقائها وأعدائها، وحرص الرسول ﷺ على إرشاد المسلمين إلى هذه المتغيرات والحوادث فقال: «ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون». فما مهمة الحواري؟ القدوة الحسنة، والإيمان التطبيقي، والإخلاص، والفداء التي هي أبرز صفات الحواريين، فيكون مثال حقيقي ـ لورثة الأنبياء ـ، فيسعى لنشر الحق والخير، وهداية الأمة والنهوض بها من كبوتها، ويضحي في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس ليجدد للإسلام شبابه ونضارته، في الوقت الذي يكون ساقطو الهمة لا همَّ لهم إلا مصلحتهم الشخصية.

والزبير بن العوام رضي الله عنه نموذج فذ في تجسيد هذه المعاني، فقد تربى في أحضان الدعوة على يدي النبي ﷺ، وتلقى الجرعات المطلوبة لتحمل أعبائها منذ شبابه الباكر، وموقف الزبير في غزوة الأحزاب يصور لنا شخصيته ونشأته على الجرأة والنصرة، ومحبته للرسول ﷺ، وأثبتت الأيام أنه كان رضي الله عنه رجل المهمات الصعبة، فقد اتصف بالجرأة والإقدام، فكلف بمهمة كشف أسرار العدو، وما حدث مع الزبير يشير إلى مشروعية تقسيم الأعمال، وتصنيف الدعاة كل حسب إخلاصه وفدائيته وتضحيته ومواهبه وطاقته.

هذا وقد شارك الزبير في كل غزوات الرسول وكان له مواقف مشرفة، وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة في فتوحاتها الكبيرة رضي الله عنه.

6 – في غزوة اليرموك:

عن عروة: أن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشدُّ فنشد معك؟ فقال: إني إن شددت كذبتم، فقالوا: لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مُقبلاً، فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر. قال عروة: أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير. قال عروة: وكان معه عبد الله بن الزبير يومئذ، وهو ابن عشر سنين، فحمله على فرس ووكَّل به رجلاً. قال الذهبي في السيَر معلقاً: هذه الوقعة هي يوم اليمامة إن شاء الله، فإن عبد الله كان إذ ذاك ابن عشر سنين، وذكر ابن كثير: أن الموقعة هي اليرموك، ولا مانع من وقوع ذلك في الموقعتين، فقد قال ابن كثير: وقد كان فيمن شهد اليرموك: الزبير بن العوام، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ، فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟ فقال: إنكم لا تثبتون. فقالوا: بلى. فحمل وحملوا، فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو، فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر، وعاد إلى أصحابه. ثم جاؤوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجُرح يومئذ جُرحين بين كتفيه وفي رواية: جُرح. ويقول ابن كثير مرة أخرى: خرج مع الناس إلى الشام مجاهداً، فشهد اليرموك، فتشرَّفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين، من أولهم إلى آخرهم.

7 – في فتح مصر:

ولما قصد عمرو بن العاص مصر لفتحها كان معه قوّات لم تكن كافية لفتحها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويطلب المدد من الرجال، فأشفق عمر من قلة عدد قوات عمرو، فأرسل الزبير بن العوام مع اثني عشر ألفاً، وقيل: أرسل عمر أربعة آلاف رجل، عليهم من الصحابة الكبار: الزبير، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، وقال آخرون: خارجة بن حذافة هو الرابع، وكتب إليه: إني أمددتك بأربعة آلاف، على كل ألف منهم رجل مقام ألف. وكان الزبير على رأس هؤلاء الرجال. وحين قدم الزبير على عمرو وجـده محاصراً حصن بابليون، فلم يلبث الزبير أن ركب حصانه وطاف بالخندق المحيط بالحصن، ثم فـرّق الرجال حول الخندق، وطال الحصار حتى بلغت مدته سبعة أشهر، فقيل للزبير: إن بهـا الطاعون. فقال: إنا جئنا للطعن والطاعون. وأبطأ الفتح على عمرو بن العاص، فقال الزبير: إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتـح الله بذلـك على المسلمين. فوضع سُلمـاً وأسنده إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعـاً، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبِّرُ ومعه السيف، فتحامل الناس على السُّلَّم حتى نهاهم عمرو؛ خوفاً من أن ينكسر، فلما رأى الروم أن العرب قد ظفروا بالحصن انسحبوا، وبذلك فتح حصن بابليون أبوابـه للمسلمين، فانتهت بفتحه المعركة الحاسمة لفتح مصر، وكانت شجاعة الزبير النادرة السبب المباشر لانتصار المسلمين على المقوقس.

8 – غيرة الزبير بن العوام رضي الله عنه:

عن أسماء بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنها ـ قالت: تزوَّجني الزبير ـ رضي الله عنه ـ وماله في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته وأسُوسُه، وأدقُّ النوى للناضحة، وأعلفه وأسقيه الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أُحسن أخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ﷺ على رأسي، وهي على ثُلُثي فرسخ، قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفر من أصحابه فدعا لي، ثم قال: أخ خ، ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته. قالت: وكان من أغير الناس. قالت: فعرف رسول الله ﷺ أني قد استحييت، فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله ﷺ وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملُك النوى كان أشدَّ عليَّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني.

المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، (2004)، مكتبة الصحابة، الشارقة، الإمارات، ج1، صفحة 618:600.

* رياض العبدالله، أهل الشورى الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، (1992)، دار الرشيد، بيروت، ط1، صفحة 67.

* محمد أحمد الذهبي، تاريخ الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين، (1987)، دار الكتاب العربي، ط1، صفحة 501.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى