بحوث ودراسات

مراجعات للبطريرك 10 من 12

محمد القدوسي

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

مراجعة تشريعية

8 ـ مطالب طائفية

الواقع هو محطتنا الثالثة ـ والأخيرة ـ فى المراجعة التشريعية التى نجريها ضمن «مراجعات للبطريرك»، وعلى أرض الواقع نرصد ثلاثة أخطاء، أو أخطار، أولها طرح «مطالب الأقباط» معزولة عن «الظرف العام». وثانيها الخلط الطائفى بين الهويات الدينية والسياسية والوطنية، وبين «الدولة» و«النظام الحاكم». وأخيرا اعتبار «الأقباط» هم كل «غير المسلمين» فى مصر. الخطأ الأول، أشار إليه صراحة الحكم الصادر عن مجلس الدولة (محكمة القضاء الإدارى ـ دائرة منازعات الأفراد والهيئات) بتاريخ الثلاثاء 12 من ابريل 1983م، أى منذ 27 عاما، وهو الحكم الذى فتح الباب أمام عودة «الأنبا شنودة»، بأن ألغى قرار رئيس الجمهورية الصادر فى 3 من سبتمبر 1981 فى شقه الخاص بـ«تعيين لجنة خماسية للقيام بالمهام البابوية»، مع تأييد صحة ما تضمنه القرار من تنحية البطريرك عن منصبه، لأنه ـ وحسب الوارد فى حيثيات الحكم وأسبابه ـ سعى «إلى إثارة شعور الأقباط لحشدهم حوله، واستغل ذلك فى الضغط على سلطات الدولة لإجابة بعض المطالب القبطية فى مسائل عامة تهم الشعب المصرى كله، مثل السماح ببناء الكنائس بغير قيود، وتمثيل الأقباط فى المناصب السياسية ووظائف المحافظين ورؤساء المدن، ووظائف مجالس إدارة شركات القطاع العام، وما أطلق عليه اسم عدم الاستيلاء على الأوقاف القبطية، وعدم ترغيب المسيحيين فى الإسلام، وغير ذلك من المطالب التى وردت بمذكرة المستشار القانونى للبطريركية». ووصف الحكم هذه المطالب بأنها «مطالب طائفية» وهى بالفعل كذلك، ما يعنى أنها تمثل نكوصا، لا تقدما، نحو الديمقراطية المنشودة. وتقسم «الوطن» إلى «حصص» على نحو يجعل «الطائفية» نظاما عاما، يؤدى بالضرورة إلى«الصراع». ذلك أن التمثيل ـ بنسبة أو بحصة ـ على أساس دينى أو عرقى، يعنى أن كل طرف سيسعى لزيادة حصته، وأن «الطائفية» ستهيمن على الروابط والتفاعل (الجدل) بين أبناء الوطن الواحد، مثلما نرى فى الدول التى تأخذ بنظام «المحاصة» والتى تسعى إلى الخروج من نفقه، بينما هناك من يريد لمصر أن تدخل ظلماته!

كان البطريرك ـ كما أشار حكم مجلس الدولة ـ يطالب منذ ثلاثة عقود بحصة فى وظائف مجالس إدارات شركات القطاع العام، ما يعنى أن بيع هذه الشركات ـ كما حدث فعلا  ـ كان سيعتبر «اضطهادا للأقباط»، ويوجب أن توضع «حصتهم» فى الاعتبار مع تتالى خطوات البيع، بحيث يزاد عدد المعينين منهم فى الشركات الباقية، إن أدى بيع بعضها إلى «تخفيض الحصة»، أما إن أدى البيع إلى زيادة «التمثيل النسبى» للأقباط فيما تبقى من شركات، فالواجب ـ فى المقابل ـ هو فصل عدد منهم. تعيين وفصل «على الهوية» بغض النظر عن الكفاءة والخبرة، وعن مصلحة العمل ومصلحة الوطن، فأى عبث هذا؟ وأية مزايدة يضعنا فيها هؤلاء الذين يطالبون بإلغاء خانة الديانة فى البطاقات الشخصية، بينما هم فى الوقت نفسه يريدون إدراجها فى عقود العمل ومناصب السياسة؟

أية مزايدة يقوم بها هؤلاء الذين يطالبون ـ مازالوا ـ بتشريع يتيح لهم «حق» ترميم الكنائس، برغم صدور القرار الجمهورى رقم 13 لسنة 1998، الذى نقل اختصاص ترميمها للمحافظين، ليصبح ترميم دور العبادة كلها ـ من مساجد وكنائس ـ خاضعا لقانون الإدارة المحلية رقم 43 لسنة 1979، وما يحيل بشأنه إلى قانون أعمال البناء الصادر فى 1976؟

وعلى ذكر الترميم، أسأل: هل مصر ـ الدولة ـ هى التى تعرقل ترميم «دير السلطان» فى القدس؟ أم إن عدم ترميمه مسؤولية مشتركة بين الكيان الصهيونى ـ الذى قال البعض إن «الكتلة القبطية الكبيرة فى مصر هى التى تحاول منع مصر من أن تتحول إلى دولة إسلامية جهادية معادية له»، وبين كنيسة الأقباط الأرثوذكس والكنيسة الأرثوذكسية فى الحبشة؟

إن مقارنة واقع هذا الدير وتاريخة، بما يقال عن الترميم ودعاوى الاضطهاد تكشف الحجم المروع للمزايدة والمغالطة والتضليل.

الواقع يقول إن وضع مبنى الدير خطير للغاية، وإنه يعرض حياه الرهبان والمصلين والزوار للخطر، فالجدران متصدعة، والرطوبة تأكل أركانه، مع خلل فى خطوط الكهرباء والماء.

والتاريخ يقول إن «السلطان» الذى تسمى به الدير هو «السلطان صلاح الدين الأيوبى» الذى استرد القدس من يد الصليبيين، فى 2 من أكتوبر 1187م، وكان هذا الدير بين ما استعاده من ممتلكات، وقد أهداه السلطان إلى الكنيسة القبطية، ليكون مسكنا للأقباط المقيمين فى القدس، وعلى هذا فالدير ـ الموشك على الانهيار ـ ملك للكنيسة القبطية منذ ذلك التاريخ، واسم الدير «دير السلطان» هو أحد أقوى أسانيد الكنيسة التى تؤكد ملكيتها له. وهى ملكية تنازعها فيها  الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية، التى بدأت صلتها بالدير فى العام 1668م، أى بعد نحو خمسة قرون من ملكية الكنيسة القبطية المستقرة له. والقصة تقول إن «القبطية» ـ ولأنها تعتبر «الإثيوبية» تابعة لها ـ استضافت الرهبان الإثيوبيين، بعد أن فقدت كنيستهم ممتلكاتها فى القدس، داخل وخارج كنيسة القيامة، حيث عجزت عن دفع الضرائب، وعرضت كنائس الأرمن الأرثوذكس والكاثوليك على السلطات العثمانية أن تدفع الضرائب، وتحصل على ممتلكات الكنيسة الإثيوبية! فوافقت السلطات، لتفقد «الإثيوبية» مقرها فى كنيسة القيامة، ويحل رهبانها ضيوفا على «دير السلطان». لكنهم وبدلا من أن يحسنوا رد الجميل، راحوا ـ وبسرعة ـ يحاولون فرض سطوتهم على المكان، والاستيلاء عليه. وفى ابريل 1970، وبعد أن حكم قضاء الاحتلال الصهيونى لصالح الكنيسة الإثيوبية، فى الدعوى التى رفعتها لإثبات ملكيتها المزعومة للدير، اقتحمت قوات الاحتلال الدير، حيث فتحت أبواب الكنائس والغرف عنوة، وبدلت أقفالها، ولم تسمح للكنيسة القبطية إلا بوجود واحد من رهبانها فى الدير بشكل دائم.  حكم استأنفته «القبطية» أمام المحكمة العليا، التى أقرت فى 16 من مارس 1971 بملكية الكنيسة القبطية للدير. لكنه حكم مازال «الصهاينة» يماطلون فى تنفيذه حتى اليوم (قارن هذا بالتنفيذ السريع للحكم/المؤامرة الصادر لصالح الكنيسة الإثيوبية، ثم قارن انتهاك سلطات الاحتلال الصهيونى لحرمة دير قبطى بحديث بعض الأقباط عن المصلحة المشتركة بينهم وبين منتهكى حرماتهم)!

وملخص الوضع الآن أن الكنيسة الإثيوبية تسيطر على مبنى «دير السلطان» وتطلب ترميمه قبل أن ينهار، والكنيسة القبطية تحمل وثائق ملكيته مدعومة بحكم قضائى، وترفض أن يقوم طرف غيرها بترميمه معتبرة هذا تطفلا، وسلطات الاحتلال ـ وبعد أن أوصلت الأمور إلى هذه النقطة ـ تقول لمسؤولى الكنيستين: اتفقوا، وسأتولى الترميم على نفقتى!

فهل يدرك المزايدون الحقائق التى سجلها التاريخ ويفصح عنها الواقع؟ هل يدركون أن الصليبيين أعداء، احتلوا بلادنا، واستولوا على ممتلكاتنا، التى استردها «السلطان» ليعيدها إلى أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين؟ وهل يدركون أن الكيان الصهيونى عدو صريح، لا يمكن أن تكون هناك مصلحة مشتركة بينه وبين أى من أبناء الوطن؟ ثم هل يدركون ـ كدرس مستفاد من رفض الكنيسة القبطية لترميم «دير السلطان» ـ أن هناك مسافة بين التشريع والتطبيق، تتحسن الأحوال لتضيق حتى تختفى، وتسوء لتتسع حتى تصبح عبئا وخللا ينبغى إصلاحه، مع ملاحظة أن إصلاح خلل فرضته الظروف على واقع الحال، لا يعنى الخروج على ثوابت القيم والتشريع؟ وهل يتوقف المزايدون عن ترديد ما وصفه حكم مجلس الدولة فى 12 من ابريل 1983 بأنه: «مطالب طائفية، تقتضى طبيعتها دراسات وأبحاثاً واسعة وعميقة متأنية على جميع المستويات الرسمية والشعبية، لتقدير ملائمتها، ومعرفة آثارها وانعكاساتها على كيان الدولة ونظام الحكم والإدارة فيها، فى ضوء أحكام الدستور القائم»؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى