بحوث ودراسات

المأساة السورية.. البدايات وجذور البلاء 5 من 6

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

الاحتجاجات الشعبية – أحداث حماة عام 1964

اتسمت إجراءات حكومة البعث منذ أيامها الأولى في 8 آذار بالشدة والعنف الدموي, ورأينا كيف كانت البدايات بإعلان حالة الطوارئ على الفور وتعطيل الدستور والقانون والقضاء, واستبدله بالأحكام العرفية, ومنذ تلك اللحظات شهدت سورية حملات اعتقال واسعة, وملاحقات وتسريحات من الجيش والوظائف الحكومية, ناهيك عن إجراءات أخرى تتعلق بالاقتصاد والتعليم والقضاء, والتضييق على الصحافة والإعلام, وتقييد نشاطات الأحزاب والسياسيين. ولم يكن هذا كله ليمر دون معارضة واحتجاجات, خاصة وأن البلاد حديثة عهد بأجواء الحرية والانفتاح السياسي, في ظل الحكم البرلماني الذي عاشته سورية منذ الاستقلال, على الرغم من كل ما شابه من حالة عدم الاستقرار نتيجة كثرة الانقلابات, ولهذا فقد كانت التظاهرات هي الرد الطبيعي على سياسات الحكام الجدد التي كانت غريبة كل الغرابة على الشعب السوري الذي لم يعهدها من قبل. وكثيرا ما كانت حركات الاحتجاج تنطلق من المدارس والثانويات والجامعات, ولعل من عاصر تلك الفترة يذكر كيف أن تجمعات بسيطة لعدد من الطلبة, كانت كافية لتحرك المئات وربما الآلاف, إذ ينتقل الطلاب المحتجون من مدرسة إلى أخرى ليتحول التجمع البسيط إلى تظاهرة حاشدة.

في دير الزور, حيث كنت أعيش, لازلت أذكر كيف أن عشرات الطلاب ينطلقون من ثانوية الفرات باتجاه مدرسة الصناعة المجاورة, التي كانت تمثل البؤرة الرئيسية للاحتجاج, وما أن يصلوا إليها حتى تتحول إلى مظاهرة عارمة قبل ان يتسامع بها طلبة المدارس الأخرى.. ومثل هذا كان يحدث في مدن أخرى, بل في أكثر المدن.  

كان أولئك الشباب يمثلون الجيل الأول بعد الاستقلال, بالإضافة لأولئك الذين عاصروا الاستقلال, وحرب فلسطين, ومرحلة الحكم الوطني البرلماني, ولهذا فلم يكن غريبا أن نرى تلك الحماسة المتقدة, التي تدفع الشباب للاستجابة إلى أية مبادرة وطنية بغض النظر عمن يقف وراءها..

لكن مما يؤسف له أشد الأسف, أن تلك الروح النضالية, لم تأخذ فرصتها, ولم تحظ بالرعاية الكافية, والتأطير السياسي والحزبي الصحيح, حتى عاجلها انقلاب البعث, وجابهها بالقمع والملاحقات والسجون, لسنوات متلاحقة, حتى ضعفت شيئا فشيئا, ولم تأت سنوات السبعينات حتى استحالت الساحة السياسية يبابا, وانعدمت تظاهرات الاحتجاج أو كادت, في وقت كانت التظاهرات في جنوب إفريقيا على أشدها, تطالب بإنهاء الفصل العنصري, وتحقيق المساواة بين السود والبيض, وكنا ونحن نشاهد تلك التظاهرات, نتمنى أن نتعرض لمثل ما يتعرض له المتظاهرون السود من هراوات الشرطة وعصيهم الكهربائية, بمقابل أن تعود إلينا من جديد روح التمرد والثورة.. لكن هيهات, فقد كانت القبضة الأمنية تُحكم حصارها على رقاب السوريين, وكانت سجون الموت, تحت التعذيب الفظيع بانتظار كل من تسول له نفسه بأن يحتج على السلطة, فضلا عن أن يتمرد عليها.

وبالعودة إلى احتجاجات السوريين في الستينات, فقد كان من الطبيعي جدا أن تضيق الجماهير ذرعا, بهذا الحكم الغريب عن طبيعة السوريين، وعن معتقداتهم وأفكارهم وتقاليدهم، فكان الناس يعارضون الحكم وسياساته, بالكتابات والمظاهرات والاحتجاجات، والإضرابات العامة والإضرابات المفتوحة للتجار والنقابات المهنية, وكانت مطالب الناس عامة ولم تكن فئوية أو حزبية, نظرا لأن الجميع تضرر من تلك السياسات الجائرة, وتطالب إجمالا بإطلاق الحريات واحترام الدستور وتحييد الجيش والعودة إلى الحكم البرلماني.

لكن تلك المطالب لم تكن لتروق لقادة الانقلاب, الذين كانوا قد عقدوا العزم على الشدة و”العنف الثوري”, أو بالأحرى “الدموي”, وقدموا مثالا صارخا في مواجهة محاولة الانقلاب الناصرية, التي جرى قمعها بدموية بالغة, لتكون عبرة لمن يعتبر.

  • أحداث حماة 1964:

لم تخرج احتجاجات حماة عام 1964, عن إطار الاحتجاجات العامة في عموم سورية, كما شهد بذلك كل السياسيين الذين عاصروا تلك الفترة, كما ينرى في سياق هذه الورقة, وبعضهم من قادة البعث, الذين شاركوا في محاولة تهدئة الأوضاع, وكتبوا مشاهداتهم من قلب الأحداث, وليس عن بعد كما فعل كثيرون فيما بعد.

كان ذلك بتاريخ 13 نيسان 1964, حين اعتقل طالب من الثانوية الصناعية على خلفية كتابة شعارات وشعارات مضادة بين طلاب بعثيين وآخرين إسلاميين, وفشلت الوساطات لإطلاق سراحه، ومما زاد الطين بلة, أن شبلي العيسمي وزير التربية والتعليم حينها, أصدر قرارا بنقل عدد من مدرسي الدين في المدينة، فأضرب طلاب المدارس الرسمية والخاصة احتجاجا على ذلك، وبعد يومين من الحادث خرج المصلون بعد صلاة الجمعة بمظاهرة احتجاج, قمعها الجيش بقسوة، وسقط على إثر ذلك قتيل وبعض الجرحى، واضطر المحتجون تحت وابل رصاص الشرطة والحرس القومي, للجوء إلى جامع السلطان بعد أن لاحقتهم قوات الجيش والأمن, وهو امر كثيرا ما يحدث.

تدخل الشيخ محمد الحامد، شيخ حماة وإمام المسجد, ونصح المتظاهرين بإنهاء اعتصامهم والخروج من المسجد، وتوسط مع ابراهيم الشيشكلي أحد وجهاء المدينة, لإنهاء الأحداث, لكن القادة العسكريين والأمنيين لم يُعطوهم الفرصة, وأصروا على اقتحام المسجد بحجة أن بعض المتظاهرين يحملون السلاح, وبادروا بقصف المسجد بالمدفعية والدبابات فهوت مئذنته وقُبّتُه, وقُتل فيه أكثر من خمسين شهيداً. واستمر حصار المسجد ثلاثة أيام انتهت باقتحامه واعتقال العشرات من المعتصمين من بينهم الشيخ مروان حديد.

وعندما رفع منع التجول ونزل الناس الى الاسواق والشوارع, هالهم ما رأوا من الدمار الذي حل بالمدينة وبصورة خاصة بجامع السلطان, وعرفوا أن أكثر من خمسين شهيدا قد قضوا تحت انقاض الجامع، بخلاف ما كانت وسائل الإعلام تذيعه من بضع قتلى وحسب, وكانت الابواب الحديدية للمخازن أمام الجامع ملوية من قوة الانفجارات بينما غطت الانقاض الطرقات المؤدية إليه، فسادت حالة من الغضب الشديد والتوتر, ومن جديد أُعطيت الأوامر يوم 17/4 بإعادة منع التجول، وصدرت الأوامر للقطعات العسكرية بما فيها الدبابات وناقلات الجنود المصفحة بالتحرك لبدء الحملة على المدينة.

في تلك الأحداث, برزت لأول مرة ظاهرة الاعتداء على المساجد وقصفها بالأسلحة وتدميرها بحجة مطاردة المتظاهرين, وكانت سابقة غريبة من نوعها أن تُنتهك حُرمة المساجد وتسيل فيها الدماء, لم تحدث حتى في أيام الاحتلال الفرنسي, حين كانت تُعقد المؤتمرات والاجتماعات, وتنطلق التظاهرات والاحتجاجات, في الجامع الأموي بدمشق, وتحت أعين الفرنسيين, دون أن تُقدم قواتهم على اقتحامه والاعتداء على حرمته, أو إيذاء من بداخله.

شاهد عيان حضر أيام الاحتلال الفرنسي, سجل في ملاحظاته قائلا: “أذكر ذلك جيدا خلال مظاهرات دمشق عام 1936 التي اشتركت فيها عندما كنت طالبا في كلية الحقوق، كان المتظاهرون يلجؤون الى الجامع الأموي عندما تشتد المطاردة فيقف الجنود الفرنسيون والسنغال امام ابوابه لا يطؤون حتى أعتابه”.

  • احتجاجات المدن السورية نصرة لحماة:

أثناء ذلك دخلت العديد من المدن في إضراب مفتوح, احتجاجا على ما يحدث في حماة, من بينها دمشق وحمص وحلب واللاذقية، وبدأت دوريات الحرس القومي تطوف الشوارع وتحطم أبواب المحلات التجارية وتتركها مفتوحة دون حراسة.

وكالة الصحافة المشتركة وصفت الوضع في دمشق كما يلي :

“بدأت جماعات الحرس القومي الذي يحمل كل منهم مخلا ومنشارا بفتح أبواب المخازن في قلب دمشق اليوم، وقد تحدى معظم أسواق دمشق الحكومة بالاستمرار بالإضراب، كما استمر في المدن السورية الاخرى، وقد ظهرت دلائل ازدياد النقمة الشعبية بانضمام المحامين الى الاضراب وقيام الزعماء الدينيين بشجب إراقة الدماء في حماه حيث قتل حوالي ثمانون شخصا، وتوقيع الاطباء عريضة احتجاج على احداث حماه، ودعوة نقابة المهندسين حكومة البعث الى اجراء انتخابات وعودة الحياة الديمقراطية البرلمانية”.

الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية, اصدرت بيانا بعد أن حطم الحرس القومي ابواب المخازن والدكاكين، ورد فيه: “إن حزب البعث قد خلق الفتنة الطائفية في البلاد، واستغل جيشه العقائدي بتهديم الجوامع على المصلين وسحق المواطنين الأشراف الذين كانوا دائما حربا على المستعمر”.

بيان الجبهة الوطنية طالب أيضا بإلغاء حالة الطوارئ, وإطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور, وإبعاد الجيش عن السياسة وصرفه إلى حماية الحدود, كما طالب “بتشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية حيادية, تتولى إجراء انتخابات عامة ونزيهة, لإقامة حكم ديمقراطي سليم”.

وكتبت جريدة الحياة بتاريخ 24/4/1964: “لقد ظهرت أثناء قمع الحركة في مدينة حماه أعراض الامراض الطائفية بين ضباط الجيش فقد حاول بعض هؤلاء الانتقام من مدينة حماه الامر الذي افتُضح داخل سورية وخارجها”. وحذرت الصحيفة في العدد نفسه “من السرطان الطائفي الذي يزيد المشكلة السورية تعقيدا”. وامتدت ردود الأفعال إلى الدول المجاورة لبنان والأردن والعراق ومصر وغيرها.

دامت أزمة حماة الدموية أكثر من أسبوعين, ولم تبدأ الحياة بالعودة إلى طبيعتها إلا بتاريخ 30/4/1964, لكنها حملت مؤشرات خطيرة, وأعطت انطباعات واضحة عن نوايا الحكام الجدد, وطبيعة المنهج الذي يسيرون عليه, والذي وأحدث منذ بداياته جروحا غائرة ستبقى آثارها إلى عقود.

  • شهادات المعاصرين لأحداث حماة 1964:

أكرم الحوراني, ابن حماة وأحد أبرز مناضليها, كتب الكثير عن تلك الأحداث, وحرص أكثر من مرة على تكرار عبارته: “أقول للذكرى هذا عمل سياسي (مظاهرة احتجاج) قابله نظام البعث بعمل عسكري (إرهابي)”.

ومما ورد في مذكرات الحوراني: “بدأت هذه الأحداث في (7/4/1964م) وأنا متوار في دمشق، وكان السبب حدث طلابي يقع مثله غالباً في أي مدرسة ولكن السلطات البعثية عالجته بصورة استفزازية لا مبرر لها.. بعد يومين من الحادث خرج المصلون من صلاة الجمعة بمظاهرة احتجاج قمعها الجيش بقسوة، سقط على أثرها قتيل وبعض الجرحى”.

“إنني لا أشك أبداً بأن يداً سوداء خارجية كانت وراء ما تعرضت له مدينة حماة في المرتين من خراب وتقتيل وتنكيل وحشي، وإنه لمن دواعي الأسى والحزن أن يناضل الشعب السوري ويقدم التضحيات خلال أكثر من أربعين عاماً في عهدي الاستعمار الفرنسي والاستقلال في سبيل ترسيخ الوحدة الوطنية بين مختلف طوائفه ومذاهبه ؛ ثم تستيقظ هذه العصبيات الموؤودة بعد الثامن من آذار بشكل مجنون”.

مطاع الصفدي المفكر القومي المعروف, علق على تلك الأحداث في كتابه “البعث.. مأساة البداية ومأساة النهاية”, فقال:

“وعندما يتذمر الناس وتثور ثائرتهم في وجه هذه الممارسات التعسفية المستفزة للوجدان والشعور فإن أمر قمعهم والتنكيل بهم وارتكاب الفظائع بحقهم يوكل إلى ضباط وصف ضباط وجنود طائفة معينة كما حدث في حماة وفي مجزرة جامع السلطان عام 1964 كأول ذروة رهيبة لجحيم الأحقاد الطائفية نظمها وأعد لها المخططون البعثيون, ضمن الإعداد الشامل اللئيم لتعميم الخراب”. من كتاب “حزب البعث.. مأساة المولد ومأساة النهاية” ص 340

أما سامي الجندي وكان أحد شهود الأحداث في حماة, وكان يشغل منصبا كبيرا في الحزب, بالإضافة غلى وزارة الإعلام, فقد قال في كتابه “البعث”:

” في أوائل عام 1964 أضربت المدن السورية واحدة تلو الأخرى, إضرابات لم أشاهد مثلها أبدا, قمعت بالقوة, ثم جاءت مشكلة حماة.. طلبت تفويضي بالحل فرُفض, ثم شهدت تلك المدينة مجزرة لم تشهد مثلها منذ أيام المماليك, وأبدى البعثيون من ضروب الشجاعة الأساطير. كانت المدافع مركزة على بعد ثمانية كيلومترات منها فقط, والقطعات تُلِح على الإذن بالضرب, وأعتقد أن الفريق أمين أنقذها يومئذ حين ضرب بقوة من مصير أبشع (البعث ص147).

 أضاف الجندي: “قال أمين الحافظ بحضور اللواء صلاح جديد والدكتور نور الدين الأتاسي: مضى وقت اللين تعقيبا على قولي (أي الجندي) إن المشكلة سهلة وليست إلى الحد الذي أرادوا أن يصوروه.. كانت القيادة العسكرية قد اتخذت القرار بالشدة”.

أقول: لعل الدكتور سامي الجندي بقي حيا, ليشهد بعينه المصير الأبشع الذي توقعه لحماة على أيدي برابرة العصر بعد ثلاثة عشر عاما فقط, بل مصير سورية كلها بعد ثورة 2011, فما هذه النار التي تستعر إلا من وراء ذلك الدخان.

الإخوان المسلمين, الذين سُجّلت الأحداث باسمهم فيما بعد, وخلافا للوقائع الفعلية, فقد سجل الاستاذ عدنان سعد الدين في مذكراته أن المكتب التنفيذي للإخوان في سورية أصدر توجيهاته إلى مركز الإخوان في حماة, في تلك الفترة, بألا يتورطوا في الصدام, تحت أي ظرف أو استفزاز تلجأ إليه السلطة”.

 وقال سعد الدين: “إن هذا توجيها عاما للإخوان, وأعيدَ التأكيد عليه, وخاصة في مركز حماة أثناء الاحتجاجات”, وأضاف بأن “إدارة مركز حماة تقيدت بتوجيهات المكتب التنفيذي, وأقرت الأخذ بأسباب التهدئة وتحاشي الصدام, ودعت إلى مهرجان خطابي شعبي في جامع الشيخ زين بحي الحاضر لتوجيه الجماهير وحثها على الركون إلى الهدوء والسكينة”

– أحداث مماثلة في حمص ودمشق:

حادثة حماة لم تكن فريدة من نوعها, فقد تكررت حوادث اقتحام المساجد في أكثر من مدينة سورية, وفي الفترة نفسها.

ففي حمص على سبيل المثال, وبعد شهرين من أحداث عام 1964, وردّأ على احتجاجات شعبية مماثلة, اقتحمت قوات الانقلابيين مسجد خالد بن الوليد, أثناء ملاحقتهم للمتظاهرين, وانتهكوا حرمته بصورة غير مسبوقة، ونكلوا بالمحتجين ثم ساقوهم للمعتقلات وأصدروا بحقهم أحكاماً عسكرية.

بعد ذلك بأشهر قليلة, وبالتحديد في شهر كانون الثاني 1965, قامت قوات الانقلابيين باقتحام المسجد الأموي الكبير بدمشق, وضربته بأسلحة الدبابات والرشاشات الثقيلة الثقيلة, وسالت الدماء في صحن المسجد وفي حرمه, بعد أن كسروا أبوابه, ودنسوا حرمته. وسقط في ذلك اليوم الكثير من الضحايا, واعتقل الكثير, وسيقوا إلى السجون وصدرت بحقهم الأحكام العرفية. وبقيت آثار القصف والرصاص على الجدران الداخلية لصحن المسجد بحيث رآها الناس لفترة طويلة.

نقل شهود عيان من المحاكمات الشكلية التي أجريت لمعتقلي جامع خالد بن الوليد بحمص, أن أحد الضباط قال للمعتقلين بالحرف: “لو كان لديكم قطعة سلاح واحدة لأبادكم الجيش عن بكرة أبيكم”.

كما نُقل عن محاكمات دمشق التي جرت في المسرح العسكري بالربوة, أن الجنود كانوا ينتفون لحى المعتقلين, كلما عنّ لهم ذلك، وكانوا يُدخلون الأحذية في أفواههم, وكانت آثار الضرب واللكمات والجروح الدامية بادية عليهم جميعا, ثم بعد ذلك أصدروا الأحكام الظالمة بالإعدام والسجن المؤبد على العشرات بل المئات من المتظاهرين الأبرياء, الذين حركتهم دوافهم الوطنية وغيرتهم على بلادهم وأوطانهم.

  • عندما يُزيّف التاريخ وتُشوّه الحقائق:

من المهم هنا أن نشير إلى أن كل أصحاب المذكرات, ومن ارّخوا لتلك الفترة من تاريخ سورية, ومن ضمنها أحداث حماة عام 1964, صنفوها جميعا على أنها احتجاجات عامة, وردود أفعال شعبية طبيعية, على سياسات الحكام الجدد, وتضمنت مطالب وطنية عامة, كما مر معنا, ولم يتحدث أحد إطلاقا, عن احتجاجات خاصة بالإخوان أو الإسلاميين.

وقد أشار بعض الكتاب والمؤرخين إلى أن تدين أهل حماة أمر معروف قبل ظهور الإخوان أو الإسلاميين, وذكّروا بدور المدينة في مقارعة الفرنسيين ومقاومتهم, وبالتالي فلا خصوصية دينية فيما يتعلق بدوافع الأحداث, وهو ما أكده مرارا أكرم الحوراني, ومطاع الصفدي, وآخرون, كما أنه لا خصوصية للإخوان في تلك الحداث, كذلك الأمر.

ومن هنا يبدو غريبا جدا, ما عكف على كتابته وتكراره بعض الكتاب, من ربط تعسفي لأحداث حماة بالإخوان المسلمين, وبالإسلاميين تارة, وجعلوا منه أساسا لتحليلات فلسفية, ابتكروا لها المصطلحات والعبارات, من قبيل “العنف الإسلامي”, وما شابه, متجاهلين, وعن عمد, وقائع تاريخ لازال كثير من شهوده أحياء, وضاربين عرض الحائط بقواعد البحث والدراسة الموضوعية. وغير عابئين بالإساءة إلى نضالات الشعوب وتحريفها لخدمة أفكار وتوجهات فكرية أو سياسية.

مثل هذه المغالطات وردت في دراسة للبروفيسور اسحاق وايزمان, كان قد نشر ترجمتها معهد العالم للدراسات في 24 آب 2017, تحت عنوان “سعيد حوى والإحياء الإسلامي في سوريا البعث”, جاء فيها:

 “وقد كان هو الروح القيادية التي أشعلت الاضطرابات في حماة في عام 1964”, واكتفى وايزمن في دراسته تلك بإيراد بعض العبارات المرسلة حول فكرة “عنف الإخوان”, دون الإشارة إلى سياق الاحتجاجات وظروفها وملابساتها, ودون أن يرجع الباحث غلى اقول المعاصرين وشهاداتهم, وهي متوفرة كما رأينا.

تكررت الفكرة نفسها في دراسة في دراسة موسعة للكاتب علي العبدالله بعنوان “حركات الإسلام السياسي والعنف”, نشرها مرصد مينا للشرق الأوسط, وبنفس الطريقة, ربط فيها أحداث حماة بما أسماه “عنف الإخوان”, وتوسع أكثر من ذلك بكثير, بناء على فرضيات خاطئة, لا تستند لدليل, بأن “العنف” يمثل توجها لدى الإخوان, وقال ما نصه: “وقد وجد هذا التوجه (أي العنف) مبرراته في توجهات السلطة السورية بعد 8/3/1963”, وكما فعل اسحاق وايزمن فإن الكاتب هنا أعفى نفسه من أن يورد أي دليل ملموس نظري أو عملي على فرضيته تلك, واكتفى بالقول بأن “عنف الإخوان”, حسب زعمه: “دخل حيز الممارسة بالانتقال إلى المجابهة المباشرة التي جسدها اعتصام حماة نيسان 1964، والذي دام 29 يومًا”.. هكذا. ولم يكتف بذلك وحسب, بل قال أيضا بأن الأحداث جاءت: “احتجاجًا على أطروحات حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، الذي سيطر على الدولة عبر انقلاب عسكري، وعلى توجهاته التي اعتبروها معادية للإسلام، وخاصة أطروحات الأستاذ زكي الأرسوزي الذي اعتبر العصر الجاهلي العصر الذهبي للعرب”.

وللأسف الشديد فإن علي العبدالله, أعفى نفسه من التطرق لسياسات الحكام الجدد, والتي عارضها كافة السوريين, على اختلاف توجهاتهم السياسية, بدءا من فرض حالة الطوارئ غلى الملاحقات والاعتقالات والسجون والتعذيب, والإجراءات التعسفية بحق القضاء والتعليم والزراعة والصناعة وما إلى ذلك, مما شهد به سياسيون كثر من بينهم قادة بعثيون كما أسلفنا.

وللأسف الشديد, فإن كتابا كثيرين دأبوا, وإلى يومنا هذا, على استخدام هذا الأسلوب الانتقائي في توظيف الأحداث, والترويج لأفكار معينة تحت مصطلحات “العنف” و”الإرهاب”, و”الاضرابات” بدلا من الاحتجاجات, كما درج عليه كثير من الكتاب والإعلاميين, بما في ذلك بعض المراكز المعروفة, وهو أمر يقتضي التوقف والمراجعة الحثيثة, بعيدا القناعات الخاصة, والأحكام المسبقة, ووفقا لقواعد البحث الموضوعي والتقصي التاريخي, إن كان ثمة من يسعى وراء تنمية وعي الأجيال والحرص على تاريخ مجتمعاتنا ونضالاتها.

وبعيدا عن الاستطراد في هذا الموضوع الذي يحتاج دون شك, إلى بحوث ودراسات مستفيضة, سنأتي عليها في سياق آخر, نقول إن هذا التوظيف لمصطلح “العنف”, لا يخرج عن كونه جزءا من حملة من طرف واحد دأبت عليها حكومات, وأجهزة إعلام, ومراكز بحث, وعلى الأخص الأوربية والأمريكية منها, وصدرت فيها الكثير من المؤلفات, منذ سبعينات القرن الفائت, واشترك فيها الكثير من الكتاب والمفكرين الحداثيين واليساريين, وتحولت للأسف الشديد, إلى تُكأة للحكومات الدكتاتورية المتسلطة, في حملاتها على الإسلاميين, ومن بينها سلطة حافظ أسد, وعملت بطريقة او بأخرى, على تبرير المجازر والمآسي التي ارتكبت بحقهم وبحق شعوبهم, ولحسن الحظ, فإن عددا من الكتاب والمفكرين المنصفين, لم يتركوا تلك الحملات الظالمة دون رد وتفنيد, وإحقاق للحق في هذه المسألة, من وجهة نظرهم على الأقل, وإن كانت الحملة الشعواء, والتضييق الأمني الشديد, لم يُتح الفرصة أمام الناس للاطلاع والنظر بعينين اثنتين بدلا من عين واحدة.

الاستاذ تركي علي الربيعو, واحد من أولئك الكتاب المنصفين, وفي كتابه “الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر”, تناول كتبا ومؤلفات للعديد من الكتاب المعاصرين من خصوم الحركات الإسلامية وأعدائها, حملت الرؤى والتوجهات ذاتها التي اشرنا إليها آنفا, والتي بدت وكأنها حملة منظمة ومكثفة, اشترك فيها عشرات الكتاب والمؤلفين وعلى مدار اكثر من عقدين, حتى نهاية القرن العشرين.

يقول الأستاذ تركي الربيعو: “إن جعل العنف بنية داخل الخطاب الإسلامي المعاصر لا يصمد أمام أي تحليل “إنثروبولوجي-إناسي” للثقافة البشرية في مسيرة تطورها, ولا أمام التحليل الدقيق للخطاب الإسلامي, من بدء صدمة الغرب وحتى اللحظة المعاصرة”.

ورد هذا في معرض رده على ما جاء في كتاب نبيل عبد الفتاح “المصحف والسيف: صراع الدولة والدين في مصر”. 1984 “النص والرصاص” 1977, “عقل الأزمة: تأملات نقدية في ثقافة العنف والغرائز والخيال المستور”, 1993, وغيرها من المؤلفات, والتي حفلت بعشرات الاتهامات والأوصاف المقذعة للإسلاميين.

وقال الربيعو في موضع آخر: “هناك إجماع على أن بنية الخطاب السياسي الإسلامي لا تقوم على العنف, وأن قادة هذا الخطاب بالفعل كانوا دعاة ولم يكونوا قضاة, ولم يكن لديهم ميل إلى التكفير الذي يصادر التفكير”.

وقد أوردنا قبل قليل, شهادة الأستاذ أكرم الحوراني, وتأكيده المتكرر: “أقول للذكرى هذا عمل سياسي (مظاهرة احتجاج) قابله نظام البعث بعمل عسكري (إرهابي)”.

والحوراني بالمناسبة, أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي كما هو معلوم، وقد اكتوى بنار رفاقه، وعاش عمره منفياً عن وطنه، ثم مات ولم يسمح حافظ الأسد بدفنه في سوريا، فدفن في الأردن, وقد نقل في مذكراته أن تحرك علماء حماة ووجهاؤها لإيقاف إراقة الدماء، كان بإيعاز من الفريق أمين الحافظ الذي لمس من رفقائه في الحكم رغبة جامحة في الانتقام والتنكيل, والتوسع في القتل والبطش، وأنه هو من عمد إلى تخفيف الأحكام وإصدار قرارات العفو عن المحكومين, بما فيهم معتقلو المسجد الأموي بدمشق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى