بحوث ودراسات

العلمانيون وثورة الزنج 2 من 7

د. هاني السباعي

مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية بلندن.
عرض مقالات الكاتب

عود إلى ثورة الزنج:

ثانياً: مؤامرة تاريخية كبرى على صاحب الزنج!!

لقد تحامل العلمانيون ومن على طريقتهم على علماء الإسلام وخاصة شيخ المؤرخين أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ت 310هـ .. لماذا؟ لأن ابن جرير عمدة الرواة وأهل الأخبار في سرد فتنة صاحب الزنج! العجيب أن الطبري في مواطن أخرى لدى هؤلاء اللادينيين: عالم مؤرخ ثقة لم يكن ممالئاً للسلطة!! أما إذا جاء بما لم يوافق هواهم فابن جرير بوق لمؤسسة اعلامية تابعة للسلطة!! فهو يتكلم باسمها.. هناك مؤامرة تاريخية من أصحاب المذهب التقليدي النصوصي!! وأصاب الطبري سهام التجريح والطعن والتفسير التآمري للتاريخ!! لأنه نطق بالحق!! مع العلم أن الطبري ولد سنة 224هـ وتوفي سنة 310 وفتنة الزنج اندلعت سنة 255 هـ واستمرت حتى قضي عليها بمقتل صحاب الفتنة سنة 270هـ.. معنى ذلك أن الطبري عاصر هذه الحركة منذ بداية دعوتها بالتحديد سنة 249هـ أي قبل اعلان الحركة عن نفسها وقبل تأسيس عاصمة الزنج (المختارة) مروراً بسنة 255هـ حتى زوال فتنة الزنج سنة 270هـ.. فابن جرير لقربه من مسرح الأحداث كان شاهد عيان، وكان يدونها بما يشبه عمل الصحف اليوم لدرجة أنه أفرد لهذه الفتنة أكثر من مائتي صفحة في كتابه الضخم (تاريخ الأمم والملوك) إذن ابن جرير شاهد على عصره وناقل أمين لفتنة الزنج التي كادت أن تقوض دعائم أرض الخلافة التي صارت مرتعاً لكل طامع.. ورغم هذه الحقيقة عن الطبري إلا أنهم أبوا إلا الطعن فيه ليسهل الطعن في كل علماء التاريخ الذين أخذوا عن الطبري، ومن ثم يتحقق لهؤلاء المبطلين مآربهم للنيل من الإسلام ومنهجه!!

فهذا هادي العلوي يسير على منهج المستشرق الفرنسي ماسنيون ويردد نفس مقولته عن الطبري: “وكان الطبري مقاطعاً للسلطة على طريقة فقهاء القرن الأول وكان يتمتع بقسط من حرية الرأي الإجتهاد مع الإتجاه إلى مطالعة كتب الفلسفة في السر لكن معالجته لثورة الزنج بدت كما لو أنها من فعل مؤسسة اعلامية وجهت لدعم حرب العباسيين ضد قائدها الذي يرجع تلقيبه بالخبيث إلى الطبري نفسه”[10]

ويقول هادي العلوي في موضع آخر: “وقف المجتمع الإسلامي بأسره ضد صاحب الزنج فسحب منه هويته كما منحه لقب (الخبيث) الذي صار علماً عليه في مصادر التاريخ بدءاً من الطبري… ولم يدافع عن الثورة أحد من الفرق والشخصيات الثقافية أو الاجتماعية”[11]

أما د. محمد عمارة فيقول متعجباً: “فالطبري يقدم أهم أخبارها، وأكثرها ينطلق في تأريخه لها من منطلق العداء، بل والعداء الشديد… فهو (الطبري) يطلق على قائدها: علي بن محمد، أوصافاً من مثل: (الخبيث)! و(اللعين)! و(الخائن)! و(الفاسق)! بل ويكتفي بصفة من هذه الصفات أو أكثر، عندما يريد الحديث عن صاحب الزنج، ولا يذكر اسمه إلا في القليل”[12]

ويستنكر أحمد علبي وصف الطبري لصاحب الزنج قائلاً: “ولهذا فإن مقتل صاحب الزنج بعد جهاد جهيد كان بمثابة (البشير) كما ورد لدى الطبري ت 310هـ الذي هو بمنزلة المؤرخ الرسمي لثورة الزنج: (جاء البشير بقتل الفاجر) إلى الموفق، ثم وفاه أحدهم يحمل كفاً يزعم أنها كف صاحب الزنج. ثم (أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث) وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه).. ولا يدهشن قارئ بأمثال هذين النعتين لقائد ثورة الزنج: الفاجر، الخبيث.. فكل متمرد وإن كان الحق ملء برديه والعدالة سرباله وفيض يديه.. هو في نظر السلطة القائمة قمين بكل النعوت ابتداء من الخيانة حتى الفجور والإلحاد، لأن الإيمان يغدو هنا حكراً على السلطة أو أمير المؤمنين، أياً كانت سيرته”[13]

أقول: هكذا نخلص إلى استهجان العلمانيين وبعض الإعتزاليين ومن يسيرون على خطاهم وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي ماسنيون؛ من وصف الطبري لصاحب الزنج بالخبيث أو اللعين أو الفاسق.. فإنهم جميعاً يتميزون غيظاً وحنقاً لهذه النعوت التي يكررها ابن جرير لصاحب الزنج.. وكأنهم يريدون من الطبري أن ينعت صاحب الزنج بما ليس فيه!! كان لزاماً على الطبري أن ينعت من يسفك دماء الأبرياء وينتهك المحارم والحرمات ويستبيح بيضة الإسلام ويروع الآمنين ويقتل الأطفال.. كان لزاماً عليه ـ حسب مزاجهم ـ أن ينعت هذا السفاح السفاك الخارج عن الخليفة الشرعي ؛ بالبطل المغوار والثائر المجاهد، والمؤمن التقي!! لقد كان الطبري مهذباً في نعته لصاحب الزنج.. فهؤلاء اللادينيون ينعتون الشباب الذين يقومون بواجبهم الشرعي ضد السلطات القائمة بأقبح النعوت وبألفاظ ما أنزل الله بها من سلطان!! من أمثال: (بلطجية) .. (مجرمون) .. (ارهابيون) .. (متطرفون).. إلخ .. فهؤلاء العلمانيون يكيلون بمكيالين، بل لا يحترمون عقولهم ولا عقول غيرهم!!

العلمانيون .. وابن الرومي:

لقد أغضب الشاعر أبو الحسن بن علي بن العباس بن جريج الشهير بابن الرومي ت284هـ تيار اليسار الإسلامي وأصحاب العلمنة الغربية وغيرهم.. لماذا؟! لأن ابن الرومي رثا مدينة البصرة وبكاها في شعره بعدما خربها صاحب الزنج، وكانوا ينظرون إليه على أنه شاعر ساخط على الخلافة العباسية لأنه ليس عربياً خالصاً!! ـ ولسيت هذه الدراسة لتقويم ابن الرومي أو الدفاع عنه، فابن الرومي له تصرفات شخصية لكن لا تصل إلى ما كان يتمناه العلمانيون .. فكما يصف لنا ابن رشيق القيرواني ت 456هـ : “كان ابن الرومي كثير الطيرة؛ ربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً بسوء ما يراه أو ما يسمعه، حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده فأعلم بحاله في الطيرة، فبعث إليه خادماً اسمه اقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك فأنت ناقص! ومنكوس: اسمك لا بقا..”[14]

لعل تشاءوم ابن الرومي وسخطه كان مفتاح شخصيته: لكن العلمانيين أساءهم صنيع ابن الرومي وهو يهجو صاحب الزنج لتسميه بلقب إمام:

وتسمَّى بغير حقٍ إماماً *** لا هدى اللهُ سعيَه من إمام

ولم يعجبهم وصف ابن الرومي دخول الزنج البصرة:

دخلوها كأنهم قطع الليـ *** ـل، إذا راح مُدلهمّ الظلام

ولم يعجبهم وصفه لأفاعيل وجرائم الزنج في أهل البصرة:

كم أب قد رأى عزيزَ بنيه ***وهو يعلو بصارم صمصام

كم رضيع هناك قد فطموه*** بشبا السيف قبل حين الفطام

ولم يعجبهم وصف ابن الرومي لأطلال البصرة وما حل بها من خراب:

وخلت من حلولها فهي قفرٌ *** لا ترى العين بين تلك الأكام

غير أيدٍ وأرجلٍ لأناس بائنات *** نبذت بينهنّ أفلاقُ هام

ووجوه قد رملتها دماء *** بأبي تلكم الوجوهُ الدوامي

وطئت بالهوان والذل قسراً *** بعد طول التبجيل والإعظام

فتراها تسفي الرياح عليها *** جاريات بهبوةٍ وقتام

خاشعاتٍ كأنها باكياتٌ *** باديات الثغور، لا ، لابتسام

ولم يعجبهم حض ابن الرومي فقهاء المسلمين على الجهاد:

كم خذلنا من ناسك ذي اجتهادٍ *** وفقيه في دينه علام

ولم يعجبهم أيضاً في نهاية القصيدة حث ابن الرومي المسلمين على الأخذ بالثأر وتحرير السبايا ووصفه لصاحب الزنج باللعين:

إن قعدتم عن اللعين فأنتم *** شركاءُ اللعين في الآثام

ويهاجم هادي العلوي ابن الرومي بقوله: “وتكشف قصيدة ابن الرومي عن نقطة التقاء قاطعة بين الطرفين وبين ابن الرومي مؤيد للعلويين، مناوئ للعباسيين ولم يكن يحب تلك الدولة التي عاش في ظلها ينظر بعين الحسد إلى الشرطة إنه لم يجد في عصيان الزنج ما يلأم جروحه، بل بالعكس فقد نكأها بما أيقظه في روحه من عرقية بيضاء يعززها نسب يوناني صريح ومن حس السيادة لدى مالك العبيد، وهكذا وجد نفسه في صف مجوعيه العباسيين يبكي على جمال البصرة الذي دنسه التنين الأسود”[15]

انظر إلى هذا التحليل! فقصيدة ابن الرومي حوالي 83 بيتاً لم نجد فيها البكاء على الخبز والجوع!! بل على العكس فكلها حض على الجهاد ورثاء لما حلّ بحريم المسلمين وما ارتكبه الزنج من مجازر بحق الشيوخ والأطفال والنساء وما آلت إليه حال تلك المدينة التي كانت آمنة من قبل أن يخربها الزنج.. هكذا يفسر العلمانيون حوادث التاريخ من خلال منظور مادي بحت! وكأن ابن الرومي لم يكن مسلماً أباً عن جد!! فقد جردوا الرجل حتى من مشاعره وعقيدته الإسلامية التي حركته ليحض المسلمين وفقهاءهم لنجدة السبايا والإنتصار لدين الله.. بالطبع لم يكن الطعن موجهاً لابن الرومي فقط فكل الشعراء الذين عاصروا هذه الفتنة مثل ابن الرومي، ويحيى بن محمد الأسلمي، ويحيى بن خالد بن مروان وغيرهم قد أصابهم سهام التجريح بتهمة التآمر مع السلطة.. فنجد أحمد علبي يقول: ” ولا ننتظر أن ينهض بين الشعراء المتكسبين المرتزقة من يقف في صف صاحب الزنج، ويعاضد ثورته، فالشعر العربي كان في معظمه وقفاً على فئة ارستقراطية حاكمة أو نافذة فعكس مأربها ونظم حياتها الزاهية وظل يدور في دائرة مترفة ولم يتعدّ عتبة القصور إلا لمما، وابن الرومي الذي رثا يحيى بن عمر العلوي أجمل رثاء هذا الشاعر نفسه نظر إلى ثورة الزنج وصاحب الزنج نظرة تقليدية فقال:

أيّ نومٍ من بعد ما انتهك *** الزنج جهراً محارم الإسلام”[16]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى