بحوث ودراسات

مراجعات للبطريرك 9 من 12

محمد القدوسي

كاتب وصحفي مصري
عرض مقالات الكاتب

مراجعة تشريعية

7 ـ الخط الهمايونى: وثيقة تاريخية لحرية العقيدة

يشبه مناخ المزايدة، قدرا يغلى، ترسب حقائقه (الراسخة) لتغيب فى القاع، ويطفو خبث أكاذيبه على السطح، ليكون أول ـ وربما كل ـ ما يرى من المشهد. لكن الخبث يبقى خبثا، والحقيقة أطول عمرا كما يقول «شوبنهور»، و«الخط الهمايونى»، تلك الفزاعة التى يرفعها الطائفيون مع كل حديث مفترى عما يسمونه «اضطهاد الأقباط»، يظل ـ برغم الأكاذيب ـ إصلاحا قانونيا كان ـ وقت صدوره ـ مطلبا تمسك به بطريرك الأقباط الأرثوذكس، لإنقاذ كنيسته من «طوفان» الإرساليات الإنجيلية، والكاثوليكية أيضا. ثم إنه هو نفسه «الخط الهمايونى» الذى استندت عليه الكنيسة الأرثوذكسية فى دعواها ضد كنيسة الأنبا «مكسيموس»، ما يجعلنا نسأل: أهو قانون عثمانى بال تطالب الكنيسة بالخلاص منه ، كما يزعم منتسبوها، أم هو قانون تعترف به وتستند إليه؟
تسمية «الخط الهمايونى» تعنى «القانون الشريف»، وهو قانون عثمانى صدر فى عهد السلطان عبد المجيد خان بن محمود خان الذى امتد حكمه من 1839 إلى 1861م. وكان حاكم مصر وقت صدورالقانون هو الوالى «محمد سعيد باشا»، رابع أبناء «محمد على باشا»، ورابع ولاة مصر من الأسرة العلوية، حكمها من 1854 إلى 1863م. وبالتحديد صدر «الخط الهمايونى» فى أوائل جمادى الآخرة 1272 هـ ـ 18 من فبراير 1856 م، أى بعد سنتين من بدء نشاط الإرساليات الإنجيلية الأمريكية فى مصر، وهو نشاط عبرت الكنيسة الأرثوذكسية ـ صراحة ـ عن قلقها بشأنه، ورفضها له. أما الإرساليات الإنجيلية فقد استفادت من تجربة وخبرة الإرساليات «الكاثوليكية» التى سبقتها ومهدت لها الطريق، وراحت تعمل ـ خاصة فى الصعيد والمناطق الفقيرة ـ مدفوعة بالثقل السياسى لبريطانيا العظمى، التى سبقت إرسالياتها الإنجيلية الإرساليات الأمريكية، ومدفوعة أيضا بالأموال الطائلة التى تتدفق عليها عبر المحيط من الولايات المتحدة؛ ما سهل مهمتها نحو اكتساب الأتباع، وإغراء بعض الأرثوذكس لمشاركتهم كنائسهم، التى أصبحت كنائس «أرثو ـ إنجيلية».
وكان بطريرك الأقباط الأرثوذكس آنذاك هو «كيرلس الرابع»، الذى كان اسمه قبل رسامته «القس داود الصوامعى» والملقب فى تاريخ الكنيسة بـ«أبو الإصلاح»، وهو البطريرك رقم 110، خلف البطريرك «بطرس السابع»، وجلس على الكرسى المرقسى من 1854 إلى 1861م. ولنعرف مدى هيمنة الإرساليات الإنجيلية على المشهد المسيحى فى مصر آنذاك، يكفى أن نشير إلى ما سجلته وثائق الكنيسة الأرثوذكسية من انقسام الأقباط إلى ثلاثة أحزاب بشأن انتخاب البطريرك، واستعانة «القس داود الصوامعى» بالمستر «ليدر» عضو إحدى الإرساليات الإنجليزية، طالبا منه التوسط لدى قنصل انجلترا فى مصر لإقناع الوالى «عباس الأول» بإقراره بطريركا، وهو ما تم فى نهاية المطاف على الرغم من عائقين كبيرين، يشهد تجاوزهما بقدرات المستر «ليدر» ومدى نفوذ القنصل الانجليزى الداعم للكنائس الإنجيلية:

  • العائق الأول: أن العرافين ـ وكان «عباس الأول» يهتم بتدجيلهم ـ أشاعوا أن رسامة «داود الصوامعى» بطريركا سيكون شؤماً على الوالى، والمدهش أن «عباس» اغتيل فى قصره بمدينة بنها فى 14 من يوليو 1854م، أى بعد رسامة البطريرك بأربعين يوما!
  • والعائق الآخر: أن خصوم ومنافسى «كيرلس الرابع» كانوا أقوياء لدرجة أنه ـ وقبل أن يقره الوالى فى منصبه ـ قضى شهورا طويلة محاصرا حيث: «قام خصومه وحالوا بينه وبين إنجاز مصالح الطائفة، واشتدوا عليه شدة بالغة، حتى كان إذا أراد النوم لا يجد لرأسه وسادة ينام عليها، ولا لجبينه فراشا، وإذا جاع لا يقدمون طعاما إلا ما يسمحون به له، وإذا زاره أحد لا يسمحون له بلقائه». ولا شك فى أن خصوما يمكنهم حصار البطريرك على هذا النحو، كان بمقدورهم أن يحولوا دون رسامته من البداية، والحقيقة أنهم لم يدخروا وسعا فى هذا الصدد، لدرجة وصلت إلى تبادل السباب، والعراك، وكسر باب الكنيسة، بل إن بعض الأحباش تعقبوا البطريرك ليقتلوه، ما اضطره إلى الاختفاء، لكن نفوذ عضو الإرسالية الإنجيلية كان له الأثر الحاسم برغم هذا كله، فأى نفوذ هذا؟
    إنه النفوذ نفسه الذى وجده «كيرلس الرابع» بعد رسامته بطريركا يقف عقبة فى طريق مساعيه نحو تحسين أحوال كنيسته، لهذا رفع صوته بالشكوى منه، وعندما صدر «الخط الهمايونى» خاض بطريرك الأقباط ـ بنفسه ـ معركة لتطبيقه فى مصر، التى كانت تتمتع باستقلال نسبى عن السلطنة العثمانية. ويكفى أن نقرأ مقدمة هذا القانون لنعرف أن البطريرك كان معه الحق كله فى المطالبة بتطبيقه، وهى المقدمة التى يقول فيها السلطان العثمانى: «قد أصدرنا إرادتنا الملوكية هذه بإجراء الأمور الآتية: وهى اتخاذ التدابير المؤثرة نحو: تأمين كافة التبعة الملوكية من أى دين ومذهب كانوا ـ بدون استثناء ـ على الروح والمال وحفظ الناموس…. وتقرير إبقاء كافة الامتيازات والمعافيات الروحانية التى منحت، وأحسن بها فى السنين الأخيرة، والتى منحت من قبل أجدادنا العظام للطوائف المسيحية وكافة الملل غير المسلمة».
    كما تضمن «الخط الهمايونى» نصا واضحا يتيح للأقباط، فى المناطق التى لا توجد فيها طوائف مسيحية أخرى، أن يقيموا ما يحتاجون إليه من منشآت، أما فى المناطق التى تتواجد فيها طوائف متعددة، فقد اشترط القانون موافقة السلطان. وإذا عرفنا أن الأقباط هم الطائفة المسيحية الوحيدة التى توجد فى مصر منفردة فى بعض المناطق، والتى توجد أيضا حيثما وجد غيرها من الطوائف المسيحية، نفهم أن هذا النص منح الأقباط حرية البناء، وفى الوقت نفسه حد ـ لصالح الأقباط ـ من نشاط بناء كنائس الطوائف الأخرى. حيث نص «الخط الهمايونى» على أن «البلاد والقرى والمدن التى يكون جميع أهاليها من مذهب واحد، لا يحصل إحداث موانع فى بناء سائر المحلات التى تكون مثل مكاتب واسبتاليات (مستشفيات) ومدافن مختصة بإجراء عاداتهم حسب هيئتها الأصلية، وعند لزوم إنشاء هذه المحلات مجددا بحسب استصواب البطاركة ورؤساء الملة، يلزم رسمها، وبيان صفة إنشائها، وتقديم ذلك إلى بابنا العالى، وإما أن يجرى المقتضى فيها بموجب إرادتنا السنية الملوكية المتعلقة بقبول الصور السابق عرضها، وإما أن يصير بيان المعارضات المختصة بذلك فى ظرف مدة معينة، وإذا وجدت طائفة من مذهب منفردة بمحل وليس مختلطة مع مذاهب أخرى، فلا تصادف صعوبات فى إجراء الخصائص المتعلقة بنفاذ عوائدها فى هذا المحل علنا، وإذا كانت قرية أو بلدة أو مدينة مركبة أهاليها من أديان مختلفة، يمكن لكل طائفة منهم ترميم وتعمير كنائسها، واسبتالياتها، ومقابرها بحسب الأصول الموضحة بالمحلات المخصصة لهم الموجودة محلات سكنهم به، وأما الأبنية المقتضى إنشاؤها مجددا، يلزم أن تعرض البطاركة والمطارنة لبابنا العالى باسترحام الرخصة اللازمة عنها، فإن لم يوجد لدى دولتنا العلية موانع فى الامتلاك تصدر بها رخصتنا السنية، وكافة المعاملات التى تحصل فيما يماثل كل هذه الأشغال تكون مجانا من قبل دولتنا العلية فى التأمين على إجراء عوائد كل مذهب بكمال الحرية مهما كان مقدار العدد التابع لهذا المذهب. وتمحى وتزال إلى الأبد من المحررات الرسمية الديوانية كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لجنس آخر، فى اللسان، أو الجنسية، أو المذهب من أفراد تبعة سلطتنا السنية…. وبما أن عوائد كل دين ومذهب موجود بممالكنا المحروسة جارية بالحرية، فلا يمنع أى شخص من تبعتنا الملوكية من إجراء رسوم الدين المتمسك به، ولا يؤذى بالنسبة لتمسكه به، ولا يجبر على تبديل دينه ومذهبه».
    هذا هو القانون العثمانى الذى طالب «كيرلس الرابع» بتطبيقه، وعندما تأخرت استجابة والى مصر «محمد سعيد باشا» له، أعرب البطريرك عن استيائه، وذهب إلى دير «الأنبا أنطونيوس»، مع صديقه بطريرك الروم الأرثوذكس «الأنبا كلينيكوس»، حيث أقاما نحو 6 شهور، وحين حاول قنصل فرنسا «الصيد فى الماء العكر» وعرض على البطريرك أن يتوسط بينه وبين الوالى، مقابل السماح للرهبان اليسوعيين (كاثوليك) ببناء كنائس لهم فى الحبشة رفض «كيرلس الرابع» العرض، الذى لم يكن إلا محاولة من قنصل فرنسا للالتفاف على ما أتاحه «الخط الهمايونى» للأقباط من حماية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى