بحوث ودراسات

المأساة السورية.. البدايات وجذور البلاء 4 من 6

معاذ السرّاج

باحث في تاريخ سورية المعاصر وشؤون الحركات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

العنف الدموي وجذور البلاء (4)

على الرغم من الفوضى السياسية, وحالة عدم الاستقرار, التي خلفتها مرحلة الانقلابات العسكرية, منذ عام 1949, والتي زاد عددها على العشرة, عدا ما فشل منها في مهده ولم يُقدر له النجاح, وما تثيره من تساؤلات واستفهامات, حول مواقف الأحزاب السياسية والزعماء الوطنيين, وأسلوب معالجتهم لتلك الانقلابات وتعاملهم مع قادتها ومنفذيها, ومؤيديها وداعميها, إلا أنها, أي تلك المرحلة, وللأمانة التاريخية, لم تشهد أعمال عنف أو إراقة دماء, من أي طرف كان, وكان البرلماني والسلطة المدنية, سرعان ما تُستعاد, و تحل الأريحية والتسامح محل الانتقام والتصارع, فيعفى عن المعتقلين, ويعاد المنفيون منهم إلى ديارهم وأهليهم, بعد شهور قليلة, لا تتجاوز سنة أو سنتين على الأكثر.

مع انقلاب البعث في 8 آذار تغير هذا الأسلوب تماما, وبدأت مرحلة جديدة عنوانها الشدة والعنف, ولم تلبث ان اريقت الدماء بغزارة, وفتحت أبواب السجون على مصاريعها, ولوحق السياسيون والوطنيون المعارضون, وشاعت أجواء الخوف والرعب والإرهاب… “كانت أعنف تجربة إرهابية انتقامية شهدتها مختلف فئات الشعب السوري, بصورة لم يسبق لها مثيل حتى في أظلم عهود الاستعمار التركي والفرنسي”, هذا ما وصف به مطاع الصفدي, المفكر القمي, تلك المرحلة منذ بدايتها.. فما الذي حدث؟؟

يوم 18 تموز 1963, يمكن اعتباره تاريخ أولى المآسي الفظيعة وبداياتها المحزنة,  ومع أن المسألة في واقع الأمر, كانت إحباط محاولة انقلابية قام بها الناصريون, وهو أمر يفترض أن يكون معتادا عليه في الساحة السياسية السورية, إلا أن الواقع لم يكن كذلك, ولم تمرّ تلك المحاولة كما مرّ غيرُها من الانقلابات السابقة, على الرغم من أنها انتهت في خمس عشرة دقيقة, كما قيل.

كانت فرصة ذهبية للحكام الجدد, لتصفية الناصريين عن بكرة أبيهم و “في كل مدينة وحي وبيت”. عدنان سعد الدين قال في مذكراته: “وبعد أن تمكّنوا, نسفوا الناصريين نسفا ، وقضوا عليهم وعلى كل ما يمت لهم بصلة ، قضاء مبرما، بالقتل والإعدام والزج بهم في السجون والمعتقلات (حتى غادر الكثيرون منهم أرض الوطن)”.

روى عدد من الشهود كيف كانت تتم مداهمة البيوت والقطعات العسكرية..

يقول مطاع الصفدي: ” كانت هناك قوائم جاهزة أعدها الحزب بالتعاون مع المخابرات وجرى اعتقال الأسماء التي وردت فيها في اليوم الذي سبق المحاولة, أو صباحها.

قُدّم الناصريون إلى محاكمات عسكرية سريعة، قضت بإعدام بضعة وثلاثين من الضباط والمدنيين المشاركين في المحاولة، واعتقل المئات, وسُرِح على الفور, أكثر من 700  ضابط, ولوحق كثيرون ملاحقة شديدة, فاختفى أكثرهم, وهرب الباقون إلى مصر ولم يتبق منهم في سوريا أحد.

المحاكمات لم تكن تستغرق عادة سوى دقائق أو سويعات, يحكمون بعدها على الضحايا بالموت، ثم يدفعون بهم إلى ساحات الإعدام, وبهذه الأساليب تم تنفيذ حكم الإعدام تباعا, بالكثيرين من مدنيين وعسكريين من خيرة من أنجبت سوريا كفاءة وأخلاقا،  بينهم علماء ومفكرون وشباب بأعمار الزهور.

الملاحظ أن تلك المحاولة الفاشلة, التي فرصة لتصفية الناصريين عن بكرة أبيهم, كانت فرصة كذلك, لتنفيذ سياسة مقيتة, بتسريح عدد هائل من الضباط العسكريين دفعة واحدة, وليس هذا فحسب, وإنما لتسليح كوادر الحزب واستنفارهم وخروجهم مسلحين في شوارع المدن السورية وخاصة العاصمة دمشق.

الذي يعنينا هنا هو ما حدث في أعقاب تلك المحاولة من القمع والملاحقات والعنف غير المبرر, والذي كانت المحاكم العسكرية, وما سمّي منها بالميدانية, من أكثر وسائله قهراً وظلما, وأصبحت على كل لسان, وكانت فاتحة سوء, استمرت لعقود طويلة, وإن بهيئات مختلفة, سيفا مسلطا على رقاب الآلاف من أبناء سورية, حتى باتت سمة لازمة ومنهجا متبعا, طيلة العقود التالية وإلى اليوم..

  1. السجون والتعذيب

سياسات السجون والقمع سجلت ممارساتها الأولى على أيدي ضباط المخابرات والشرطة وبعض قادة الجيش, منذ انقلاب حسني الزعيم وقبلها كذلك, لكنها كانت تقتصر في الغالب على الإذلال والتحقير والإهانة, وكثيرا ما أساءت إلى الشخصيات والزعامات الوطنية التي قارعت الفرنسيين وانتزعت منهم الاستقلال, ومع هذا فيمكن القول بأنها أسست لفكرة نزع السمة الأخلاقية في التعامل مع الأوساط السياسية والوطنية, والتخلي عن الاحترام والتقدير الواجب شخصيات الدولة ومؤسساتها. وقد أورد مطيع السمان في مذكراته مواقف عديدة, تشير إلى استهتار العسكريين بالهيئات الرسمية, والزعماء الوطنيين والسياسيين.

في عهد الوحدة, ازدادت هذه الأساليب سوءا, و شاعت معلومات كثيرة حول التعذيب والاعتقالات عندما كان عبد الحميد السراج وزيرا الداخلية في عهد الوحدة, وانتقلت بعد ذلك إلى عهد الانفصال, على أيدي الضباط الذين مارسوها قبل ذلك, ثم أصبحت بعد ذلك سياسة ثابتة ومنهجا متبعا طيلة العقود اللاحقة, وجرى تعزيزها بأحدث وسائل التعذيب وأدواته مما أبدعته أجهزة المخابرات الأمريكية, والدول الشيوعية وفي مقدمتها ألمانية الشرقية (كما كان اسمها في ذلك الوقت), وكان اسم ضابط المخابرات تركي علم الدين, من الأسماء المتداولة بين المعتقلين في سجن كفرسوسة, في فترة السبعينات, وهو خريج المدرسة الأمريكية.

المستوى الأخلاقي والإنساني المتدني الذي يتسم به ضباط التحقيق, ومن كانوا يُختارون لتلك المهام القذرة, كان عاملا آخر يؤكد على طبيعة أولئك القادة والآمرين, وصولا إلى الرئيس نفسه ومساعديه, ولنا بعد هذا أن نتصور القاع الذي يمكن أن ينحدروا إليه, كان يذهب إليها المحققون في تعذيب ضحاياهم والتنكيل بهم, فيما يشبه النزوات السادية في أبشع صورها.

عن السجون والاعتقالات والقمع والتعذيب, يقول الدكتور سامي الجندي, وقد اعتقل مرة, باختصار أدبي بديع, وهو الدكتور الأديب, يقول:

“على جدران الزنزانة الثالثة (في سجن المزة) وجدت تاريخ سوريا, أكثر الأسماء أعرفها أو أسمع بها.. قوميون اجتماعيون اشتراكيون بعثيون..”..

“وجدت أن الحقيقة الوحيدة في تاريخ سوريا الحديث هي سجن المزة العسكري والسوط, كل ما عداه وهم, كان دائما يتطور إلى أقسى, حتى هذه الساعة”.

واحد من المشاهد الأليمة لحفلات التعذيب والإعدام, ينقلها سامي الجندي, كشاهد عيان عندما كان وزيرا للإعلام, وهي صورة ربما تعطي القارئ فكرة واضحة عن المستقبل الذي كان ينتظر سورية منذ تلك اللحظات المشؤومة, يقول الجندي:

“ذهبت مساء إلى وزارة الإعلام كي أُشرف على نشرات الأخبار والتعليقات, فجاءني أحد موظفي التلفزيون ليقول لي: هناك شريط أرجو أن تراه قبل إذاعته, لا أجرؤ أن أعترض عليه أنا, وأرجو ألا يعلم أحد أني نبّهتك إليه”..

“وفي ستوديو التجربة رأيت ما لا يصدقه العقل, رأى أعضاء المحكمة أن يشترك الشعب بمباذلهم, فلا تفوته مسرات النصر فعمدوا إلى تسجيل مشاهده: الإعدام من المهجع إلى الخشبة, عملية عصب العينين, الأمر بإطلاق النار, ثم يندلق الدم من الفم, ثم تنطوي الركبتان, وينحني الجسد إلى الأمام بعد أن تتراخى الحبال نفسها, وفمه مفتوح كي يقبل أمه الأرض”.

“لم أقل شيئا, خرجت فسألني أحد الضباط مرحا: كيف رأيت يا دكتور؟ قلت: أهذا هو البعث؟ قال: لم أفهم. أجبت: لن تفهم. وإذا بالدكتور صلاح الدين البيطار يدخل لاهثا, قال لي: هل صُوّرت فعلا مشاهد الإعدام؟ قلت: نعم. قال للضباط الموجودين: إياكم أن تُنشر. إنها قضية عالمية. وظل هناك حتى قصّ المختصون كل المشاهد المثيرة ولكن بعض الصور تسربت غلى خارج سوريا. (البعث 132).

يقول سامي الجندي: “علمت بعد شهور عديدة أن الرفاق تعودوا عادات جديدة, فأخذوا حين يملون رتابة حياة الآخرين, يذهبون إلى سجن المزة بكل وجوديتهم, فتفرش الموائد وتدار الراح ويؤتى بالمتهمين للتحقيق وتبدأ الطقوس الثورية, فيَفْتَنّون ويُبدعون كل يوم رائعة جديدة.. أظن الدولاب من اكتشافات آذار”.

من الغريب والمستهجن الذي تعاف سماعه النفوس أنهم وفي بعض الحالات, كانوا يضعون لاصقا على أفواه الضحايا الذين كانوا يساقون إلى المشنقة أو حقل الرمي, حتى لا يؤذي أسماعهم, عندما ينطق بالشهادتين..

أمثال هذه القصص لا تكاد تنتهي..

لم يتورع الانقلابيون أن يشملوا بإجراءاتهم تلك, الكثير من النساء, اللواتي اختطف بعضهن من الشوارع, أو من الجامعات والدوائر الحكومية.. كان يتم  ترهيبهن بالسجن والاغتصاب في أقبية التحقيق, فيما كان الأهالي والأقارب لا يجرؤون على السؤال عن مصير أبنائهم وأقاربهم، وبقي مصير الكثيرين مجهولا حتى اليوم.

سامي الجندي: “عندما أذكر القسم الذي أقسمناه, أن نحوله (يعني سجن المزة) إلى فندق سياحي أضحك بمرارة”.. “البعث” ص 102-103,

من المهم ان نذكر هنا أن ممارسات التعذيب تلك, كثيرا ما كانت تترافق مع سلوكيات طائفية تزيد من حدتها وبشاعتها.. كل الذين تعرضوا للسجن والاستجواب يذكرون أسماء زبانيتهم وأنهم وأن أكثرهم وأعنفهم كانوا من طوائف معينة, وأبعد من هذا أنهم كانوا يمارسون التعذيب والشتم بأساليب طائفية..

أكد هذه الحقيقة كثيرون, من بينهم سامي الجندي ومطاع الصفدي.. ولازال يؤكدها إلى اليوم آلاف السجناء الذين قُدّر لهم أن ينجوا من سجون الموت..

وسنرى في فقرات أخرى, عندما نتعرض للمسألة الطائفية, شهادات ونماذج كثيرة, للسياسة الطائفية المبكرة للسلطة, وفي مختلف المجالات, ومن مصادر بعثية, شغلت مناصب قيادية رفيعة, مثل, منيف الرزاز وسامي الجندي ومطاع الصفدي, وغيرهم من المصادر والشخصيات.

وقبل أن نختم هذه الفقرة لابد أن نذكّر بأن تاريخ الاغتيال السياسي في حزب “البعث” السوري يعود إلى تلك الفترة المبكّرة من وصوله إلى السلطة, عام 1963. حيث كانت تصفية المعارضين أو المنشقين أو حتى المختلفين مع الحزب، سياسياً، هي طريقة متّبعة بين قادة الحزب أنفسهم، فضلا عن خصومهم ومعارضيهم, وتجاوزت في عهد حافظ الأسد وابنه بشار كل الحدود المعقولة.

وكان من ضحايا الاغتيال السياسي المبكر, البرلماني والوزير الأسبق محمد سليمان الأحمد “بدوي الجبل”, الذي ينحدر من قرية ملاصقة لقرية حافظ الأسد، بعد اختطافه لأيام، مرمياً في أحد شوارع دمشق، عام 1967، وجد وهو ينزف, مصاباً بالرأس وبقية الجسم، ثم أسعف إلى إحدى المستشفيات. وبقي يعاني من آثار الضربات التي تلقاها على رأسه بآلة حادة، حتى وفاته.

وقد تم اغتيال العديد من ابناء محمد سليمان الأحمد وإخوته وذويه.

كما قام نظام حافظ الأسد، باغتيال اللواء محمد عمران، عام 1972 في لبنان. علماً أن عمران كان شريكا من ضمن آخرين، في انقلاب عام 1963 الذي مكّن لحافظ الأسد أن يصبح رئيسا في وقت لاحق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى