بحوث ودراسات

دور اليهود في إطلاق الحملة الصليبيَّة على المشرق الإسلامي 1 من 3

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

طالما صدَّقنا المظهر المسيحي الذي تستَّرت خلفه الحملة الصليبيَّة الأولى أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، واعتقدنا أنَّ تلك الحملة كانت تستهدف سيطرة المسيحيِّين الغيورين على دينهم، على البقعة التي تأوي مهد المسيح ومهده؛ غير أنَّ البحث في صفحات التاريخ أثبت خلاف ذلك. تراجع الأمير عن رأيه في كتابه الشهير الوحي ونقيضه (2006) في فصل بعنوان “الهدف أورشليم”، بخصوص توجُّه الحملات الصليبيَّة على العالم الإسلامي قديمًا وحديثًا. وكان هذا الرأي “الحملات الصليبيَّة القديمة كانت كاثوليكيَّة العُمق والمُحتوى هدفها الأرض المقدَّسة مسيحيًّا، المهد والقبر. أمَّا الحملات الصليبيَّة الجديدة فهي حملات بروتستانتيَّة عمقها ومحتواها يهودي وهدفها الأرض المقدَّسة يهوديًّا، الهيكل وجبله”. يشير الأمير في كتابه اليهود والحركات السريَّة في الحروب الصليبيَّة (2013) إلى إعادته النظر في ذلك الرأي بعد إدراكه أنَّ الحروب الصليبيَّة الجديدة “صورة طبق الأصل من أمِّها القديمة”؛ وطالما أنَّ الجديدة هي من تدبير اليهود ولخدمة أهدافهم، فالأمر ينطبق على القديمة (صـ5). وجد الأمير في قول الله تعالى في الآية 64 من سورة المائدة “وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”. فقد اهتدى إلى حقيقة أنَّ مَن يوقد نار الحرب هم اليهود، وليس المسيحيِّون؛ “والحرب الصليبيَّة هي أطول حرب عرفها الإنسان في تاريخه المكتوب، فكيف ينص عزَّ وجلَّ على أنَّ اليهود هم موقدو نيران الحرب ثم لا يكونون من خلْف أطولها وأعظمها؟!” (صـ7).

سبق وأن أشار الأمير في كتاب الوحي ونقيضه إلى أنَّ اليهود عادةً لا يظهرون في مقدِّمة الصفوف، بل وقد لا يظهرون من الأصل بين الجنود والقادة، لكنَّهم هم دائمًا الرأي المدبِّر، والمحرِّك الخفي لليد الباطشة. وبما أنَّ اليهود قد تشتَّتوا في بقاع الأرض بعد دمار دولتهم مرَّتين-قبل بعثة المسيح وبعدها-مصداقًا لقوله تعالى في الآية 168 من سورة الأعراف “وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”، فمن الطبيعي أنَّ تكون قارَّة أوروبا من بين بقاع الأرض التي لجأ إليها بنو يهود، وعاشوا وتناسلوا فيها، وتوارثوا عقائدهم الدينيَّة وتراثهم الباطني. واستغلالًا منهم لمرحلة الضعف التي ألمَّت بأمَّة الإسلام في القرن الحادي عشر الميلادي، وتشرذم الأمَّة، وسعي أبنائها وراء المال والنفوذ، راح اليهود يدبِّرون لحملة واسعة النطاق، يستعيدون فيها الأرض الموعودة.

بما أنَّ اليهود كانوا ممنوعين من سُكنى الأرض المقدَّسة، بمقتضى نصَّت عليه العُهدة العُمريَّة، لمَّا سمحت للمسيحيين وحدهم بالحياة على أرضها، ولكن شريطة “ألَّا يساكنهم فيها اليهود”، فقد كان الصَّليب، الذي هو في الأصل يعبِّر عن عقيدة الفداء للتكفير عن الخطيئة الأولى، والنَّابع من عقيدة القبَّالة، ستارًا اتَّخذوه لإخفاء حقيقة نواياهم. ويؤكِّد الدكتور بهاء الأمير أنَّ الحملة الصليبيَّة الأولى على العالم الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط كانت بتدبير عائلات يهوديَّة كبيرة هيَّأت الأجواء لاشتعال الحرب، من خلال افتعال أزمات اقتصاديَّة في أوروبا بسيطرتها على الاقتصاد. كان لتلك العائلات الدور الأكبر في إثارة الرأي العام، وحشد الجماهير؛ فشاركت البابا أُربان الثاني-الداعي إلى الحملة-في نشر الفكر المعادي للإسلام، وزرع البغضاء تجاه المسلمين، باعتبارهم يستولون على مهد المسيح ويدنِّسون قبره. استغلَّ اليهود آلة الدعاية على خير نحو، فأشاعوا أنَّ الحجَّاج الأوروبيِّين الوافدين إلى بيت المقدس يلاقون الإهانة والتحقير. من المثير للانتباه أنَّ المؤرِّخ الشهير وول ديورانت في كتابه الشهير قصَّة الحضارة (1935-1975) أنَّ الأتراك أساؤوا معاملة الحجَّاج الأوروبيِّين بعد انتزاعهم بيت المقدس عام 1070 للميلاد من الفاطميِّين، الذين لم يُشهد بإساءتهم للحجَّاج.

بما أنَّ الحملة الصليبيَّة الأولى قد استغلَّت وجودها في العالم الإسلامي بتوسيع نشاطها التجاري، وبما أنَّ اليهود هم أباطرة المال والتجارة على مرِّ العصور، فكان استعمار بلدان المسلمين في مصلحتهم. بالطبع، أسهم موقع العالم الإسلامي العربي في منطقة الشرق الأوسط في الربط بين تجارة أسياد المال في الشرق والغرب؛ فبسيطرة الغرب على تلك البقعة، أتيحت لهم أعظم فرصة لتأمين سفنهم التجاريَّة، وبسط سلطانهم على أسواق جديدة. يستشهد الأمير بما ورد في كتاب المسألة اليهوديَّة (1950)للصهيوني أبرام ليون عن الوساطة التجاريَّة لليهود، بأن وصفهم بـ “الوسيط التجاري الرئيس، ويكاد يكون الوحيد، بين الشرق والغرب” منذ القرن الثامن الميلادي. ويؤكِّد الكاتب البلجيكي هنري بيرين هذه المسألة في كتابه مُحمَّد وشارلمان-Mohammed and Charlemagne (1937)، بقوله أنَّ كلمة يهودي صارت مرادفة لكلمة تاجر؛ أي أنَّ التجارة كانت-ولم تزل-سمة اليهود الأساسيَّة.

ويعتبر نبي الله يوسف أوَّل من انتبه إلى نظرة إخوته من بني إسرائيل الماديَّة إلى الحياة، وانصباب اهتمامهم على المال والتجارة؛ ولعلَّ هذا ما يتجلَّى في الآية 62 من سورة يوسف “وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ“. كان يوسف على يقين بأنَّ هوس إخوته بالمال هو ما سيعيدهم إليه؛ وهذا بالضبط ما حدث، كما تروي لنا الآية 65 من نفس السورة “وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ”. قوي دافع بني إسرائيل للعودة إلى مصر بعد أن وجدوا بضاعتهم في رحالهم، فازداد حماسهم في إقناع أبيهم ليسمح لهم بأخذ أخيهم، فيزدادوا “ كَيْلَ بَعِيرٍ“، أي مزيد من المنفعة الماديَّة.

منظَّمة فرسان الهيكل: نشأتها ودورها

نشأت منظَّمة فرسان الهيكل في الأصل على الأرض المقدَّسة خلال فترة الاحتلال الصليبي، عام 1118 ميلاديًّا تقريبًا، واسمها الكامل الجنود الفقراء للمسيح وهيكل سليمان-The Poor Fellow Soldiers of Christ and Temple of Solomon. شكَّل تسعة من الفرسان الصليبيِّين نواة منظَّمة فرسان الهيكل/المعبد، وكان هدف تأسيسها حراسة طريق الحجِّ من يافا إلى أورشليم، وحماية الحجَّاج الوافدين من أوروبا. يشير الأمير إلى أنَّ الفرسان التسعة، نواة فرسان الهيكل، كانوا ينتمون إلى عائلة واحدة، ربطتهم علاقة المصاهرة، وأصلهم من فرنسا.

إلى جانب حماية أرواح الحجَّاج، تولَّى فرسان الهيكل مهمَّة حماية ممتلكات قاصدي الأرض المقدَّسة خلال فترات غيابهم الطويلة بسبب طول الطريق وصعوبة الانتقال. بدأ فرسان الهيكل بذلك عمليَّة الاستثمار في الأموال، والتجارة، والإقراض، وإدارة المزارع، وتربية الخيول. هكذا، “أصبح التنظيم قبلة الأعمال الخيرية في العالم المسيحي، حيث استقبل الهبات من الأموال والأراضي والأعمال والمتطوعين من أبناء العوائل النبيلة الذين تهافتوا على المشاركة في الحرب بالأراضي المقدسةوأدَّى هذا المزيج من التبرعات والتعاملات الماليَّة بالمحصلة إلى تحكم فرسان الهيكل في شبكة اقتصاديَّة بالغة القوة والاتساع في جميع أنحاء العالم المسيحي، فامتلكوا الأموال الطائلة، والمساحات الشاسعة من الأراضي في كل من أوروبا والشرق الأوسط، وكذلك امتلكوا المزارع وحقول العنب وتولوا إدارة غيرها وشيدوا الكنائس والقلاع والحصون كما عملوا في الصناعة والاستيراد والتصدير وامتلكوا أسطولهم البحري الخاص، حيث خضعت مدينة قبرص في فترة من الزمان بالكامل إلى سيطرة التنظيم. واستنادًا إلى ما سبق، يدرج بعض المفكرين تنظيم فرسان الهيكل على أنَّه أول شركة متعددة الجنسيات في العالم،” نقلًا عن موسوعة ويكيبيديا.

برغم ما حقَّقه فرسان الهيكل خلال مشاركتهم الجيوش الصليبيَّة في الحروب من انتصارات، أفل نجمهم بمجرَّد ظهور القائد الكردي المسلم صلاح الدِّين الأيُّوبي أواخر القرن الثاني عشر الميلادي. وبعد أن توالت هزائمهم، أُجلوا بالكامل عن ديار المسلمين عام 1291 ميلاديًّا، أربعة أعوام بعد هزيمة الصليبيِّين في معركة حطِّين عام 1187 ميلاديًّا.

يكشف الأمير عن الأهداف الفعليَّة لمنظَّمة فرسان الهيكل، كما أعلن عنها صراحةً حبر الماسونيَّة الأعظم ألبرت بايك في كتابه عقيدة الطقس الأسكتلندي القديم وآدابه-Morals and Dogma of Ancient Scottish Rite of Freemasonry (1872)، تتلخَّص في:

1-إعادة بناء الهيكل المنسوب إلى نبي الله سليمان، وفق وصفه التفصيلي في أسفار العهد القديم؛

2-القضاء على الكاثوليكيَّة، والعودة إلى التعاليم المسيحيَّة الأولى، التي وضعها القدِّيس يوحنَّا المعمدان، والذي يصفه بأنَّه “الأب الروحي والنموذج الأعلى لكلِّ الحركات الغنوصيَّة، التي تؤمن أنَّ خلاص البشر في المعرفة والأفكار وليس في مُطلق الإيمان، وهي الحركات التي يمتزج فيها نموذج يوحنَّا المعمدان بالتراث الشفوي اليهودي الباطني، وما يضمُّه من حِكم ومعارف وأسرار، وهو التراث المشهور باسم القبَّالة.” يعترف ألبرت بايك بأنَّ الماسونيَّة هي الوريث الشرعي والامتداد الطبيعي لمنظَّمة فرسان الهيكل.

يتَّفق مؤرِّخو الحركات السريَّة مع المؤرِّخين التقليديِّين في أنَّ اسكتلندا وفَّرت لفرسان الهيكل منذ نشأة حركتهم ما توفِّره لهم أيُّ دولة أخرى. بل، ويُعتقد أنَّ اسكتلندا هي مهد الماسونيَّة، وما يثبت ذلك أنَّ الطقس الأسكتلندي هو أقدم طقس. وربَّما يرجع السبب في ذلك إلى عدم خضوع اسكتلندا لسلطان كاثوليكيَّة روما. 

يُذكر أنَّ فرسان الهيكل انبثقت عنها منظَّمة مستقلَّة باسم فرسان الاسبتاريَّة-Knights Hospitaller، لعبت دورًا بارزًا خلال الحملات الصليبيَّة في تقديم الخدمات الطبيَّة، باعتبارها مؤسَّسة خيريَّة إنسانيَّة. اكتسبت تلك المنظَّمة بعد انتهاء الحملات الصليبيَّة أدوارًا أخرى، وتطوَّرت إلى أن صارت تُعرف اليوم بمنظَّمة فرسان مالطا.

الحملة الصليبيَّة من منظور سينمائي: فيلم “الناصر صلاح الدِّين” أم “ضد المسيح”؟

قدَّمت الشاشة المصريَّة عام 1963، من إخراج مصري مسيحي كاثوليكي وإنتاج لبنانيَّة مسيحيَّة مارونيَّة، فيلمًا يتناول الحملة الصليبيَّة الأولى على العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، ويرصد بالذَّات الحملة الصليبيَّة الثالثة، التي بدأت بعد انتصار المسلمين في معركة حطِّين، باسم الناصر صلاح الدِّين. يدور الصراع في الفيلم بين فريق المسلمين-أو العرب، كما يُوصفون خلال الأحداث، ولا يُوصفون بـ “المسلمين” إلا للاستهزاء، باعتبارهم نموذج للوحشيَّة-ويتزعَّمه صلاح الدين الأيوبي ومعاونه عيسى العوَّام-الذي يُقدَّم على أنَّه مسيحي، بخلاف الحقيقي-وفريق المسيحيِّين، وعلى رأسه ملك إنجلترا-ريتشارد قلب الأسد-وملك فرنسا-فيليب أوغست. ينضم إلى فريق المسيحيِّين شخصيتان نسائيتان في غاية الأهميَّة، وإن لم يكن لهما أي حقيقة تاريخيَّة؛ الأولى هي فرجينيا-أميرة صليبيَّة، وأرملة أرناط، أو رينالد دي شاتون-والثانية هي لويزا، رئيس فريق الاسبتاريِّين. بينما تمثِّل فرجينيا منظَّمة فرسان الهيكل وتنظيماتها العسكريَّة الطامحة إلى معاودة السيطرة على الأرض المقدَّسة-أو أورشليم، الاسم التوراتي الذي اختاره مخرج العمل-تمثِّل لويزا منظَّمة فرسان الإسعاف، المعروفة بفرسان الاسبتاريَّة.

تجدر الإشارة إلى أنَّ رينالد دي شاتون لم يثبت زواجه من امرأة تُدعى فرجينيا، كما أنَّه عند وفاته عام 1187 للميلاد كانت زوجته كونستانس، أميرة أنطاكية، قد رحلت قبل أكثر من 20 عامًا. إذًا، فمن هي فرجينيا؟ ولماذا هذا الاسم؟ على أيِّ حال، فرجينيا-يعني العذراء-هو اسم ولاية أمريكيَّة، أُطلق عليها تيمُّنًا بإليزابيث الأولى، ملكة إنجلترا العازفة عن الزواج، التي شهد عصرها توسُّعًا استعماريًّا كبيرًا في أمريكا الشماليَّة، والتي أدخل أبوها-الملك هنري الثَّامن-المذهب البروتستانتي إلى إنجلترا، وانطلق منها إلى المستعمرات الجديدة في أمريكا. وتعتبر ولاية فرجينيا صاحبة الدور الأكبر في الثورة الأمريكيَّة، حيث كانت من أوائل الولايات المنشقَّة عن الحكومة البريطانيَّة. ويؤكِّد بهاء الأمير في كتاب اليهود والحركات السريَّة في الحروب الصليبيَّةأصول الولايات المتحدة وتكوينها واستقلالها ودستورها وأفكارها ومسارها شرفٌ يتنازعه الماسون” بفرعيهم الأسكتلندي والإنجليزي (صـ110). يُذكر كذلك أنَّ ولاية فرجينيا هي موطن جورج واشنطن-أوَّل رؤساء أمريكا-الماسوني من درجة العقد الملكي في الطقس الأسكتلندي، وقد نُصِّب رئيسًا لأمريكا في احتفال ماسوني. ويوجد في ولاية فرجينيا نصبٌ تذكاري ماسوني قومي للرئيس واشنطن، وقد بُني على طراز منارة الإسكندريَّة القديمة.

نُصُب تذكاري لجورج واشنطن

ولاية فرجينيا هي أيضًا موطن توماس جفرسون، وهو ثالث رؤساء الولايات المتحدة الأمريكيَّة ومن آبائها المؤسِّسين-Founding Fathers، وطالما اشتُبه في علاقته بالماسونيَّة. إن لم يثبت انضمام جفرسون إلى الماسونيَّة، فمن المؤكَّد انضمامه إلى منظَّمات أخويَّة تقوم بنفس مهام الماسونيَّة.

تلعب فرجينيا دورًا بارزًا خلال أحداث الفيلم، يتجلَّى في إثارة ملوك أوروبا ضدَّ صلاح الدين بعد معركة حطِّين، فاستخدمت مع كلٍّ الطريقة التي تناسب شخصيته، كما أظهرها المخرج. فمع فيليب أغسطس، ملك فرنسا، لوَّحت فرجينيا بسلاح المال والنفوذ؛ فأغرته بـ “كنوز الشرق”. وبسؤالها عن منفعتها، تقول فرجينيا “بعد طرح صلاح الدين، لابد وأن يحتاج مولاي الملك إلى نائب على عرش أورشليم، وأنا في خدمة مولاي ملك فرنسا“.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

أمَّا مع ملك إنجلترا، ريتشارد قلب الأسد، فلعبت الأميرة الصليبيَّة على وتر تدنيس المسلمين للمقدَّسات المسيحيَّة واستلائهم على قبر المسيح. فجاء رد الملك “من جديد يعود عصر الشهداء؛ لن تغرب الشمس على غرسكم. لن يملك العرب أورشليم وفي العالم المسيحي فارس اسمه ريتشارد قبل الأسد.” يعني ذلك، تلوُّن تلك المرأة بحسب إملاءات الظروف، تحقيقًا لهدفها، وهو الاستيلاء على بلاد المشرق الإسلامي لتحقيق المنفعة، البعيدة تمامًا عن المظهر الديني للحملة. إلى جانب اختلاق شخصيَّة فرجينيا عديمة الوجود تاريخيًّا، أسند الفيلم لحليفيها-كونراد من مونفيراتو وآرثر الأول دوق بريتاني-دورين لا أصل لهما في الحقيقة.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

وتأتي لويزا على النقيض التام من ذلك؛ فهي فارسة شجاعة، لا تعبأ بالمال. يتجلَّى الفرق بين الشخصيَّتين حينما تلوِّح فرجينيا أمام عيني لويزا بجوهرة أهداها كونراد من مونفيراتو-نبيل إيطالي شارك في الحملة الصليبيَّة الثالثة-فتقول لويزا “هذه الأمور لا تعنيني”.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

يدور بين فرجينيا وبين ملك فرنسا حوارٌ يكشف عن استعدادها لفعل أيِّ شيء يحقِّق غاياتها، حتَّى التآمر ضدَّ حليفها-ملك إنجلترا. يشعر ملك فرنسا بالضيق بسبب قرار ريتشارد قلب الأسد عقْد هدنة لمدَّة 6 أشهر، فتخبر فرجينيا بكيفيَّة تدارُك الأمر:

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

ملك فرنسا: لابد أن تستمر الحرب؛ لابد من منع الهدنة بأيِّ شكل، وإلَّا، وإلَّا…

فرجينيا: لو أنَّنا منعنا رسل ريتشارد من الوصول إلى صلاح الدين…

ملك فرنسا: رسل ريتشارد الآن في طريقهم إلى صلاح الدين.

فرجينيا: من الممكن تدارك الأمر عند رجوعهم من عنده.

ملك فرنسا: في هذه الحالة، لن يصلوا إلى ريتشارد، ولن تكون هناك هدنة.

فرجينيا: فرسان المعبد (الهيكل) مستعدون لعمل أيِّ شيء ضدَّ مَن يعطِّ الحرب المقدَّسة، حتَّى القتل نفسه.

تتعرَّض فرجينيا أثناء القتال إلى الحرق، عند سقوط أحد أبراج الحماية الصليبيَّة عليها.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

تُجبر فرجينيا على الرجوع إلى الحقِّ، والاعتراف بارتكاب الآثام في سبيل تحقيق السيطرة على الأرض المقدَّسة.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

 وحينما تريد الاعتراف إلى لويزا، “الشيء المسيحي الوحيد هنا“، كما وصفتها، يكتم آرثر أنفاسها كي تموت الحقيقة معها. تعتبر فرجينيا بذلك بمثابة “ذبيحة الخطيَّة”، الوارد ذِكرها في الآية 17 من الإصحاح 19 في سِفر العدد “فَيَأْخُذُونَ لِلنَّجِسِ مِنْ غُبَارِ حَرِيقِ ذَبِيحَةِ الْخَطِيَّةِ وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ مَاءً حَيًّا فِي إِنَاءٍ”؛ تُحرق تلك الذبيحة، ويُأخذ رمادها للتطهُّر من الآثام. يعني ذلك، أنَّ فرجينيا ضحية بذلت حياتها في سبيل تحقيق غاية قومها.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

تنتهي الحملة فانتصار المسلمين، وجلاء القوَّات الصليبيَّة، لكنَّ لويزا تقرر البقاء. يغمد قلب الأسد سيفه، ويودِّع صلاح الدين.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

 يقول ريتشارد قلب الأسد للويزا عند وداعها “أتمنى أن يكون بيت لويزا مفتوحًا لي عند عودتي إلى أرض أورشليم حاكمًا“.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

يمضي ريتشارد، وسط دقَّات أجراس الكنائس، الذي يصاحبه نداء لويزا “عيسى، عيسى، عيسى“. حينها، يفترق العوَّام عن السلطان صلاح الدين، الذي يقول له “القائد عيسى يمكنه الانصراف”. يعطي عيسى ظهره للسلطان، فيمضي كلٌّ في طريقه.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

ينطلق العوَّام-المسيحي الشرقي-ليعانق لويزا-الكاثوليكيَّة الأوروبيَّة-ويلتحم معها وسط أغصان الزيتون، تمامًا مثل التحام يهوه والشخيناه عند عودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة وجع شتاتهم من بقاع الأرض. يحمل العوَّام ولويزا معًا بذرة العالم الجديد، عالم الأمن والسلام، بارتباط ستعمِّر ثمرته أورشليم. عيسى العوَّام هو بالطبع الأب الروحي للماشيح، الذي سيظهر بعد انتهاء الصراع الطائفي بين أهل الكتاب، تمامًا مثل انتهاء صراع العوَّام ولويزا.

من فيلم النَّاصر صلاح الدِّين

تمثَّل لويزا نموذج الوداعة والالتزام بتعاليم الكتاب المقدَّس، وتنبذ العنف والقتل؛ أمَّا فرجينيا، فتفعل كلَّ ما بوسعها لتحقيق النفوذ. تستحق لويزا بذلك البقاء في أورشليم، لكنَّ فرجينيا تنتهي مهمَّتها وتموت شهيدة الاعتراف بآثامها. تتلخَّص رسالة الفيلم في أنَّ الجماعات السريَّة التي تمثِّلها فرجينيا تتعرَّض للتشويه كي تحمل هي آثام تحقيق الغاية الكبرى، وهي السيطرة على الأرض المقدَّسة، فيتوهَّم المسلمون بأنَّ هذه الفئة هي عدوَّهم الحقيقي، لا غيره. بيد أنَّ منظَّمة فرسان الإسعاف-رمز اللين والرفق والعون والبر-التي تمثِّلها لويزا هي في الأصل منبثقة عن فرسان الهيكل! تذكِّرنا هذه الحيلة بمحاولة إعلاميَّة خبيثة تسعى إلى ادِّعاء أنَّ فئة الصهاينة والماسون لا تمثِّل حقيقة اليهود، وأنَّ هناك فئة منهم غير راضية عمَّا يحدث على أرض فلسطين. ولا شكَّ في أنَّ طرح معلومات-مكتوبة ومرئيَّة-تسيء إلى الصهيونيَّة والماسونيَّة من أهدافه حصر العداء في الصراع العربي-الإسرائيلي مع هاتين الفئتين، فيظنَّ البعض أنَّ باختفاءيهما من المشهد سينتهي الصراع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى