بحوث ودراسات

ثورات الربيع العربي ومستقبل المنطقة 5 من 5

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

وأن التجديد في الفقه وفق تطورات الحياة أمر صحي ومطلوب، علمًا أنّ دولنا لا تحكم بالشريعة، ولم يبق منها إلاّ الأحوال الشخصية وقد نالها الكثير من التغيير، والإسلام جاء هادمًا للدولة الدينية “الثيوقراطية ” والدولة في الإسلام بشرية ضابطها الشرع، ولا يوجد فيها الحاكم الإله أو نصف إله أو ظل الله على الأرض، ولا توجد سلطة للمسجد، ولا يوجد فيها رجال دين. وحين نتحدث عن تجديد محمود ومطلوب ومعوقات ذلك فقد بين ذلك سيد سابق في كتابه فقه السنة: وبالتقليد والتعصب للمذهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنَّة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعًا لا يوثق بأقواله، ولا يعتد بفتاويه. وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية، ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب. والانصراف عن الاجتهاد؛ محافظة على الأرزاق التي رتبت لهم! وبالعكوف على التقليد، وفقد الهداية بالكتاب والسنة، والقول بانسداد باب الاجتهاد وقعت الأمة في شر وبلاء ودخلت في جحر الضب الذي حذرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منه. كما من آثار ذلك أن اختلفت الأمة شيعًا وأحزابًا. [1]

لقد تمخضت الأحداث عن أمرٍ جلل يكمن في أنّ ثمة تصحّرًا سياسيًا عانى منه الشعب العربي ما أدى إلى أن تكون ثوراته الشعبية دون رأس ودون قيادة، وحين ثار على الاستبداد لم تكن الأحزاب التقليدية حاضرة في ثورته ولا في وجدانه، بل نظر إلى أن المعارضات هي ديكور يصنعه الحاكم المستبد الذي يستمد شرعيته من القوى العظمى وليس من شعبه كي تلعب تلك المعارضات دور “المحلل” للحاكم المستبد حالها كحال البرلمانات التي يتم تعيين أعضائها بموافقات أمنية، ولها مهام التصفيق وتبرير ما يريده النظام.

فضلًا عن التجريف المعرفي الذي تعرضت له هذه الشعوب، واختلط لديها مفهوم الدولة بالنظام، والنظام بالحاكم، ولم تعد تميز بين الحكومة والدولة.

حيث تحرصُ النظمُ الدكتاتورية على جعل المواطنين في صراعٍ طبقي واجتماعي، حيث يبتلعُ النظامُ الدولةَ، ويشيعُ وهمًا بين الناس أنّه الضامنُ لبقائها، وأنّ غيابه يعني الفوضى أو الصراع أو الاحتراب المجتمعي أو التقسيم! ولهذا تغيبُ ثقافةُ المواطنة لتحل مكانها ثقافةٌ أخرى تسمى (وطنية الدكتاتور) وأنّ أسوأ ما تخشاه تلك الأنظمة هو الوعي الذي يقودُ إلى الفصلِ بين النظامِ والدولة، وإشاعة ثقافة المواطنة.

ولعل هذا الواقع قد ساهم في تقويض الثورات العربية وعدم السماح لها بأن تبني دولًا نموذجية، حيث غاب الحامل الحقيقي لها وهي النخب الفكرية والسياسية، حيث تبين أنّ كثيرًا من النخب كانت نخب أنظمة بعد كان يظنها الناس أنّها نخب اجتماعية أو شعبية!

لكن هذه المآسي التي حلّت بشعوب الثورات قد صنعت وعيًا جديدًا، وهذا ما يبشر بثورة أخرى هي الثورة الحقيقية المنتظرة، فالثورة كانت موجةً ثورية أولى بعد أن فهمت الشعوب الواقع جيدًا، وبدأ يتشكل تيار جديد أو لنقل تلتقي على أفكار جديدة، ومنها دور الأنظمة الوظيفية في تثبيت البناء الرسمي العربي، والجيوش المكلفة بسحق الشعوب ونهب خيراتها، وحماية الكيان الصهيوني، كذلك الدور الإيراني في المنطقة الذي تبيّن أنّها – أي إيران – ذراعٌ خشن لأمريكا ولها دورٌ خطير في المنطقة لاسيما في القتل والتدمير والتهجير وكسر الحاجز النفسي بين العرب والصهاينة، وتحويل وجهة الصراع من صراع مع الصهاينة إلى صراع سني شيعي، أو صراع عربي فارسي!

ولهذا لابدّ من القول: إننا أمام مرحلة تخطّت فيها الأحزاب التقليدية، وباتت بحاجة لأفكار سياسية جديدة ومراجعات مختلفة، وأن ننظر بعين الاعتبار لتجربة نجم الدين أربكان فقد غيّر اسم حزبه أربع مرات ولم يجمد عند اسم الحزب أو يعدّ الحزب غاية بل وسيلة، وأن نبتعد عن الخصومة التقليدية بين الأحزاب القومية والأحزاب الإسلامية، فقد كان اجتثاث الفكر القومي في العراق مطلبًا إيرانيًا وغايةً أمريكية، وقد كان اقتلاع الإخوان في مصر مطلبًا صهيونيًا أمريكيًا، وهذا يعني أنّ الفكرين أو التيارين هما الأضخم في عالمنا العربي، ويمكن أن يلتقيا برؤية جديدة، وربما في تحالف كما يحصل الآن بين الحركة القومية في تركيا وحزب العدالة والتنمية، كما أن مفهوم الدولة الوطنية يجب ألاّ يبقى ضبابيًا في التيارين أو ربما عدميًا عند بعض منتسبي التيارين، ولابدّ من البحث عن الدولة النموذج التي تكون جاذبة لتحقيق فضاء عربي أو عربي إسلامي على غرار الاتحاد الأوربي مع الحفاظ على مرتكزات الدولة الوطنية.

الخاتمة والنتائج:

في ختام هذه الدراسة تبين لنا أن الثورات في العالم العربي هي ثورة واحدة، أسبابها ومسبباتها واحدة، وأنّ بقية البلاد التي لم تتحرك جماهير مرشحة وبقوة لذلك، والدليل الجزائر والسودان، وأن الأنظمة العربية التي سقطت لم تسقط فعليًا بل سقطت فيها الرؤوس الضعيفة في الدول التي تملك دولًا عميقة “كمصر” فهي في واقعها الحديث نتاج دولة محمد علي، واستطاعت هذه المنظومة إعادة انتاج نفسها برأس جديد وشكلت موجة ارتدادية على الثورة الحقيقية، والدول التي كانت نتاج التقسيم الحديث “كسورية” والتي تغيب عنها الدولة العميقة فقد كانت مهمة النظام الطائفي تدمير الدولة وأن تسقط بسقوطه وربما تتحول إلى دويلات أو دولة فاشلة تكون فيها الأطراف أقوى من المركز.

وأنّ أمريكا لم تكن مع الثورات العربية بالمطلق، بل مارست خداعًا استراتيجيًا على الجماهير العربية، وتعاملت مع كل ثورة على حدة، فقد كانت الدولة العميقة في مصر وتونس قادرتين على إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، بينما دعمت النظام الطائفي في سورية بالبقاء وأمدته بأسباب القوة وسمحت لأطراف إقليمية ودولية بمساعدته والحرب معه، في حين منعت السلاح النوعي عن السوريين، وتذرعت بأن مجلس الأمن معطل بسبب الفيتو الروسي الصيني، وهذه كذبة ممجوجة فقد كانت تستطيع نقل الملف إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة على أساس “الاجتماع من أجل السلم” تأسيسًا على الحالة الكورية.

هددت الثورات العربية البناء الرسمي العربي الذي بنته بريطانيا وفرنسا، وحافظت عليه أمريكا، وهذا يعني أن أمن الصهاينة بات في خطر، وتبين أن الجيوش العربية لم تكن جيوشًا وطنية بل جيوش وظيفية لها مجموعة من المهام منها الحفاظ على التقسيم، ومحاربة الديمقراطية وحماية الصهاينة، وأن حل الجيش العراقي على يد أمريكا وبناء آخر مليشياوي لأنه كان جيشًا وطنيًا وهذا يخالف المنطق الأمريكي، ويشكل خطرًا على الصهاينة.

اتضح من خلال هذه الدراسة أن إيران ذراع خشن لأمريكا وثمة اتفاق بينهما يقضي باستخدامها في القتل والتهجير وصناعة التغيير الديمغرافي والاحتراب المجتمعي، وخلصت الدراسة على أنّ ما جرى من مآسٍ كان بسبب تحالف أنظمة الثورات المضادة مع الدول العميقة أو منظومة الفساد برضاء أمريكي وطلب صهيوني بتحويل الربيع إلى جحيم، وتخويف شعوب الدول التي لم تثر بمصير مشابه للشعوب الثائرة، وقد اُستغِلَّ التنظيم الإرهابي المخابراتي “داعش” في تشويه الإسلام وكذلك في إنقاذ النظام الطائفي في سورية وكذلك العراق، وإن التجديد الذي تتبناه مؤسسة راند وتصرف عليه دول عربية وقد جنّدت له عددًا من المحسوبين على الإسلام ليس هو التجديد الذي نريده ونطالب به بوصفه سنة ربانية، فقد استخدم لضرب الإسلام والتشكيك بثوابته ولم يكن في الفروع بل كان في الأصول.

هذا ما وصلنا إليه فإن أصبنا فمن الله وإن جانبنا الصواب فمن عند أنفسنا.


[1] سيد سابق، فقه السنة ص 10 المجلد الأول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى