مقالات

طبول الملحمة

محمد علي صابوني

كاتب وباحث سياسي.
عرض مقالات الكاتب

إذا أردنا معرفة حقيقة ما يجري اليوم في المنطقة وما يحضّر لها ، علينا بدايةً أن لا نفصل ذلك عما جرى من أحداث تاريخية هامة بين الأطراف المتداخلة في الساحة السورية والتي تحولت في الآونة الأخيرة على ما يبدو إلى ساحة لتصفية تلك الحسابات التأريخية القديمة شئنا أم أبينا ، بالرغم من ادعاء معظم الأطراف بعكس هذه المؤشرات التي تستند إلى حقائق تاريخية موثقة .!
ويخطئ من يعتقد اليوم بعدم وجود تنسيق بين الأطراف التي تحاول استفزاز تركيا وتوريطها أكثر بالصراع الدائر في سورية بغية إضعافها تمهيداً لإنجاز ما عجزت عن إنجازه محاولة تموز الفاشلة عام 2016 ، وقبل ذلك محاولات الدول الأوربية “ترويض” تركيا وسلخها عن دينها وثقافتها ومحيطها ثمناً لقبول انضمامها إلى الاتحاد الأوربي .
قد يظن البعض من غير المهتمين بسبر أغوار التاريخ أن التنافس (الروسي – التركي) أو (الإيراني – التركي) أو (الأوربي – التركي) أو (الأمريكي – التركي) ((غير المعلن رسمياً حتى الآن)) هو وليد قيام الثورة السورية ، أو أنه متعلق فقط بالجغرافية السورية أو بالموقف السياسي من النظام الحاكم فيها ، ولكن في حقيقة الأمر هذا ليس بصحيحٍ ، فالصراع قديم ووجودي ، والمطّلع على التاريخ العثماني يعلم جيداً بأن ضربات الصفويين في الماضي لخاصرة الدولة العثمانية أجبرت الأخيرة على فك الحصار عن “فيينا” والعودة ثانية لبلاد الشرق ليضيع حلم الخلافة العثمانية بفتح أوروبا ، الأمر الذي دفع أحد كبار مؤرخي الغرب لأن يقول ((لولا خيانة الصفويين للخلافة العثمانية وضربها من الخلف لاستولى العثمانيون على أوروبا كلها ، ولتحولت إلى قارة إسلامية))
وفي هذا المقام لا يمكننا إلا إن نعرج أيضاً على التنافس الروسي التركي “الجيوسياسي” والاقتصادي والعسكري والذي يعود أيضاً إلى حقبٍ تاريخية قديمة ، ويمكن الاطلاع عليها وإيجازها من خلال استعراض الحروب التي جرت بين الدولة العثمانية من جهة وبين “القيصرية الروسية” وحلفائها من جهة أخرى ، والتطرق بعجالة إلى أهم تلك الحروب :

● حرب أوستراخان: {1568 ـ 1570}: تُعتبر أولى الحروب لأسباب جيوسياسية بين الدولة العثمانية والقيصرية الروسية و “أوستراخان أوبلاست” هي مدينة روسية، كانت في السابق تابعة لولاية القرم والتي تتبع لولاية الدولة العثمانية، ولكن في عام 1568 قامت القيصرية الروسية بالاستيلاء عليها وضمها إلى حكمها .

● حرب موسكوف:{ 1681}: بدأت الحرب بعد سعي القيصر الروسي “ألكسي الأول” توسيع رقعة دولته متجهًا نحو الجنوب أي نحو “أوكرانيا” و “رومانيا” اللتان كانتا تخضعان للحكم العثماني، تقدم “ألكسي” بجيشه نحو الجنوب والتقى الجيش العثماني بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 1681، في منطقة موسكوف المُحصنة بقلعة “شَهرِين” في “أوكرانيا” .
احتدمت الحرب بين الطرفين، وفي نهاية الحرب استطاع الجيش العثماني الانتصار على “ألكسي” وجيشه، ووقّع الطرفان “معاهدة شهرين” التي تقضي بانسحاب الجيش الروسي من كافة المناطق التي سيطر عليها.

● حرب 1686 ـ 1700: اندلعت هذه الحرب بعد عقد الدول الأوروبية “الاتفاق المُقدس” ضد الدولة العثمانية التي قامت بمحاصرة فيينا عام 1686،حيث انضمت القيصرية الروسية إلى الحرب طمعًا في السيطرة على منطقتي “أزاك” و “القرم” المُطلتين على البحر الأسود .. انتهت تلك الحرب عام 1700 وخلال هذه الحرب استطاعت القيصرية الروسية السيطرة على منطقة أزاك وقبلت الدول العثمانية توقيع “اتفاقية سلام” عام 1700.

● حرب برود {1710 ـ 1711}: أولى الحروب “الجيوسياسية الدينية” التي قامت بها القيصرية الروسية، حيث سعت إلى ضم المناطق الأرثوذكسية الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية إلى حكمها من خلال تحريضها على الدولة العثمانية.
اتجهت روسيا عام 1710 نحو روسيا البيضاء والسويد، بعد هروب ملك السويد كارل السابع المعترض على التدخل الروسي نحو الأراضي العثمانية، حيث كتب رسالة استغاثة إلى السلطان العثماني “أحمد الثالث” الذي قام بدوره بإرسال جيش ضخم على الفور، فاستطاع الجيش العثماني صد الاعتداء الروسي، واضطر الجيش الروسي العودة إلى حيث أتى، وانتهت الحرب بنصر مُظفر لصالح الدولة العثمانية.

● حرب النمسا {1735 ـ 1739}: بدأت هذه الحرب بعد توقيع النمسا اتفاقية تعاون مع روسيا لاحتلال بعض مناطق البلقان، استمرت الحرب لأكثر من أربع أعوام، ولكن في نهاية المطاف تُوج الجيش العثماني بالنصر وطرد الجيش الروسي وفي تاريخ 18 أيلول/ سبتمبر 1739 اضطرت النمسا إلى توقيع “اتفاقية بلغراد للسلام” مع الدولة العثمانية.

● حرب 1768 ـ 1774: لم تتراجع القيصرية الروسية أبدًا عن أطماعها الجيوسياسية، وكان الهدف من هذه الحرب ضم أوكرانيا والقرم إلى سيطرتها ، و كان الجيش الروسي أكثر قوةً واستعدادًا من الجيش العثماني، لذا مُني الجيش العثماني آنذاك بهزيمة موجعة مكنت القيصرية الروسية من ضم القرم والمناطق الجنوبية لأوكرانيا فوجد السلطان العثماني عبدالحميد الأول أن من الصعب الانتصار على الجيش الروسي حينئذٍ لذلك قبل في 21 تموز/ يوليو 1774 التوقيع على “اتفاقية كوتشوك كاينارجا” التي تقضي بقبول الدولة العثمانية ضم روسيا لتك المناطق.

● الحرب العثمانية النمساوية (1788 – 1791)
هي حرب اندلعت في فبراير من عام 1788 والتي امتدت حتي 4 أغسطس من عام 1791 وذلك بين الدولة العثمانية من جانب ومملكة “النمسا” تحت حكم عائلة هابسبورغ المتحالفة مع الروس من جانب آخر ويشار إليها ايضا باسم “الحرب الهابسبورغية العثمانية” أو الحرب النمساوية التركية وانتهت الحرب بنتائج غير حاسمة لكلا الطرفين مع توقيع “معاهدة زيشتوف” بينهما

● حرب 1828 ـ 1829: السبب الرئيس لهذه الحرب هو قيام القيصرية الروسية بدعم الاستقلال اليوناني عن الدولة العثمانية، حيث حاول “السلطان محمود الثاني” أنذاك القضاء على العصيان اليوناني وداعمه الأساسي “القيصرية الروسية” ، لكن الوضع الاقتصادي المتدهور الذي كانت تمر به الدولة العثمانية، حال دون تحقيق السلطان محمود الثاني مأربه، وفي 19 سبتمبر 1829 اضطر محمود الثاني إلى توقيع “اتفاقية أديرنه” التي قبل من خلالها استقلال اليونان ووجود أسطول روسي على السواحل اليونانية.

● حرب القرم {1853 ـ 1856}: حرب تمت بعد الاتفاق الذي عقد بين الدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا ومملكة سردينيا وكورسيكا، وكان يهدف إلى طرد الأسطول البحري الروسي من البحر الأبيض وبحر قزوين، وفي نهاية الحرب تمكنت الأطراف المتحالفة من طرد روسيا من البحر الأسود ولكنها لم تستطع طردها من بحر قزوين وأبقت القيصرية الروسية على القرم خاضعة لها.

● الحرب “المقدسة” : {1877 ـ 1878}: انطلقت الحرب بعد إعلان القيصر الروسي “الإسكندر الثاني” الحرب “المقدسة” على الدولة العثمانية، وهذه الحرب هي أهم الحروب الجيوسياسية بين الدولة العثمانية والقيصرية الروسية، والف الأساسي من هذه الحرب هو إعلان “القيصرية الروسية” نفسها على أنها “الحامي الديني” للمواطنين المسيحيين المُقيمين تحت سيادة الدولة العثمانية وخاصة في المناطق البلقانية وفي لبنان وبعض المناطق السورية، لكن لم تتمكن القيصرية الروسية من تحقيق ماترنو إليه وذلك بسبب مواجتها لمقاومة عثمانية عنيفة.

نستنتج مما سبق ذكره بأن الخلاف التركي الروسي أو التركي “الفارسي” أو التركي “الغربي” ، ربما يكون قد خمد لسنوات أو مرّ في حالة من السّبات ، لكن الثابت والمؤكد أنه لم ينته ولم يتلاشى ، فهو خلاف مصيري وجودي وهذا النوع من الصراعات لا يمكن أن يسقط بالتقادم ، أو أن يُمحى بمرور الزمن .
فهل آن الأوان اليوم لكشف الأقنعة وإعلان الأهداف الحقيقية من هذه الحرب ؟
أم أنها لا زالت في طور التمهيد والإرهاصات التي تسبق قرع طبول الملحمة ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى